الجمعة، 21 يونيو 2024

أنا لا أتهكم!

أنا لا أتهكم، أنا أفعل فقط ما أرى أنه من اللائق فعله، لذا فهو ببساطة الشيء الذي ينبغي أن يحدث. صحيح أنني أتشبث بالإشارات التي تتولد فجأة والتي تدل على فرصة ما ينبغي استغلالها لتوظيف مكونات معينة من خبرة الضحك النشطة في ذاكرتي والتي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى إنتاج لحظة مرح مشحونة بطاقاتها الساخرة، ولكن لدي في المقابل ما يدعم فكرة أن هذا الناتج سيكون دفاعًا عما أعرفه أنا عن التهكم أكثر من أي شيء آخر.

أعرف أنه ربما توجد أرضية هائلة مشتركة بين البشر تتجاوز حدود المكان والزمان واللغة والثقافة تتسق فيها أفكارهم عن الدعابة، ولكنني لست متأكدًا من أنه من الصحيح التورط في الإيمان بأن التهكم الحق ينبغي أن يحقق انتماءه لهذا المنجز. بالعكس، قد تؤدي المبالغة في اليقين به إلى تفريغه من عناصر الدهشة والتوتر بل والحساسية المتوهجة للصدم المربك والممتع، وعلى هذا لا أجد مانعًا من القول بأن الهاجس المتجدد والمتواصل لتفادي الانحياز لتجارب التهكم الإنسانية السابقة هو الأساس البديهي الذي يضمن للسخرية أن تواصل تشييد وجودها كمطلق أزلي لا يواجه مشكلة ما تتعلق بخلوده.

التهكم لا وجود له كالجدية تمامًا، وهذا ليس لشيء أكثر من أنني وأنا مغمض العينين لا أستطيع فرض قناعاتي على الكون باعتبارها قانونًا. هذه القناعة هي محض أنا، وهي بالتالي تستحق عدم احتياجها لمبرر، لكن في نفس الوقت هذا ما ينطبق على الآخر الذي من الوارد طبعًا ألا أعترف بتهكمه أو بجديته مثلما يستطيع أن يمارس هو نفس الأمر بدقة. هل ما أكتبه الآن يعد رغبة في تخطي التعريف؟ بالفعل، ولكن لأؤكد على أنني أفعل فقط ما أرى أنه من اللائق فعله، كما كتبت في الجملة الأولى، وبصرف النظر عن الخانة التي على هذا التصرف أن يوضع فيها.

أتحدث عن المنطق الشخصي الذي لا يمكن إخضاع قراراته لشروط مسبقة، والذي يعبر في كل حالة من حالاته المختلفة عن حقائق محتملة ومعقدة للذات وعلاقتها بالعالم ويمثل أفكارها ومشاعرها المتغيرة والملتبسة طوال مسيرة وعيها بالحياة والموت. على هذا، فحينما يخاطب (ريتسوس) أبانا الذي في السماء كي يقل لابنة عمه أن تأتي لنزهة قصيرة في الغابة، ويشعر (كيركيجور) كأن تاجر رقيق أتى به إلى الدنيا، ويتساءل (بودلير) عن الشيء الذي يبحث عنه العميان في السماء، وحينما يخبرنا (باسكال) برعبه من الصمت الأبدي للآماد اللانهائية، ويقرر (شوبنهاور) أن يتأمل للحياة لأنها محزنة جدًا، ويتحدث (فوكو) عن الحافة التي يصل إليها الإنسان والتي لا يجول فيها إلا الموت، وحينما يؤكد (كافكا) أن بداخل كل إنسان غرفة يستطيع سماع مرآتها غير المثبتة جيدًا حين ينصت السمع، ويبلغك (رامبو) أنه دائمًا يوجد أحد يطردك حين يكون بك جوع وعطش، ويخبرنا (ميللر) بأننا نتوسل بالكتابة لنحصل على عذاب جديد، وحينما يعرفنا (كامو) بأن العقل السخيف هو ما يجعله متضادًا مع كل الموجودات، ويحدثك (نيتشه) عن اليد التي تقتل برفق، ويخبرك (بيسوا) بإخوة الوداع التي تجمعه بالأشياء، لماذا لا أعتبر كل هذا تنويعات على التهكم وبنفس الفهم الذي يجعلني أعتبره تنويعات على الجدية، مما يقودني بالضرورة لتجاوز علاقتي وبل وعلاقات الآخرين بهما لصالح الرهان الجمالي نفسه الذي سينجح هنا ويخفق هناك دون أن يكون لأحد ذنب في شيء.

أنا لا أتهكم. أنا فقط يمكنني التفكير والإحساس بطرق مضادة وبدافع من هذا أواجه ما قد أعتبره جرائم محمية بمبرراتها السادية ومتخمة بالمهازل السافلة لليقين العادي، ليس تحت وطأة الشبق للجرأة وحاجتي لرفاهية النقد ـ رغم أن الأمر لا يخلو طبعًا ـ وإنما لأنني أريد أن أفعل الصحيح بالتلقائية التي يتطلبها، وهو ما يعني أن سخريتي هي محاولة للاختباء أو لإنقاذ نفسي من سخرية أكبر وأكثر عنفًا وقسوة. محاولة للنجاة من اللامعرفة التي يمتد جرحها العميق منذ بداية وجودي في الدنيا وحتى اللحظة التي أزيد فيها بتهكمي ـ أو هكذا يبدو لي ـ هذا الجرح عمقًا إضافيًا. السخرية ـ كالجدية تمامًا ـ اعتراف ضمني بأنك مقهور لأنك أثبت حالًا وجود سؤال لم يُعثر له على إجابة مقنعة، بل وأضأت زاوية جديدة من زواياه الحادة، وبالتالي فأنت تؤكد قدرك الذي وفر لك القدرة على التخلي عن الحكمة بكل زيفها كي يبقى عجزك عن النجاة أشد عريًا ووضوحًا أمام عينيك.

لا تروقني كثيرًا اللافتات الشعاراتية التي تلصق المتهكم برفض الإذعان والاستلاب والاضطهاد بالضبط مثلما اعتبرت مقولة (كونديرا) في خيانة الوصايا (الدعابة: الومضة الإلهية التي تكشف العالم في وضعه الأخلاقي المبهم وعجز الإنسان الكامل عن محاكمة الآخرين؛ الدعابة: هذه النسبية الثملة للأشياء الإنسانية: المتعة الغريبة المتأنية من غياب أي يقين قطعي) اعتبرتها بيانًا متخمًا بالمبالغات الانفعالية الزاعقة وغارقًا حتى أذنيه في رومانتيكية فجة تريد إرغامك بشكل هزلي على الاعتقاد بأن الدعابة هي الومضة الإلهية الوحيدة التي تكشف العالم في ... إلخ وأنها وحدها هي النسبية الثملة ... إلخ وأنها وحدها المتعة الغريبة ... إلخ.

هذه اللافتات تأخذ الكاتب من هامش التأمل واللعب الجمالي إلى متن نضالي كاريكاتيري ومغلف بوجاهة ثورية أرى أنها معنية بالأساس بالتعتيم على ما وراء الهراء الدعائي الذي يفرض هذا الالتصاق بين التهكم ورفض القيود الأخلاقية والتحرر من سلطة المحظور، وأيضًا على اللاقصدية في عمل الكاتب باعتباره يستجيب لإلحاح أقوى من تعمد الدعابة؛ كذلك التعتيم على النسبية التي تحكم ما هو ساخر وما هو جاد والتي تجعل الفروق بينهما لا يمكن أن تكون وصفة جاهزة يمكن الرجوع إليها، لذا فهي بالضرورة لا تترك لنا من تعريف التهكم ومن تعريف الجدية إلا أفكارنا عنها فحسب كما سبق وذكرت.

ليس هذا فقط ما كرست وساهمت في تحقيقه لافتات الدعابة، وعلى رأسها لافتة (كونديرا). كانت أيضًا تعبيرًا صادقًا عن أنه كان ينبغي ـ غريزيًا ربما ـ على أي نقاش عن التهكم أن يخلو من طرح الأسئلة الضرورية التي يجب أن يسألها كل كاتب في تصوره لنفسه والمتعلقة بحساباته الخاصة التي على أساسها يمكنه أن يعطي إلهامًا ما عن ما تعنيه السخرية والدعابة بالنسبة له وعن الفروق بينهما التي تقنعه شخصيًا وكيف يضمن ـ وهذا سؤال مهم للغاية ـ عدم وقوع التهكم والدعابة في شرك الاستظراف والمزاح البارد.

ليس من أجل الحصول على اعتراف الآخرين المرصع بالتقدير بأنني متهكم عظيم عليّ تصديق الموضة التي تنسيني أن مكاني هو الهامش. البصيرة الجانبية المنزوية بما يجعلها تتمكن بحساسيتها الاستثنائية النقر على زجاج المتن المضاد للرصاص بكل خراءه المقدس. تصديقي للموضة لن يجعلني متنا في كافة الأحوال بل سيجعلني بطلًا أسطوريًا لفيلم يبدو أحيانًا قصة وأحيانًا يبدو مناظر.

انزياحات

العدد الثاني

11 يونيو 2024

ممدوح رزق: الجوائز لا تعد مرجعا تاريخيا للكتابة

عندما يطرح علي سؤال حول جدارة كاتب بالحصول على جائزة ما، وليس "نوبل" تحديدا، فإنني - وبعفوية خالصة - أتجه لتحويل السؤال إلى مساره العكسي: هل الجائزة نفسها جديرة بالتفكير في من 'يستحق" الحصول عليها؟ .. فكرة (الجائزة) لا تقوم على الجدارة بقدر ما تعتمد على تمثيل سياق معرفي محدد، غير مهيمن بطبيعة الحال، وما انتهى إليه من نتائج لن تتحقق بدون شروطه الذاتية .. سياق يقرر هويته بواسطة هذه الانتقائية القائمة على "تدابير" و"تقييمات" خاصة، ولا يقرر "المكسب" او عدمه .. بهذا المنطق فجائزة نوبل - شأن أي جائزة - تعبر عن نفسها في لحظات معينة وليس عن "جدارة" من حصل عليها أو "عدم جدارة" من لم يحصل عليها .. ارتباط (الأدب) ب (الجوائز) هو الموضوع الأساسي هنا الذي يتقدم على وجود مصادر او جهات مانحة (متفاوتة طبقيا بحكم ما يسمى بالامتيازات التقليدية) لتلك "المكافٱت" أو "التتويجات" المتعددة .. الارتباط الذي يخلق ما يمكن أن يعد "تاريخا رسميا" للكتابة ولكنه في نفس الوقت لا يمكن أن يكون "تاريخا مرجعيا" بالمعنى العام أو المطلق.

جريدة "الدستور"

17 يونيو 2024

تحميل كتاب "اقتناص الوهم البصري في القصة القصيرة"


مظلة حديدية

اتصلت بجاري لأطلب منه إبعاد قطعة الصاج الكبيرة الملفوفة من فوق سطح بيته الملاصق لشباك غرفة نومي .. كان قد قام بصنع مظلة واسعة من الصاج لتحمي بعض المقاعد الاسفنجية القديمة المهملة التي تركها فوف السطح من المطر وأشعة الشمس .. ما تبقى من هذه المظلة تحوّل إلى اسطوانة حديدية مربوطة بحبل رفيع، حينما يشتد الهواء يوقظني صوت اهتزازها وارتطامها بأرض السطح فضلًا بالطبع عن نوبات الإزعاج المتكررة أثناء اليقظة  .. انتظرت طويلًا بسبب حساسيتي من التحدث مع شخص لا أعرفه أن يزيح جاري قطعة الصاج من تلقاء نفسه ولكن ذلك لم يحدث .. كان جاري عجوزًا مهذبًا فلم تكد تمر دقائق قليلة على مكالمتي له حتى أصبح سطحه فارغًا من قطعة الصاج وهو ما دفعني لمعاودة الاتصال به كي أشكره.

مرت الأيام التالية هادئة، نقية من الصوت المزعج، لكنني وبينما رحت أحاول استطعام تلك السكينة الجديدة شعرت بغرابتها .. كان الهدوء الذي أعقب تخلصي من ضوضاء الصاج غير صاف .. ينطوي على شيء غامض من عدم الارتياح .. وجدتني أحاول تدريجيًا تخيّل الصوت المزعج الذي اختفى .. أستعيد نبرات تطوّح قطعة الصاج الملفوفة في مكانها فوق سطح جاري .. وجدتني أيضًا أقف واء شباك حجرتي؛ أتأمل المساحة الخالية التي خلفتها قطعة الصاج التي أُبعدت عني .. ثم تحوّل الشعور بالغرابة إلى افتقاد .. انتابتني رغبة مبهمة ومتزايدة في عودة قطعة الصاج إلى السطح المجاور لي .. أن أسترد الصوت الذي طالما انتزعني من النوم وأطلق أكثر الشتائم بذاءة من فمي .. تساءلت في نفسي: لو لم تكن قطعة الصاج تلك متبقية من مظلة، ولو لم تكن تلك المظلة تعلو مقاعد قديمة مهملة؛ هل كان سيتملكني هذا الشعور؟

كنت مترددًا، ومع ذلك بلا إحساس بالدهشة من نفسي اتصلت بجاري كي أطلب منه أن يعيد قطعة الصاج إلى السطح .. لم يكن عجيبًا أيضًا أن أسمع ضحكة جاري الشاحبة وهو يخبرني بأنه كان في انتظار هذه المكالمة.

الثلاثاء، 11 يونيو 2024

فهرس الملوك: «الملك» بين المفهوم والانزياح اللغوي


 ربما لن يكون التفكير فى تعريف «الملك» عند قراءة المجموعة القصصية «فهرس الملوك» (دار مرايا) للكاتبة ليلى عبد الله ملتزمًا أو مرتبطًا بالصفات والسمات المتعددة لـ«الملوك» المتعاقبين عبر قصص المجموعة فحسب، وإنما قد يكون تأملًا أيضًا فى «مفهوم» الملك، والذى قد يفضى بدوره إلى تفكيك التعريف التقليدي، المتجذر تاريخيًا.

أتحدث عن «الملك» كوجود غير مؤطر، غريزة «كونية» منتزعة الحدود، حضور شامل يكمن فيما قد يبدو مجردًا أو منفصلًا عنه ظاهريًا. ربما يمكن التمعن عند قراءة هذه المجموعة الصادرة عن دار مرايا فى «الملك» بوصفه فكرة التسلط نفسها، بكل هيمنتها وقمعيتها وقابليتها المضمرة للتحوّل إلى لعبة بلا شروط، تقوّض دعائمها المفترضة.

«صار مع مرور الأيام يطلب منى أن ألتهم نصف الولائم، بل زاد تشككه الصارم إلى الحد الذى جعله يستغنى عن تناول الأطباق، ويكتفى بتناول القليل من الفواكه فتضاعف حجمي، وصار جسمى مترهلًا من الشحوم، وبدا الملك كخيط رفيع كاد أن ينقطع فى أية لحظة من شدة نحوله. وبعد ثلاث سنين قضيتها فى القصر، قضى الملك نحبه بسبب سوء التغذية، وظلت المؤامرات تعيش بعده، وقد عدت إلى أسرتى التى تحسّنت أحوالها بفضل ما أرسله لها من بريق الذهب، إلا أننى عدت مريضًا بالنقرس».

يمكننا مقاربة «الملك» فى هذه القصة بعنوان «ذوّاق الملك» باعتباره اليقين الذى يخشى على استبداديته من الخدش، فيحشد دفاعًا عن نفسه من الأفكار والممارسات ما يعتقد أنها قادرة على حمايته؛ ومن ثمّ تتحوّل هذه الأفكار والممارسات عبر مسارات تداولية متشعبة ومراوغة إلى أدوات وعناصر تكوينية ليقين آخر، تحكمه «معرفة» مغايرة، وبالضرورة يمتلك استبداده الخاص، المجابه لذلك اليقين الذى نتج سابقًا عن حضوره.

يقين مختلف، يعيّن مبادئه عفويًا كبديل أكثر جدارة من ذلك الذى أراد التحصّن به، ولهذا فهو لا يمثل خلخلة لليقين «الأصلي» بقدر ما يتوحدان ويتضافران فى ضديتهما وصراعهما على توطيد وتحفيز موضوع «التسلط» ذاته، كمطلق قهري، دون سياج مُدرك، أى بما يتجاوز التواطؤ بين اليقينيات المتناقضة. على هذا النحو يمكن أن يكون «الملك» فى هذه القصة عقيدة، مذهبًا، أيديولوجيا، عُرفًا أو تقليدًا متوارثًا.

بوسعه أن يكون «حكمة» متعالية، كلما «صاغت» مبررًا لشموليتها، يصد عن رونقها «الشك»؛ صار المبرر نفسه «حكمة» أخرى يُمكن مع كل مغامرات التأويل المحتملة أن تُستعمل فى هدمها.

«فى أحد الأيام وصلت إلى القرية فرقة من المسلحين، يحمل أعضاؤها لوحات مرسومة لوجه شاب، وقد اجتمعوا بكبار أهل القرية، وأقنعوهم بتعليق اللوحات فى بيوتهم، كما أقنعوهم بأمور أخرى، وقبل أن يغادروا حطموا تمثال الملك بمساعدة شباب القرية، بينما كان أهل القرية فى ذهول يتساءلون: ما معنى طاغية؟!».    

يجدر بقارئ قصة «تمثال الملك» أن يحدّق إلى هذا التمثال كتجسيد أو رمز لتلك الإرادة التعسفية المستترة، التى تتقنع بما يُسمى «الحقيقة المطلقة»، وتتناسل عبر مشيئتها الاستحواذية أوجه الإخضاع كافة، بحيث يتحوّل «التمثال» إلى خالق لغوي، مسيطر، لا يتوقف عن إنتاج بصماته المتغيرة عبر الزمن. البصمات التى لا تكتفى أى منها بأن تكون «أثرًا» للسلطة، وإنما تتحوّل هى نفسها إلى سلطة يحاول خطابها «احتكار المعنى»، بينما يستمر فى تأكيد انفصاله عن «إطار مرجعى حاسم» يقع خارج بنيته اللغوية. يمثل «وهم» التمثال قناع «الطاغية» ليس كفرد، وإنما كـ «استيلاء أزلى على الوجود» بملامح غائبة، تتعدى / تحطم «نماذجها»، لتُبقى «الوجه الاستعبادي» مؤجلًا فى «أبديته».

«هدأت سورة الملك، متأملًا ذوبان الثآليل فى سواد الفحم، واقتنع بتفسير الرسام، واعتقد أنه سيخلّد فى لوحة بهذه الطريقة. يبدو أن حكمة الرسام الصعلوك بلغت أقاصى البلاد وما جاورها، حتى صار الناس وملوك البلدان الأخرى يستخدمون هذا الفن، وعرفوه بالمدرسة الفحمية، ولم يرسم المحتال بعد تلك اللوحة غيرها، وعاش متنعّما بمكافأة الملك، وقبل وفاة الملك شاع أنه أكثر ملوك التاريخ وسامة فوق سطح الأرض. أما المدرسة الفحمية فى الفن فقد توقفت بعد أن عُرضت بعض لوحاتها فى ساحة عامة، وتساقط مطر أثناء العرض، فأزال سواد الفحم».

كأن قصة «لوحة الملك الفحمية» تقدم مجازات تفكيك السلطة التى تسبق الحضور المباشر لـ «الملك»؛ فالفحم يليق به أن يكون اللغة التى يسعى من خلالها «اليقين» أن يمارس هيمنته الشاملة، أى أن يكتسب صورة زائفة لسرابه المشوّه عبر «المهارة الانتهازية» للرضوخ، وما المطر إلا «تقويض اللغة» الذى ينزع قناع «القيمة» عن «السلطة».

«وصلت أصوات الحشود المتنافرة إلى أذهان الوفود الحاضرين من ملوك البلدان الأخرى، واستنكروا سلوك ملك هذه البلاد قائلين: «الملك يلبس خردة شعبه، يا له من ملك! انظروا إلى شعبه، هؤلاء البسطاء، حتى خردتهم سلبت منهم! يا له من ملك جشع!». وأصوات البسطاء تهتف: «أعيدوا لنا خردتنا، أعيدوا لنا خردتنا!». تكثّفت الأصوات حتى صارت أجسادهم تتبعها إلى حيث الملك يقف مذعورا فى داخل كائن ينهار رويدًا ورويدًا، فقد كانت الأيدى الممتدة تنتشل ما كان ملكًا لها!».

فى هذه القصة التى تحمل عنوان «نفايات الشعب» يبدو «التسلط» قائمًا ومتدثرًا بما يمكن اعتباره «رماد الآخرين»؛ ذلك الشيء الذى كان يتسم بالحميمية، ويسكنه الرجاء، ويمثل إشارة أثيرة لعالم الفرد، وتحوّل إلى «نفاية» تشارك بتلقائية فى نسج رداء الاستبداد، بعدما كان وعدًا غامضًا بأن يكون له دور فى خلاص ما. الرماد ليس ناجمًا عن احتراق «الوعد»، وإنما عن الإيمان نفسه بأن ذلك الشيء الحميمى كان «وعدًا» لا «وعيدًا». هو احتراق الذات التى لم تمتلك فى أية لحظة ما تحوّل إلى «نفاية»، ولكنها جاهدت لاستعماله حتى كشف عن وظيفته الجوهرية فى سلوك القهر.

البسطاء حين يحاولون استعادة «الخردة» لا يستعيدون الرجاءات نفسها من جسد «اليقين»، ولكنهم يستعيدون يأسهم العالق فى هذه الرجاءات، يستعيدون فرصًا أخرى للتأمل فى الكيفية التى يمكن للعلامة الأثيرة أن تكون بواسطتها خائنة، فضلًا عن كونها «خادمًا تجميليًا» للتسلط، خاصة حين تتجرد هذه العلامة من حياتها القديمة، وبالأخص حين تعلن أن تلك الحياة القديمة لم تكن إلا تمهيدًا مخاتلًا لهذه الوظيفة. استعادة «النفايات» هى محاولة للقبض على السر الاستبدادى فى عالم الفرد، كأن تجريد «الملك» من «الخردة» بوسعه أن يجرد كل ما هو شخصى من «شموليته»، يجرد «اليقين» نفسه من لغته التى تعيش على الأحلام الخاسرة بالسيادة على المطلق.

«اقتيدت شهر زاد إلى منصة الموت، فى الوقت نفسه كان بين الحضور شخصيات غريبة، وكأنهم انبثقوا من زمان ما، فقد كان بعضهم يرتدى ثيابًا عفا عليها الزمن، وآخرون ظهروا بهيئات مختلفة.

يقال: إن هذه الحشود الغريبة تسربت من قصر الملك، وواصلت طريقها حتى الساحة العامة، كان مظهرهم مخيفًا، فبعث الهلع فى قلوب الحاضرين، حتى سيّاف الملك عجز عن الوقوف أمامهم وهم يحيطون بشهرزاد التى علت وجهها بشاشة ظاهرة، كانت تعرفهم فردًا فردًا، كان هناك على بابا وبرفقته أربعون حراميًا، السندباد، وبدر البدور، معروف الاسكافى وغيرهم، حملوا شهرزاد على أكتافهم إلى حيث الملك شهريار الذى بدا مبهوتًا من هذه الحشود الزاحفة نحوه، وقف عاجزًا أمامهم، يعلو الهلع وجهه، فمن أين جاء هؤلاء الثوار؟!».

تقدم قصة «ليلة سقوط شهريار» الخيال بوصفه أداة «التفكيك» الذى تمارسه الحكايات ضد السلطة، فشخصيات «ألف ليلة وليلة» أو «الثوار» حين تنقذ شهرزاد من شهريار أو «الطاغية» فإنها تشير إلى إمكانية تدخّل الذاكرة السردية فى مجابهة الموت حين يبدو أن الذات قد بلغت حد الخرس أمام الواقع الاستبدادي.. الخيال الذى بمقدوره استبدال «الملوك» بـ «الصعاليك» فى الحكايات الهزلية، أو اللهو بغفلتهم فى المتاهات، أو استدراجهم إلى بيوت المرايا، أو إعادة تركيب هيئاتهم فى مجسمات هازئة، أو قلب لعبة الخداع ضد عروشهم، أو تحويل بطولاتهم الوهمية إلى دعابات لاذعة، أو خلق أشباح متغيّرة لكوابيسهم، وذلك مثلما فعلت ليلى عبد الله فى «فهرس الملوك».

«أنزل الحشد شهرزاد التى وقفت فى حضرة الملك بشموخ وعلى وجهها نبرة انتصار، وهى تقول له: «بلغنى أيها الملك السعيد، ذو العرش المجيد، أن امرأة تدعى شهرزاد صارت ملكة على بلاد يحكمها ملك طاغية يدعى شهريار، وأن هذه المرأة عزمت أن تصون نفسها ونساء مملكتها من بطش هذا الملك الجبار، الذى أودى بحياة الكثير من الضحايا». ومن فورها أمرت السيّاف أن يضرب عنق شهريار، ليخلص البلاد والعباد من جبروته، وتبقى شخصياتها خالدة».

هل الحكايات نفسها أم القدرة على منعها من إعادة تدوير «الحقيقة المطلقة»؟.. ما الفرق؟.. فى كل حكاية يوجد التمثال والمعاول التى تهدمه، تكمن الإرادة التعسفية للاستحواذ مثلما تنطوى على الهواجس العصية على الإخضاع.. شهرزاد لا يفترض بها أن تكون «خالقًا لغويًا» بل مخرّبة لأقنعة اللغة.. ألا تكون «بصمة» للخطاب وإنما بصمة لمرحها الذاتى فى لعبة الغواية والانتهاك.. لا يفترض بشهرزاد أن «تحتكر المعنى» وإنما أن تروى سيرة انفلاته وعصيانه الدائم عبر الزمن.. إن «الإطار المرجعي» لن يتبدد كـ «تصوّر غريزي» مع رأس شهريار المقطوع، وإنما سيظل راسخًا، حتى فى «شخصيات شهرزاد الخالدة»، مثلما تناوئ استعبادها.. كيف نحكى ما سبق أن رواه الجميع بطريقة أخرى، أى أن نجعل الطاغية يسرد قصته فوق أنقاض «النموذج»؟ كيف نروى دون «استيلاء» على ما يُنظر إليه كـ «بنية ضامنة»؟ إنه رهان شخصي، لا يخضع للصواب والخطأ، ولكنه احتياج بديهى وحسب، استجابة ضرورية لأن تكون «حكايتى» طوال الوقت سخريةً من «مفهوم» الملك.
أخبار الأدب
2 يونيو 2024

كيف يخلق الخيال النقدي نصًا شبحيًا؟ (2 ـ 2)

النموذج التطبيقي

صورة فوتوغرافية لكاتب مع نسخة من روايته “الفشل في النوم مع السيدة نون” .. كلمات أسفل الصورة عن أن حياة الشاعرة أو “البطلة المزعومة” للرواية لم تكن سوى يد سردية من الأكاذيب والمبالغات، خلقها الكاتب كي تعاون أيديه الأخرى في هرش خصيتيه مقاومة للضجر الذي يلازمه دائمًا .. ما هي الكلمات الأصلية المحتملة التي تبادلها الكاتب في الواقع على الماسنجر مع تلك الشاعرة قبل أن يحوّلها إلى “أكاذيب ومبالغات”؟ .. كاقتفاء خائن لأثر ذلك النص في كتاب “وهم الحضور”؛ هل كان يمكن أن تتحوّل هذه الكلمات إلى “كتابة أخرى” لا تشعر معها تلك الشاعرة بالتوتر ـ كما أخبرت الكاتب في رسالتها له عن الرواية ـ ومن ثمّ لا ترتكب نتيجة لذلك أية حماقات مضحكة؟


“بدأت الحوارات في التكوّن بيننا على الانترنت، كانت قليلة لأنها لم تكن تفتح الماسنجر كثيراً، وفي نفس الوقت كانت أحاديثنا غالباً قصيرة، وليست متعمقة بما فيه الكفاية .. كلام عام عن حياتها، وبيتها، والجامعة، وعن مصر، والشعر، وأصدقائها الذين أعرفهم، وذكرياتها معهم”.


بهذه الكيفية كانت الحياة “نصًا أدبيًا” عند نيتشه .. أثرًا غير مستقل لإنكار الحقيقة .. كانت اللغة اليومية فنًا، ممارسة فلسفية، أسلوبًا للمخاطرة .. “سأجعل من نفسي سيرة للاستكشاف” .. الغضب الغريزي .. إحراق السماء .. لهاث الكتابة .. رعشة المراوغة .. الاندفاعات المحمومة .. الانتقام من الطمأنينة .. غرابة النشوة .. الأورجازم اللغوي .. خرافة الإثم .. استرداد البكاء الطفولي .. السخرية من “الرهان” .. إهانة قاطع الطرق الأعظم.


أنت لم تبصر كل العفاريت التي خرجت منك وأنت عارٍ في ميدان مزدحم .. العفاريت لن تكون هي نفسها حين ترتد إلى داخلك ثانية بعد تعذيبها .. حسنًا .. لتواصل وطء تفاصيل ومشاهد وأسرار الازدحام كي تعثر على المزيد من كوابيسك .. لتمعن مخاتلة كل كابوس في قتلك.


كيف يمكنك اللعب استباقيًا ـ تفكيك النظام بتعبير دريدا ـ وعلى نحو متعمّد بإشارات التناقض في الموضوع الإيروسي؟ .. الفجوات والهوامش تكتب الرواية دون مواراة .. تحويل الانتهاك إلى بداهة .. تخريب ساطع للإزاحات .. استمتاع بالتهكم على الأوهام الأخلاقية التي تحاصر الكتابة .. استمتاع بالتهكم على استثمار الأوهام الأخلاقية الذي سيحتدم بعد قراءة الرواية .. ثمة صدى جدير بالاستعادة: يعتبر الناقد والأكاديمي العراقي د. نجم عبد الله كاظم “الفشل في النوم مع السيدة نون” من الروايات التي اخترقت المحظور الجنسي والمسكوت عنه بغرض التعبير عن الموقف وبنضج وتبرير موضوعي وفكري، حتى وهي لا تتوقف في تعاملها مع الجنس عند حدود، أو حتى لو كان الجنس هو بحد ذاته مادة الرواية وموضوعها، وذلك ضمن دراسته عن المتغيرات والتجديد في الرواية العربية المعاصرة .. “ربما يمكن للطفل في طفولته، وبواسطة مناظر، وأحداث كهذه أن يبني ما يمكن أن يُعد أصولاً، أو جذوراً للعب .. يمكنه أن يكتسب بصراً سرياً، يجعله يدرك أن الجنس هو أكثر المشاهد التي كلما أخذت راحتك في التبديل بين تفاصيلها كلما كان ذلك أكثر استجابة لإرادتها الجوهرية”.


قصيدة لشاعرة اسمها “قراءة الماضي” تكتب على الماسنجر لـ “الفشل في النوم مع السيدة نون”: “لا أعرف لماذا أكتب لك هذا .. ربما أردت أن ترى توتري فحسب” .. “الفشل في النوم مع السيدة نون” يصمت .. كاتبة اسمها “أن تتناولك رواية أو هل تراني فعلًا بهذه الطريقة؟” ترسل عبر مدونة “قراءات” ردًا إلى “قراءة الماضي” .. الرد الذي يبدو ـ رغم سعادتها به ـ لم يعوضها عن الرد الذي لم تتلقاه من “الفشل في النوم مع السيدة نون” .. “الفشل في النوم مع السيدة نون” يقابل “قراءات” صدفة على مائدة “الرواية والفانتازيا” .. “مصافحة سريعة وابتسامة خاطفة ثم اختفاء فوري” .. “الفشل في النوم مع السيدة نون” يكتب “نصوص متحركة”.


تحلم الرواية بالشاعرة والروائي الشاب الميت، فقط .. “(الشخصيات) تتوقف عن أن تكون (حقيقية) في الكتابة مهما بلغ وضوح ملامحها الحقيقية” .. الحلم يجعل الشخصيات أكثر واقعية مما تبدو عليه .. الواقع الثأري لكاتب الرواية .. “قررت تحويل الكتابة إلى حياة انتقامية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى” .. ليس الثأر من “الشخصيات الحقيقية”، وإنما من “السياق” .. التاريخ كما يدعي الحدوث .. كما كان يُحتمل أن يحدث .. “لم تعد لدي حياة كي أعيشها” .. انتقام من كل تخيُّل، فقط.


مقاطع من “الفشل في النوم مع السيدة نون” بصوت الكاتبة الفلسطينية سحر أبو ليل في برنامجها الإذاعي على ساوند كلاود .. مقاطع ماجنة تُقرأ بصوت رقيق وأداء شاعري وعلى نغمات موسيقى ناعمة .. صوت لا يعرف كاتب الرواية .. صوت غير متأكد من أن “الفشل في النوم مع السيدة نون” تدعم صورة واقعية لكاتبها أم لا .. صوت نقيض “الصداقة” .. مضاد لليقين .. ما يحتاجه بشكل حاسم ودون إمكانية للتفاوض هؤلاء “الذين رأوه متعيّنًا في الحياة، وجلسوا وتحدثوا معه ذات يوم أو في كثير من الأيام .. الذين حينما ينتهون من قراءة رواية كهذه سوف يبتسمون بالثقة اللازمة لطمأنتهم على سلامة وعيهم بالموت، وهم يرددون في أذهانهم، وبين بعضهم البعض: ليس هناك شك في أنه هو، ويدرك نفسه جيدًا مثلما ندركه” .. تصل نسخة من “الفشل في النوم مع السيدة نون” إلى “صديق” فتكون تلك هي اللحظة الأخيرة في علاقته الشخصية بكاتبها .. كأن الرواية هي الفرصة الثمينة التي خلقها الكاتب عمدًا كي يتخلص من “أصدقائه” .. قطيعة مقصودة تستبق “الاستجابات القاصرة” التي لا يجب إهدار أي شيء في مواجهتها .. “لأننا رأيناك، وتحدثنا معك، وكنا “أصدقاءً”؛ فإن الاحتمالات تتضاءل للالتفات إلى غير ما نعتقد أننا نعرفه حقًا عنك .. لن نبصر في صفحات الرواية ما يتجاوز التأكيدات على حقيقتك المتداولة في الواقع، ربما بعكس لو لم نصادفك أبدًا من قبل .. لن نفكر في وجوهك الأخرى المغايرة أو المناقضة لذلك الوجه الذي اعتدناه، ولمسنا تطابقه مع ما رسمته أنت نفسك بالكتابة .. لن نتساءل عما وراء غياب الخجل والحذر والانضباط في “الفشل في النوم مع السيدة نون” مقابل حضور العدائية والطيش والمبالغة، كالتي تناولت بها شخصية تلك “الشاعرة” مثلًا” .. كأنها الفرصة الثمينة التي خلقها الكاتب عمدًا كي يهزأ من هؤلاء الذين لن ينتبهوا إلى ما يشبه plot twist في الرواية، أو جرس تنبيه للتمعّن في “الوجوه المتعددة”:
“لي صديق كاتب قصص قصيرة اسمه (ممدوح رزق)، حينما أخبرته بالأمر أعد لي هدية فرحت بها كثيراً يا دكتور .. كانت عبارة عن مزاوجة بين القصة الأولى في اليوم السابع من (الديكاميرون) لـ (جيوفاني بوكاشيو)، وقصة (المدرسة الداخلية) لـ (أناييس نن) من مجموعة (دلتا فينوس)”.


الفصام الجامح في الرواية إعلان ملكية الكاتب لأشباحه، يماثل إعلان رولان بارت ملكيته لجسده حين قام الأطباء بإزالة قطعة من ضلعه ثم أعادوها له ملفوفة في شاش طبي صغير .. تكتب ماري جيل في “رولان بارت (بديل الحياة)”:
“هل نرى في هذا النص رمزًا للكتابة، من البعد السيري للكتابة شاملة؟
ما هي الكتابة إن لم تكن حفر المرء لجسده ونشره على شكل قطع وإعطائه للكلاب الرعوية. إن النشر هو تحويل اللحم إلى طعام إلى قطع، حيث يحصل القارئ على العظام لمضغها.

الكتابة لبارت تضع جسدك في المحور، تفهم حرفيًا حقيقة أنك تكتب بجسدك. هذا المقطع يفسر الكليشيهات البارتية: كتابة الجسم، القطعة نفسها هي استعارة كجزء من الكناية في العمل. نرى أن ما يكتبه بارت عن الجسد هو العظام. ما هي هذه العظام؟ هي قطعة من الذات منفصلة ومتلائمة ستسمح لبارت أن يصبح مالكًا لنفسه. إن نزع قطعة من الجسد، أو النزع التدريجي للجسد، في الدرج، هو استنساخ خيالي لعملية الانفصال في الكتابة، والموت من موت المؤلف من آثاره، وهناك ما يشير إلى ولادة”.
حفر الذات ونشر قطعها في “الفشل في النوم مع السيدة نون” هو مضغ لعظام الكلاب الرعوية التي تقف تحت نافذة الكاتب انتظارًا لما سينتزعه من جسده ويلقيه لهم .. كأن انفصاله عن جسده سيجعله مالكًا بالضرورة لأشباح قرائه .. لخيبات الغرباء التي يلهو بها “المريض والطبيب” عبر صفحات الرواية (في زمن ما بعد علم النفس) .. النزع التدريجي للجسد هو استنساخ خيالي للألوهة التي انتُزعت من الكاتب من قبل أن يمتلك عظامًا.

مجلة “الناقد”

العدد الثاني – أبريل 2024

أفق غائم

 فروع متيبسة بلا أوراق

تترنح في أصيص متصدع

وراء باب خشبي متآكل ومغلق منذ زمن طويل

لم تتوقف مطلقًا عن طرق الباب بصمتها

نداء يتمادى في الوهن لحظة بعد أخرى

لكنه لم يخب منذ أن فقدت ورقتها الأخيرة.

الطين الجاف والمتحجر الذي يبقيها منتصبة

ما الذي يسقيه؟

لابد أنه شيء يغذي التيبس

الصمت

لابد أنه شيء يضمن لها أن تظل تنادي

رغم طول الوقت الذي قضاه الباب موصدًا

حسنًا

إنها الذكريات بالفعل

ليس الماضي تحديدًا

وإنما النبوءة الغامضة

التي كان يضمرها الماضي

وكان محتومًا أن تتحقق

ولكنها لم تعد سوى نفسها

مجرد أفق غائم

لا يدين لأحد بالوصول.

استشراف الديستوبيا المضمرة / مقارنة بين رواية "فصول من سيرة التراب والنمل" لحسين عبد العليم، ورواية "دنيا زاد" لمي التلمساني

في هذه المقارنة لا أفكر في مفردات كـ "الخراب"، "الضياع"، أو "الفجيعة" ـ المفاهيم المرتبطة تاريخيًا بالديستوبيا ـ من منطلق حضورها العام، المستقل، وإنما بوصفها رؤية ذاتية متغيرة للشخصيات الروائية. اعتقاد أو تصوّر في حالة تشكّل وإرجاء ومراوغة. هذا تحديدًا ما لا يجعل "الخراب" شيئًا "يحدث" وإنما شيئًا "يُكتشف"، يجعله "تمثلًا سابق الوجود" لا يُعرّف بحضوره المتعيّن ولكن ببصماته النبوئية والتخييلية الغامضة في باطن الذات، الأثر الاستشرافي الغائم لـ "الضياع"، الذي لم يعد وفقًا لذلك مجرد "فجيعة" منفصلة عن "الماضي"، وإنما تجسيدًا لتوقعات مضمرة في تاريخ الشخصية. أصبح "الخراب" هو الماضي بينما كان يعمل بشكل إيهامي على إخفاء نفسه.

في رواية "فصول من سيرة التراب والنمل" تكمن "الديستوبيا" في التفاصيل التي تنطوي بصورة مبهمة على المصير الشخصي، أو "الموت المدخّر" في عتمتها:
بالنسبة لي؛ تحفّز قراءة رواية "فصول من سيرة التراب والنمل" لـ "حسين عبد العليم"، الصادرة عن دار "ميريت" 2003 على التفكير في "التفاصيل" أكثر من "الحكاية" نفسها، ليس فقط لأنه بالإمكان وضع الرواية في سياق من الحكايات المشابهة سواء معرفيًا أو أسلوبيًا؛ وإنما لأن التفاصيل تمثّل فاعلًا جوهريًا في بنية الرواية للدرجة التي من الممكن القول معها أنها قادرة على أن تحل جماليًا كبديل، أو تعويض للموضوع الحكائي ذاته.
"أخذ يبحث عن المقص الصغير وسط الأشياء المبعثرة الغارقة في التراب على منضدة السفرة: شرائط كاسيت .. عُلب أدوية منتهية الصلاحية .. سرنجات .. جهاز قياس الضغط .. عُلب سجائر بعضها فارغ والبعض الآخر ممتلئ والبعض الثالث بين بين .. عملات نقدية معدنية .. أجندات شركة ساندوز ذات الكعب الزمبركي الأبيض .. ترمومترين .. نموذج تعليمي لقلب آدمي يمكن فكه وتركيبه .. كتب وجرائد .. نتائج تقويم من شركات الأدوية وشركات التأمين والبنوك ـ فلم يجده".
الدمار هنا ليس مقصورًا على الذات ولكنه ما "يكوّن" الذات، أي أنه العالم الذي يحتل أغوارها، ومن ثمّ فإنه يحدد ما تبصره الذات عن نفسها كفكرة "عاجزة" يهيمن عليها الوجود. ما يُكتشف إذن ليس "النهاية"، وإنما الخطوات المبهمة والمتوارية التي قادت إليها. كل تمهيد عار أو مخاتل لم يكن في جوهره إلا وعيدًا تسكنه المأساة. "النهاية" موضوع أزلي، يحقق أبديته بواسطة خلق "التفاصيل" المتزامنة والمتعاقبة، المشروطة بالإخضاع، التي لا يمكن التفاوض مع حتميتها.
في رواية "دنيا زاد" تكمن الديستوبيا أيضًا في التفاصيل التي تسبق "الفقد"، في استعادتها، لا من أجل القبض على ما كان تجهيزًا لهذا "الفقد"، وإنما لكي يتم استنطاق الموت نفسه حينما كان يبدو متواريًا في الذاكرة. حينما كان "الفقد" أصلًا متنكرًا في واقع "غير كارثي". كأن هذا "الحكي" سينسج تفاصيل بديلة، ومن ثمّ احتمالًا لترويض الألم، أو تبصرًا استدراكيًا بما يضمره صمت "الموت" في تلك الحياة الناجمة عن "الاستعادة".
"طلبت من أخويها الحضور .. تأخرا .. ثم جاء الأصغر أولًا .. أخبرته بأن الطفلة قد ماتت .. بكى .. وبكيت. وقلنا نخبرها تدريجيًا كما أشار الأطباء الثلاثة .. ثم جاء الأخ الأكبر. بكينا أيضًا. واتفقنا على تفاصيل أخرى .. لا أذكرها الآن لكني أعرف أني لم أعد أستطيع البقاء وحيدًا. أحطنا جميعًا بالفراش. الذي لا يضم سوى جسدها الساجي. لا سبيل الآن لأن تضمهما ذراعاي. وربما أيضًا .. غدًا".
ماذا لو أن دنيا زاد هي الموت الذي يتبادل شهريار وشهرذاد حكي تاريخ العالم من أجله بكيفية انتقائية؟ .. هذا يعني أن ثمة محاولة سردية لاستنطاق هذا الموت، أي كفاحًا لجعله يحكي "ألف ليلة وليلة" المجهولة، والكامنة في ظلامه، خاصة لو كان هذا الموت نقيًا، خالصًا من المرور المؤقت للحياة ممثلًا في طفلة لم تعش .. يعني أيضًا أن تاريخ العالم الذي يتم سرده من خلال الأب والأم لن يكون هو الذاكرة ذاتها التي سبقت هذا الموت، أو ما يُتصوّر أنه الوجود الذي تقدّم على الفقد بل سيكون حياة أخرى، أو الماضي المغاير الذي سينتج بالضرورة واقعًا مختلفًا، أو على نحو أدق إبهامًا مختلفًا.
تجرد "الديستوبيا" التفاصيل من "الحياد"، ذلك لأن الكشف عن البصمة النبوئية لها في اللحظة التي تراها الذات "خرابًا"؛ يجعل التفاصيل "العامة" متورطة في "المأساة الشخصية". تصبح نذير شؤم بأثر رجعي. يتحوّل "حيادها" إلى "استشراف" خفي لما صار جرحًا حقيقيًا كما في رواية "فصول من سيرة التراب والنمل".
ما يُقصد بالتفاصيل في هذه المقاربة هو "أشياء الواقع" التي تكوّن ما يشبه سجلًا توثيقيًا للأزمنة المختلفة: الأغراض الشخصية المتعلقة بحقبة معينة .. أنواع المأكولات والمشروبات .. الشوارع والميادين والحدائق .. الكازينوهات والمقاهي والمطاعم .. قاعات العرض .. الكتب والأفلام والمسرحيات والأغاني والمقطوعات الموسيقية .. أنواع السجائر والعطور والملابس ... إلخ.
"عرضت عليه صور الأميرات فوزية وفايزة وفايقة شقيقات الملك فاروق المقصوصة من مجلة ملونة ـ بانبهار وحرص شديد كأنهن مثلها الأعلى. أرته ألبومًا آخر خاصًا بمقالات وصور الزواج الملكي وعلقت: إن هوايتها هكذا بالمصادفة مثل الملكة فريدة ـ العزف على البيانو والرسم. في عام 1951 سوف يكتشف الدكتور عزيز أن زوجته عايدة عادت لهوايتها القديمة وجمعت صورًا ومقالات بمناسبة عيد الجلوس الملكي والزواج الملكي الثاني من ناريمان".
نلاحظ في رواية "دنيا زاد" أن العالم لا يتشكل وفقًا لـ "الفجيعة"، وإنما بسطوة "ترتيبها الخفي" في الماضي، والذي أعلن عن تمثله المتقدم في باطن الأشياء التي لم تكن تُظهر ـ على الأقل ـ تهديدًا حاسمًا. الأشياء التي اكتسبت بعد ذلك ـ بفعل الصدمة ـ صفة التخييل، بعدما كشفت "واقعيتها" عن "عدم الولاء" المضمر حينما كانت "حاضرًا"، ومن ثمّ كان على الذات أن تشتبك مع تلك التدابير المجهولة "الاستشرافية" التي أنتجت "الفجيعة" عبر مراجعة "أشياء الذاكرة"، أو ضبابيتها الفادحة بشكل أدق، كأنه تنقيب عن مواضع "الخيانة" أو الإرادة الماكرة لـ "الديستوبيا".
"أعد الأيام بلا أرقام. أعدها بمدى ابتعادها عن يوم الاثنين الخامس عشر من مايو. حتى ذلك المساء الذي عثرت فيه على بعض القصاصات التي كان زوجي يدون عليها بيانات المستشفى. أرقام أكياس الدم. المصاريف المتفرقة. ساعة دخولي غرفة العمليات. وساعة خروجي منها. نص تقرير الطبيب الذي استخرج بناءً عليه التصريح بالدفن ... أقرأ: وفاة في الرحم نتيجة انفصال تام للمشيمة".
تتشكل عناصر العالم بعد الموت باعتبارها ظلالًا غامضة لتلك البنية المعتمة التي ذابت دنيا زاد داخلها .. كأنها تتحوّل إلى قرائن لحكمة مضادة، مراوغة، تشمل موجودات الحياة وأحلامها كافة، وتنبع من الثقل المهيمن الذي يفرضه غموض هذا الموت على الأجساد وعلاقاتها والتفاصيل المرصودة كحصار من الأسرار التي تتوعّد الغفلة .. بالتالي تصبح الأفكار والعواطف المتشابكة أقرب إلى الهواجس الاستشرافية فيما يشبه البحث عن الفضاء الخاص لنجاة غير مستوعبة داخل موت متجذّر في الماضي، ولابد أنه يرسم في ذلك الخفاء الذي يتم السعي لاستكشافه تلك الخطوات التدريجية لحدوثه في المستقبل.
هذه الرغبة السردية في مطاردة التوقعات المستترة داخل صدوع الماضي لـ "الديستوبيا المكتشفة" لا تؤجل استقرار "الكابوس" أو مراوغته فحسب، وإنما تحوّل "الاستشراف" المضمر في حد ذاته أيضًا إلى "منظور"، يختلف مع كل اعتقاد أو تخيل، ويتبدل مع كل لحظة تفكير أو شعور بـ "الضياع" تحاول التخلص من إيهامها، وفي نفس الوقت تنفلت على نحو ضمني من معناها المترفّع، أو يقينها الإدراكي مثلما نجد في رواية "فصول من سيرة التراب والنمل"
لكن في نفس الوقت يجدر بنا تأمل كيف تتغيّر التفاصيل الثابتة بتعدد الرواة، أي الطريقة التي تخلق بواسطتها وجوهًا متباينة لوجودها داخل كل حكاية جديدة .. هذا ليس تأثيرًا في اتجاه واحد، أي انطلاقًا من الشخصية نحو الشيء المستقل في جموده الخاص بل هو نوع من التبادل القائم دائمًا، والأقرب للامتزاج الغائم، الذي يعطي التفاصيل حتى في عدم تبدّلها القدرة على إنتاج كائنات متعددة، وبالضرورة تواريخ مغايرة لأشباحها .. يكمن السر في الكيفية، أي في الشكل الذي يتم من خلالها تحديد علاقات الخلق المتبادل بين الحكايات والأشياء، أو ما يمكن أن نطلق عليه صِيغ التوحّد المراوغة بين عمائها.
"حكى لها عن تسكعاته في شارع الملكة نازلي وشارع الملكة فريدة، الأزبكية وشارع ابراهيم باشا وميدان اسماعيل باشا، كانت عايدة تشرد وتطلب منه وعودًا بأن يأخذها إلى كازينو صفية حلمي والأوبرا الملكية وكازينو بديعة وأن يعبرا سويًا كوبري عباس مشيًا. انفجر الدكتور عزيز في الضحك. (يا ستي .. وسان سوسي قدّام شقتي في ميدان الجيزة .. دا غير اسكندرية التريانون وديليس واتنينيوس وهلّم جرّا .. وكل ده بقى كوم وأوربا لوحدها كوم تاني)".
بذلك يصبح "الغياب" وتحديدًا "لغته" هي "الحياة والموت"، التي لا تسكنها "الديستوبيا" وحسب، وإنما تخلق تأملاتها أيضًا. تنسج المكائد المتغيرة للمأساة باسترجاع ما تبين أنها جذورها المطموسة في الزمن. لم يعد هذا "الزمن" في حالة "انقطاع" عن "المأساة" أو محض تراكم تدريجي لاكتمالها، وإنما صار "مشيئة"، قرار غيبي تحقق بالفعل، محتميًا برمزيته الاستعبادية، "حكاية" قهرية شُيّدت سرًا، وما العلامات التي قد تبوح بها ما هي إلا احتمالات تستعملها الذات في مجادلة ذلك الغياب، في الصراع مع الغريزة القدرية للعالم، لا استنادًا إلى "حكمتها" بالضرورة، وإنما امتثالًا لمقاومة الشر المتسلط من "بلاغتها". كأن هذه المقاومة هي إشارة الذات لحضورها "الإلهي" قبل وجود فكرة "الديستوبيا" نفسها كما في رواية "دنيا زاد"
"الحلم: اليوم أتمت دنيا زاد ثلاثة أسابيع. أنير لها شمعة وأحملها إلى قبرها الساكن في ركن من أركان الغرفة. أفتح باب القبر وأتسلل إلى حيث الجسد الساجي. أضع الشمعة إلى جواره. وأبكي مرة واحدة. في طقوس حب سرية، أراها تطبع على جبيني قبلة حارة كحرارة القبر المغلق".
لكن الاستشراف يتضمن تلك الحاجة البديهية للحصول على الحياة التي لم تعشها دنيا زاد .. ليست حياتها ككائن يجرّب العالم بشكل اعتيادي، وإنما حيوّات الآخرين التي كانت ستمنحها لهم دنيا زاد لو لم تمت .. الوجود الذي لا ينبغي أن يتوقف عند الحدود التقليدية للبنوّة، وإنما ذلك الذي يجدر به التخلص من الألم المنطقي، أي يستبعد بصورة محصنة الجوهر العدائي المجهول الذي لم تختبره دنيا زاد، وبهذا يكون موعدًا مؤجلًا، متجرّدًا من الفناء.
هذه المقارنة تقارب "الديستوبيا" ـ بالأخص ـ في ترصدها المحتجب داخل ما لا يشي بها، ومن ثمّ فإن "الاستشراف" ليس محاولة للتحديق إلى "النبوءات" الخفية التي غافلت الذات في الماضي، وإنما إلى "الخراب" نفسه كموضوع لا تخدش السردية الذاتية ما يجسده، وإنما تقوّض مبرره. أتحدث عن الانتباه أو التيقظ إلى التفاصيل كما لو أنها سيرة شبح متهكم عنادًا "للفجيعة" كما في رواية "فصول من سيرة التراب والنمل":
"عندما عاد في الثالثة عصرًا دخل إلى حجرة الدكتور عزيز مباشرة، فوجئ به مستلق على ظهره في السرير، صغير الحجم كطفل، منكمشًا، شاهد فؤاد بنفسه مئات من أسراب النمل تدخل وتخرج من فتحتي أنف الرجل وتغطي عينيه وتدخل وتخرج من أذنيه وفمه ـ فأدرك أنها النهاية وأجهش باكيًا".
لهذا فأسراب النمل لا تأتي من الخارج بل من التفاصيل نفسها .. من أشياء الواقع التي يمنحها الوعي قيمة مقدسة، خاصة حينما تتحوّل إلى ماض مفقود .. أسراب النمل تختبئ داخل أغوار التفاصيل مهما تعددت أو تباينت الحكايات، أو اختلفت طرق تكوينها واندماجها .. مهما تجلت الحياة كوفرة براقة أو انطواء شاحب؛ لا يمكن لهذه الحتمية أن تُنتهك، حيث الجسد المتحسّر لم تخلقه في جميع الأحوال تلك الأشياء التي كان يجب عليها فقط التواطؤ قهرًا مع "المتغيرات القاتلة للواقع"، وإنما الأشياء الحميمية التي تضمر الموت وتمرره بأكثر الأشكال غموضًا، وبقدر رسوخها الظاهري كأيقونات ملائكية يهددها المحو.
"الاستشراف" سؤال عقابي، محاكمة سردية، لا تُبقي "الديستوبيا" عند حدود "المفاهيم التاريخية" وإنما تجعلها بعثًا مضادًا لخفائها.
الهوامش:
ـ رواية "فصول من سيرة التراب والنمل" / حسين عبد العليم ـ دار ميريت 2003
ـ رواية "دنيا زاد" / مي التلمساني ـ دار شرقيات 1997
ـ الموت المدخر في التفاصيل / ممدوح رزق ـ قراءات في الرواية العربية، دار ميتا 2021
ـ الموت يسرد صمته / ممدوح رزق ـ قراءات في الرواية العربية ـ دار ميتا 2021
مجلة "الناقد"
العدد الثاني
أبريل 2024

نافذة البيت .. نافذة القطار

وراء نافذة بيته يجلس مرتعشًا، مشرعًا روحه لغنيمة الأضواء الخافتة والمتناثرة، التي تلوّح لبصره المتحسّر من شبابيك وشرفات البيوت البعيدة. بصر متشوّق، محتضر، يرتحل في العتمة الغامضة المبتذلة لليل، خاصة حينما يطبق السكون المتوعّد في الشتاء. إذا ما سمع أصواتًا بشرية مفهومة خارج هذه الجدران التي يجلس بينها فإن خياله يشعر بالخسارة. حين يمنحه ساكنو المنازل من حوله تفاصيل محددة لحيواتهم دون قصد. يغمض عينيه على الأضواء الخافتة في سكون الليل ليتوحد بالهمهمات المتفرقة التي تعبر جسده بشكل متقطّع. الثمالة التي يفقدها بمجرد تمييزه لكلمات المقيمين حول نافذة بيته أثناء الأحاديث المتأرجحة فيما بينهم. الكلمات التي تجسّد وجوههم رغمًا عنه. ذلك لأن هذه الأصوات هي ذاته. لأنه لا يريد أن يسمع صوته أو يرى نفسه. يعرف أنه يكمن في ما لا يُرى أو يُسمع. في ما لم يُفسّر.

وراء نافذة القطار يجلس بشعور جارف بالانسجام. ليس فقط لأنه يصادق المسافرين في الليالي الباردة، المنكمشين في نعاسهم المرتجف، ولا لأن الحكايات التي يتبادلونها همسًا يهدهدها الضباب الكثيف، الحقول المظلمة، الروائح الريفية، المصابيح الشاحبة، والبيوت الصغيرة المقفلة حول القضبان فحسب. يشعر بهذا الانسجام لأنه يدرك أيضًا عدم الوصول. لا يتنقل من مدينة إلى أخرى كسائر الركاب الذين يسخر من إجاباتهم عن الأماكن القادمين منها والذاهبين إليها. هو يعيش في القطارات، ولا تخطو قدماه خارج أي محطة يمر عليها. حياته سفر متواصل؛ حيث رجوعه إلى البيت في نهاية اليوم ليس استقرارًا في وِجهة معينة، وإنما مجرد غفوة مؤقتة لمسافر أزلي لا يغلق عينيه طوال الطريق. 

وراء نافذة بيته يفكر في أنه منذ فترة راح ما يأكله أو يشربه ينتهي على الفور بمجرد البدء في تناوله؛ يفرغ كوب الماء في يده بمجرد أن يرتشف منه قدرًا ضئيلًا، يفرغ طبق الطعام بعد الملعقة الأولى، كل أكواب الشاي وفناجين القهوة، وكل أرغفة الخبز وثمرات الفاكهة تنتهي فجأة بلا كشف أو تفسير وهو لم يأخذ منها سوى رشفة أو قضمة واحدة. كأن كائنًا آخر خفيًا يلتهم طعامه وشرابه. لهذا لم يعد يشبع. أصبح جائعًا وعطشانًا بشكل متزايد طوال الوقت. كأن كائنًا آخر خفيًا يأكل ويشرب من جسده.

وراء نافذة القطار يشرد بصورة مباغتة وسط حكايات المسافرين متذكرًا أنه في طفولته كانت أمه تستخدم المصيدة لقتل الفئران. كانت تضعها فوق حافة شباك المطبخ مساءً، وبعد استيقاظه في الصباح وأثناء عبوره نحو الحمام المواجه للمطبخ؛ يشاهد الفأر مسجونًا ويرتعش بقوة بعد أن أكل السم الذي بداخلها حتى تخمد حركته تدريجيًا. لم يكن يعرف ما الذي يحدث له حين تُغلق عليه المصيدة. كان يعتقد أنها رعشة فقدانه للحرية وحسب، وأن الموت نهاية منطقية لهذا الفقدان. لم يكن كبيرًا حينئذ لكي يشعر بالألم من أجله. كان الفأر شيئًا يستحق الاحتجاز والموت بما أن أمه تفعل به ذلك. لكنه كان منتبهًا أيضًا ودون وضوح تام أو تعمّق في التفكير إلى أن العصافير التي اعتادت التحليق والوقوف وربما الإقامة في مَنوَر البيت قد شاهدت ما حدث للفأر. ما حدث لكل فأر اصطادته أمه.

وراء نافذة بيته، وكانت خمسة شهور تفصله عن عامه السادس والأربعين؛ اقتحم ذهنه خاطر مفاجئ بأن سر شقاء الماضي لا يكمن في ما تحدث به مع الآخرين، وإنما في ما لم يتكلم معهم عنه. ظلت هذه الفكرة تناوشه في الأيام اللاحقة كلما جلس وراء النافذة حتى شعر بغصّة البكاء تتمطى في حلقه. حاول أن يكتم دموعه لكنه لم يستطع. اجتاحته نوبة بكاء ثقيلة بعد أن تحولت الفكرة في أعماقه إلى يقين. كان بكاؤه مزيجًا من الابتهاج والحسرة. لقد عرف الحقيقة، ولكنه أدركها متأخرًا جدًا بشكل فادح. ما الذي يمكن أن يفعله الآن؟ فكر في أنه لو حاول تذكر حياته من بدايتها بدقة متناهية لتمكن من التوصل إلى الموضوعات الصحيحة التي كان يجب أن يتبادلها مع من حوله. ربما استطاع خياله – على الأقل – إزاحة تلك الأحاديث التي تمت في الواقع لبعض الوقت. لكنه حينما بدأ في ذلك؛ وجد نفسه أمام اكتشاف جديد. تبين له أنه قد حاول بالفعل أن يتكلم وهو طفل في الأشياء الصائبة. كان صوابها بديهيًا بالنسبة له. ماذا حدث إذن؟ رفض الجميع كلماته، وأجبروه على استبدالها بكلمات أخرى. بمرور الزمن تعوّد على استخدام الموضوعات التي يستعملها الآخرون. أصبحت هي أو الصمت. لم يتوقف اكتشافه عند هذا الحد. انتبه إلى أن ما كان يريد أن يتحدث به قد راح يتلاشى تدريجيًا من داخله. احتلت الحوارات التي يتبادلها مع من حوله موضع تلك الكلمات. حتى أنه لم يعد يتذكرها. لم يعد قادرًا على استعادتها من جديد ولو كأطياف عقلية خالصة. تأكد في النهاية أن سر شقاء الماضي يكمن في أن ما كان يجب أن يتحدث به لم يتوقف غيابه عن الانتقام.

وراء نافذة القطار أراد بشدة أن يخبر المسافرين بالأشياء الجميلة التي يفعلها مُكرهًا: الكتابة .. استعادة الذكريات .. سماع الموسيقى .. قراءة القصص ..  مراقبة المطر .. لكنه بالطبع لم يحقق هذه الرغبة؛ إذ لم يكن بوسعه أبدًا أن يجيبهم على السؤال المتوقع: لماذا تشعر بالإكراه وأنت تفعل ذلك؟ لم يكن بوسعه مواجهة ما سيترتب على امتناعه عن الإجابة.

وراء نافذة بيته يشعر أن جسده في غفلة خبيثة قد تحوّل بمرور السنوات إلى تابوت. حتى أن كل ما قاله أو خطر في ذهنه طوال تلك المدة من الفقدان والحسرة لم يكن تنبؤًا على الإطلاق، أو تمهيدًا لذلك من المقاومات العبثية. الاستيقاظ على التابوت مفاجأة غير متوقعة في جميع الأحوال. وحينما أدرك هذه الحقيقة؛ كان كل شيء قد اكتمل: الثقل الهامد .. البطء المترنّح .. التحجّر المسنون .. النار تعتصره من الداخل في جمود تام .. هو التابوت، وأيضًا هو الطفل غير المرئي الذي يحمل التابوت. لو أن الطفل الذي كانه هو من في الداخل لأصبح في ذلك نوع من الابتذال. لا، التابوت مغلق على ظلال خفية لهذا الطفل، تشابكت وتيبّست إلى أن أدركها العفن. أرواح متوارية تتقلّص وينتفض صدؤها، كأنها خيالات الماضي وقد باتت أشلاءً أو عصارة الميت.

وراء نافذة القطار يعتبر نفسه جالسًا بين منتحرين وقتلة. لن يفكر أي منهم في الانتحار أو القتل قبل الإقدام على ذلك ولو بلحظة واحدة. سيجد كل منهم نفسه يفعلها فجأة وحسب. كأن حياته كلها لم تكن سوى تجهيزًا خفيًا للانتحار أو القتل، أو كأن الإنهاء المتعمّد لحياة ما له موعد محدد، لا يدرك أحد شرطه. كأن الوجود نفسه هو ذلك الشرط، حيث ما يُسمى “موت طبيعي” هو انتحار وقتل معًا في صيغة متنكرة.

وراء نافذة بيته يقول لنفسه هازئًا: “حينما تصبح كبيرًا بما يكفي لأن تصل إلى تلك اللحظة؛ سوف تشعر بيقين أن جسدك كان يغافلك طوال هذه السنوات، وأنه كان يذهب وحده إلى أماكن لا تعرف عنها شيئًا. في الوقت نفسه، وكلما تذكرت حدثًا في الماضي البعيد، أو حكيته لأحد، أو تطلعت لصورة توثقه؛ فإن مسحة من الشك ـ على الأقل ـ ستساورك في أنك كنت موجودًا هناك. شيء من عدم تصديق حضورك في تلك اللحظات القديمة، حتى وأنت تنظر لنفسك داخلها. ربما ستردد: كيف كنت هناك؟ هل هذا أنا حقًا؟ هل ذلك ما حدث بالفعل؟ .. ليس من قبيل الاستنكار، وإنما من باب الرفض الحقيقي، عدم القبول الفعلي، الشعور بأن ثمة ما يريد إجبارك على الاعتراف والإقرار بما لا تعتقد جديًا أنك قد مررت به، مهما كانت الدلائل والإثباتات. الأغرب في الأمر، وربما يكون هو الشيء الأكثر منطقية، أن عمرك قد ينتهي قبل أن تكتشف الصلة بين الشعورين”.

أيهما نافذة بيته وأيهما نافذة القطار؟

النافذتان متماثلتان، حاضرتان ككيان واحد، ثابت، ومستقر. أما هو فعدمٍ تتقاذفه البلادة. مكوّن من (لا شيء) يحاول معالجة ما أهدره، والذي ما كان سيستمتع به لو تمكن من القبض عليه. (لا شيء) يحاول معالجة ما اختبره فعلًا، كأنه يريد البرهنة على أنه لم يستمتع به. ثمة مرايا طائشة، مفتتة أمام نافذة البيت ونافذة القطار؛ ينظر من خلالها إلى وجهه فلا يشعر أنه يمتلك هذا العمر. ما كافح للقيام به هو ما كان يجب أداؤه كطقوس محتومة فحسب. (لا جدوى) ترتدي ملابس الانزواء في البيت، أو ملابس الانزواء في عربة القطار. شذرات مبعثرة من الأوهام. أقصى ما يستطيع أن يصف به الذكريات أنها مجرد مَشاهد، ربما اختلقها شيطان مختبئ، وكان عليه أن يسردها على ذلك الذي يدعي الجلوس وراء كل نافذة. يسردها بشكل متعجل ولا يمكن استيعابه.

 موقع "الكتابة"

14 مايو 2024

امرأة محبوبة / ديب أولين أونفيرث ـ ترجمة: ممدوح رزق

كانت تستطيع أن تتعرّف على نفسها ككائن لم يعد محتملًا .. في كل مرة تفتح فمها تقول شيئًا بشعًا دون استيعابه .. أصبحت المحبة تتقلص تجاهها من الجميع: الغرباء .. الأشخاص الذين تحبهم .. البشر الذين تعرفهم بمستويات محدودة، وكانت تأمل أن يكونوا ذات يوم من أصدقائها .. حتى لو لم تقل أي شيء .. حتى لو كان ما تفعله يبدو عاديًا .. مجرد الانطباع الذي يظهر على وجهها، أو النبرة الناعمة التي تتعمّدها في ردود أفعالها؛ كل ذلك كان غير مرغوب فيه دائمًا، باستثناء الحالات القليلة التي نجحت خلالها في إقناع الآخرين بأنها ما زالت إنسانًا يستحق المحبة، ولمدة لا تتجاوز الثواني الأربع .. أكثر من ذلك كان مستحيلًا.

لماذا لا تستطيع أن تكون محبوبة؟ .. أين المشكلة؟ .. هل لم تعد تستمتع بالعالم؟ .. هل ابتعد العالم عنها؟ .. هل أصبح العالم أسوأ؟ .. ربما، وربما لا .. ربما أصبح العالم أسوأ بطرق عديدة، ولكن ليس بالكيفية التي تحوّلها لامرأة غير محبوبة .. هل لم تعد تحب نفسها؟ .. حسنًا .. لم تعد تفعل بالطبع .. لكن هذا أيضًا ليس بالشيء الجديد.
ربما أصبحت ببساطة أقل جدارة بالحب نتيجة التقدم في السن .. لم تتغير عاداتها، ولكنها الآن في الواحدة والأربعين، وليس العشرين .. أصبحت غير محتملة لأن ما تفعله أي امرأة في الواحدة والأربعين لن يكون مرغوبًا مثلما تفعله امرأة في العشرين .. هل تشعر بهذا حقًا؟ .. هل تدرك في أعماقها أنها غير محتملة بالفعل، وأنه ينبغي بدلًا من مقاومة الأمر، أن تنحني أمامه كما لو أنها تتعرّض لريح باردة؟ .. ربما اعتادت أن تقاوم، لكنها الآن تشعر بعدم الجدوى .. لهذا عندما تفتح فمها كل صباح ستكون امرأة غير محبوبة على نحو متفاخر .. قبل النوم كل مساء لن يكون مرغوبًا فيها، وستواصل الحياة يوميًا بهذه الطريقة .. ستستمر في إعطاء الأشياء القبيحة للآخرين، والحصول على المزيد من عدم المحبة كل ساعة، إلى أن يأتي صباح ما وتكون امرأة مكروهة تمامًا .. غير محتملة بشكل مزعج للغاية، بحيث يتعيّن ركلها إلى حفرة ما وتركها هناك.
______________________________________
ديب أولين أونفيرث: كاتبة وروائية وكاتبة قصة قصيرة أمريكية
مواليد 1968في الولايات المتحدة ـ تخرجت من جامعة جامعة سيراكيوز 1998
حصلت على جائزتي Pushcart، وUnferth كما تعمل أستاذة مشاركة في الكتابة الإبداعية بجامعة تكساس في أوستن ، حيث تقوم بالتدريس في مركز ميشنر ومشروع الكتاب الجدد.
أسست وتدير برنامج Pen-City Writers ، وهو برنامج لشهادة الكتابة الإبداعية مدته سنتان في أحد السجون مشددة الأمان في جنوب تكساس، حصلت بهذا العمل على جائزة خدمة العدالة الجنائية لولاية تكساس لعام 2017

جرح على جبين الرحالة ليوناردو: بصمة العابر

كيف يمكن للجرح الجسدي أن يكون ملاذًا روحيًا غير مشروط بتمثله الظاهري، طارئًا كان أم مقيمًا؟ .. متى يكون هذا الجرح كاشفًا عن "الجرح الرئيسي" أو "مرض الولادة" الذي لا شفاء منه بتعبير سيوران؟ .. ما الذي يجعل هذا الجرح تلصصًا على قهر الحياة والموت، لا بوصفه اعتداءً حسيًا، وإنما باعتباره إشارة دامغة لذلك الانفصال الغامض بين الذات وملكوتها من قبل أن توجد كقرينة للعدم؟

"لم تستطع أن تتحدث إلى جراحك السابقة، لأنك لم تشعر بها قط، لكن ما إن شعرت بي حتى رحت أتحدث إليك؛ إن معظم الجرحى لا يستطيعون التحدث إلى جراحهم، لأنهم لا يشعرون بها، لكنني عادة ما أتحدث إلى أولئك الذين لديهم ذات إحساسك".
تتمعن رواية "جرح على جبين الرحالة ليوناردو" للكاتب ثائر الناشف والصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون في هذا التوحد بين الذات والجرح، ليس كشيئين متباعدين يندمجان في كيان واحد، وإنما كشيء عثر على اللحظة الملائمة لكي ينتبه إلى تكوينه غير المنشطر بين "ذات" و"جرح". وكأن هذه اللحظة ـ بكل ما تنطوي عليه من ألم ـ بمثابة اهتداء إلى ملجأ باطني، تطارد "الذات" عبر أغواره المعتمة تلك المشيئة المجهولة التي حفرتها في العالم كـ "جرح".
أفكر في العفوية التي ستدفع بها هذه الرواية قارئها لاستدعاء جراحه الجسدية السابقة، وتحديدًا الجرح الذي ترك أثرًا ما، وكيف يمكن لها ـ أي الرواية ـ أن تحرّض هذا القارئ على تفحص الماضي بواسطة ذلك الجرح، كأنه صيرورة، لا ذكرى قديمة فحسب. أفكر بالضرورة في المقارنة التلقائية التي سيعقدها كاتب آخر بين جروحه التي كتب عنها من قبل وهذه الرواية.
ثمة جرح في ظهر يدي اليمنى منذ الطفولة، هو الوحيد الذي ترك أثرًا مرئيًا من بين الجروح كلها التي طالت جسدي. كتبت عن هذا الجرح نص "للبالغين فقط"، وفي روايتي "إثر حادث أليم" سردت ذكرى الواقعة التي نتج عنها، وكانت تتعلق بزميلة لي في الفصل الابتدائي:
(تسبب الطرف المعدني الحاد لحقيبتها في إصابة ظهر يدي بجرح لا يزال أثره واضحًا حتى الآن .. كانت تعلّق الحقيبة الكبيرة فوق ظهرها، وكنا نتحرك لمغادرة الفصل بعد انتهاء اليوم الدراسي .. مرّت بجانبي في اللحظة التي رفعت خلالها بالصدفة يدي اليمنى لسبب ما دون أن أنتبه لحقيبتها فحدث الاحتكاك المؤلم الذي جعل الدماء تتدفق بغزارة .. أسرعت إلى أحد صنابير الفناء كي أغسل يدي لكن الدماء لم تتوقف فربطت الجرح بمنديلي القماشي الأبيض وعدت إلى البيت .. وضعت أمي الـ "الميكروكروم" فوقه، وأعادت ربط يدي بالشاش، وطلبت مني أن أبقيها مرفوعة .. تمددت على الكنبة أمام التليفزيون، وأرحت يدي فوق رأسي مدة كبيرة .. عن هذا الجرح كتبت منذ زمن طويل هذا النص بعنوان "للبالغين فقط":
رغم الشيخوخة/ التي أعطتني شحوبًا مقاربًا/ للون جلدك/ ورغم الشعيرات الصغيرة/ التي حاول بواسطتها الزمن/ أن يخفيني/ لا زلت واضحًا/ على الأقل بالنسبة لك …/ لم أكن مجرد جرح عادي/ حفره بغدر طائش/ الطرف المدبب لحقيبة مدرسية/ معلقة على ظهر تلميذة الابتدائي/ أنا النبوءة التي لم يبطلها "الميكروكروم "/ والتذكار الذي لم تمحوه ضمادة منزلية./ لم أعد الغريب الذي كرهت طفولتك/ تطفله المؤلم/ ولا العابر الذي لم تصدق شرفتك/ خلوده./ أصبحت منذ سنوات طويلة جدًا/ وبالتدريج اللازم للتعايش مع انتهاك ما/ صديقًا لم تعد في حاجة للنظر إليه/ حتى تتأكد من بقائه …/ الذي لم يسأم المشي بكل عكازاتك/ وكراسيك المتحركة/ ولا مشاركتك الانحناء/ تحت المؤخرات الثقيلة... / المقيم معك على الطرق فائقة السرعة/ حيث تنتظر حافلة إلى الرحمة/ لا يلتقطها رادار الغيب/ ولا يوقفها شرطي مرور السماء …/ مؤرخ "الاشتغالة" الغامض/ الذي لم يتعب من التنقل وراءك/ طوال الحياة/ بين الكواليس المعتمة/ وجمع العظام/ التي يتركها الجائعون/ من روحك/ بخبرة كيس قمامة عجوز/ طالما طيّره هواء الشوارع/ وتكوّم تحت طاولات المقاهي/ وطردته البيوت إلى السلالم الخلفية/ …/ أنا الخط العرضي الصغير/ الذي أصبح جزءً من التكوين الطبيعي/ لظهر كفك/ والذي ربما من حين لآخر/ تسمعه يخاطبك بطريقة ما : "ألم أقل لك؟!").
إن الجرح بهذه الكيفية يمثل تعريفًا للكتابة. التيقظ للجرح هو إدراك ما تعنيه الكتابة كحفر في سره. الكتابة هنا هي الذات التي تحفر في سر جرحها، أي في سر نفسها. وكأن هذا الثقب في رواية "جرح على جبين الرحالة ليوناردو" يتحوّل إلى "الملكوت المضاد" أو "الثأر الروحي" للذات من "جريمة ولادتها". وعلى هذا النحو يمكن التحديق إلى "الخلود" الذي يتسم به الجرح.
"إني صوت روحك الذي لا يخمد، ألا تذكر ما قاله ليوناردو؟ إذ قال إن الجراح خالدة؛ إنني أشعر بذاكرتك المشوشة تحت تأثير تلك الملاءة ونظرات الأطباء والمسعفين؛ لا شك في أن صورتي الظاهرة لعينيّ الطبيبة عن طريق الثقب ستتغير بعد الرتق مثلما تتغير صورتها البهية من يوم إلى آخر، فلا أحد يستطيع أن يحافظ على صورته النقية، لكنه قد يستطيع الاحتفاظ بصوت روحه إذا ما شعر بها".
أفكر في هذا الجرح القديم لا باعتباره "حادثًا" وقع في بداية حياتي، وإنما "علامة استشرافية" كشفت عن نفسها فتحوّل من "صدفة" أقرها الواقع إلى "وخزة تخييلية" لتأمل "الطريق الغيبي الممهد" لوقوعه. هذا يعني أن "الجرح" يسبق قطعًا تلك اللحظة القديمة التي أصاب خلالها الطرف المعدني الحاد لحقيبة زميلتي في الفصل الابتدائي ظهر يدي، وما كانت تلك اللحظة إلا تجسيدًا دالًا لخفائه الرابض في ما قبل الزمن. ما كان لهذا التجسيد أن يتم حقًا لو لم أدركه كبداهة غير مفهومة، كأصل محتوم لا يمكن تبريره، لو لم أؤرق به كنبوءة مترصدة، كوعيد غائم لا أمل في الانفلات من تدابيره الإيهامية. لكن ذلك لا يرتبط بالأثر المتعين الذي يتركه الجرح سواء كان مؤقتًا أو دائمًا. ثمة جروح لا تترك أثرًا ملموسًا ولكن حدوثها، أو "اكتشافها" بشكل أدق يمثل دافعًا أقوى لهذا التأمل. في طفولتي أصبت بجرح أكثر هولًا وإيلامًا وأكثر غرابة بالتأكيد من ذلك الذي ألحقته بي حقيبة البنت الصغيرة، كتبت عنه أيضًا في "إثر حادث أليم"، وبالرغم من أنه لم يخلف بصمة مستديمة إلا أن تأثيره كان أشد ضراوة في تشكيل وعيي الذاتي بـ "الإرادة المستترة للجحيم" التي أصبح هذا الجرح دليلًا حاسمًا لها:
(ماكينة خياطة "سنجر مرسيدس" كانت تستعملها جدتي وأمي وأختي، وكانت توضع أمام الكنبة بجوار حجرة والديّ، وأحيانًا كانت تنتقل صباحًا إلى داخل هذه الحجرة لتوضع بجوار البابين المغلقين للبلكونة ذات الشيش المفتوح .. كانت جدتي تجلس خلفها ـ حيث أبي في عمله خارج البيت ـ وتفصّل الملابس .. كانت الصالة وحجرة والديّ تمتلئان أحيانًا ـ عندما تعمل ماكينة الخياطة وقتًا طويلاً وأيامًا متواصلة ـ بالأقمشة، والقصاصات، وبكرات الخيوط بالإضافة إلى "المازورة" الملونة في أحد وجهيها بالأصفر، وفي الوجه الآخر بالأبيض والأحمر والأخضر ـ كالتي كان يستعملها "يوسف شعبان" في مسلسل "عيلة الدوغري" ـ وكذلك المتر الخشبي القديم ذي اللون البني الفاتح .. لي تجربة مروعة مع هذه الماكينة كتبتها في نص قديم اسمه "الحبل السُري":
"بينما كان صغيرًا/ كان يراهم يضعون القطع القماشية الممزقة/ أو المنفصلة عن بعضها البعض/ أسفل إبرة ماكينة الخياطة/ ثم يديرون المقود الدائري/ لتتحرك الإبرة سريعًا فوق ثقوب القماش والقطع المتباعدة/ فتختفي الثقوب/ وتتلاحم القطع المتباعدة/ كان مبهورًا بما يراه/ حتى أنه انتهز فرصة عدم انتباههم له/ وابتعادهم عن ماكينة الخياطة/ وقرر أن يمارس الأمر بنفسه/ لم يبحث عن قماش ممزق ليرتقه/ أو قطع متباعدة ليلحمها/ فقط/ وضع إصبعه الصغير أسفل الإبرة/ وأدار المقود/ بالطبع/ كانت هناك دماء كثيرة/ وصرخات كثيرة/ وألم كبير/ لكنه بعد أن انتهى من البكاء/ وبعد أن صار إصبعه ملفوفًا بضمادة سميكة/ لم يعرف لماذا فعل ذلك/ لماذا وضع إصبعه بديلاً للقماش / حتى بعد سنوات كثيرة جدًا/ لم يعرف/ فقط/ كان يشعر بضرورة ما فعله/ حتى أنه إلى الآن/ وكلما وقعت عيناه على ماكينة خياطة/ يظل يتأملها طويلاً/ ثم بشكل تلقائي جدًا/ يجد نفسه متوجهًا في صمت/ نحو أية مرآة قريبة".
أريد الآن أن أذكر شيئين أساسيين في هذا الحدث: الأول أن إبرة ماكينة الخياطة اخترقت إظفر إبهامي من المنتصف وخرجت من الناحية الأخرى .. الثاني أن أمي حينما رأت المشهد لم ترفع إبرة الماكينة بالمقود، وإنما بجزع ودون تفكير أسرعت بجذب يدي بقوة والإبرة واقفة بثبات داخل إبهامي مما أدى لتعاظم المأساة .. الغريب جدًا أن ما حدث في هذا اليوم لم يترك أي أثر في إصبعي، وهو ما لا أستطيع استيعابه حتى الآن).
التيقظ إلى الجرح الشخصي / الكتابة هو ارتحال مخاتل في ذاكرة الآخرين، تنقيب في أقدارهم، استراق محموم إلى متاهاتهم، مطاردة لكوابيسهم، ليس بالانتباه إلى الأثر الملموس على أجسادهم فقط، وإنما إلى الشقوق المتوارية التي تومئ بها هذه الأجساد أيضًا. وكأن الذات تلاحق صورها الممزقة في كل احتمال للغياب. هكذا تبدو مغامرة الرحالة ليوناردو في الرواية كأنها عبر أزمنة لم يعشها جسده، ولكنها تركت حكاياتها في جرحه.
"تذكر وأنت تشاهد صورتي التي رأيت فيها صورتك الحية، أن هناك بشرًا لا يزالون يشاهدون صورتك النقية بعين الماضي البعيد، مثلما تشاهد صورهم بعين الحاضر. للوهلة الأولى انتابك شعور غامض بأني جزء من الماضي الغابر، لكنك ما إن رأيت صورتي حتى اكتشفت أن الجرح جزء أصيل من الروح المرتحلة من مكان إلى آخر. عليك أن تتذكر دائمًا أنه كان هناك إنسان ما يشبهك في الماضي وأنك تحمل نفس جراحه القديمة، أما الجسد فلا يلبث أن يفنى لكي تخرج أنت إلى الدنيا، ولتكون على ذات صورته القديمة، فتتابع خوض صراعاته وانتكاساته ومغامراته في الحياة. يجب أن تبحث عمّن يشبهك في خصالك، وليس مهمًّا أن يكون إنسانًا حيًا، بل لو كان جرحًا على جبين من يشبهك في الماضي".
ليس الجرح المرئي هو ما يجعل الذات أو "مأساتها" بالأحرى واضحة، ويمكن ملامستها، وإنما ما تقرر الذات أن تقوم به تجاه جرحها المخبوء حتى تجعله كذلك. ما تعرف حينئذ أن هذا ما يتعيّن عليها فعله، لا لأنها والجرح شيء واحد، وبالتالي حين تسرد نفسها فإن جرحها هو الذي سيتحدث، حتى بما لم تكن تعتقد الذات أنه صوتها وحسب، وإنما لأن ما تخاطبه أيضًا كل مروية لهذه الذات يبدو كأنما يتضاءل كلما كان للجرح "بصمة" / كتابة. يتجرد المجهول من وحشيته، في اللحظة التي يداعب خلالها الخيال ذروتها الهزلية.
"أخبار الأدب"
5 مايو 2024