هذه شاعرة تعزف سيمفونية الألم الإنساني المركّب، تسرد قصة الصوت العجيب الذي يصدره الجسد عندما يحترق بكامل زينته، تنسج لوحات هزلية قصيرة بألوان الحياة التي تنطفئ بغتة مثلما اشتعلت فجأة. البشر بالنسبة إليها أشخاص يشاركونها الإقامة والغياب في حكاية العالم المصوّرة. والخيال لديها هو "القدرة على العيش في مستقبل شخص ميت"، أما الحزن فهو "ارتداء ثوب الميت إلى الأبد".
هي الشاعرة الأميركية المعاصرة فيكتوريا تشانغ، التي تمارس الكتابة في حقول متنوعة إلى جانب الشعر، ونالت جوائز عدة، منها جائزة صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأميركية لعام 2021 في مجال الشعر، وغيرها. وقد صدرت مختاراتها الشعرية حديثاً عن دار عرب، بترجمة المصري ممدوح رزق.
تبلور قصائد فيكتوريا تشانغ (من مواليد ديترويت، ميشيغان، عام 1970)، راهن الشعر الأميركي بتجلياته وانزياحاته وتطوراته، وانفتاحه على التجارب والخبرات الشخصية على نحو مباشر صريح، وانخراطه في ملامسة المواقف العابرة والتفاصيل اليومية، واتكائه على آليات الحكي والصيغ الدرامية والمشهدية، ومزجه بين سرعة الالتقاط التصويري والنزعة التأملية التحليلية. ذاك أملاً في الوصول إلى ما وراء الأحداث، وقنص الجوهر الكامن تحت السطح، ورؤية الذات بوضوح ولو من خلال الثقوب الضيقة: "العطش لرؤية أنفسنا، في كل شيء، حتى في الشقوق الحلوة، لثمرة معطوبة".
فقاعات الكلمات
في مختاراتها الشعرية، تثبت فيكتوريا تشانغ مجموعة من التواريخ المحددة في افتتاحيات بعض قصائدها، وهي القصائد التي تتناول فيها تسجيلاً توثيقيّاً لحالات موت تخصها: موت الأب، موت الأم، موت الفستان الأزرق، موت الراعيات... وخلف هذه المآسي والذكريات، هناك دائماً "الاكتئاب" الذي يعتصرها بعنف، مثل "قفاز سميك يقبض على القلب".
وقد يكون للشخص أو الشيء الواحد أكثر من موت كلي أو جزئي، حقيقي أو مجازي، كما تحكي عن أمها: "ماتت مرتين: الأولى بسبب أمراض اللثة عام 1965، والثانية في 3 أغسطس (آب) 2015"، وكما تحكي عن أبيها "مات الفص الجبهي لأبي بسكتة دماغية وحشية في 24 يونيو(حزيران) 2009، في مستشفى سكريبس التذكاري في سان دييغو، كاليفورنيا". وتسرد قصة ملابسها "ماتت في 10 أغسطس 2015/ حشوناها في أكياس العشب للتبرع بها؛ قميصاً بعد قميص، ياقة بعد ياقة، فستاناً بعد فستان، طرفاً بعد طرف/ قفز قليل منها في وجهي، مثل لهب في كابوس".
تقف الشاعرة عادة عند كل حالة موت من هذه الحالات، عاجزة عن فهم ما يحدث من غروب للبشر وظلالهم وآثارهم، وامّحاء للموجودات والصور، وأفول للأشياء، وتقطّع للعلاقات والظواهر، في عالم هش، يشبه في صعوده وسقوطه رحلة فقاعات الكلمات: "معظم الكلمات التي نقولها ذات علاقة بالأسماك، حين ترحل، تتلاشى الكلمات".
وإذا كان الآخرون يظنون أن كلمات الميت تموت معه، فإنها ترى هذه الكلمات وهي تتناثر في الشتات، وتبحث عن معنى تعلق به مثل الرائحة، لتتخفف من غموضها وعصيانها على التأويل. وفي فضاء الحيرة، فإنها لا تكاد تعلم إن كانت هي نفسها حاضرة أم غائبة، متماسكة أم ذائبة: "في بعض الليالي، أستيقظ مذعورة/ لا أستطيع معرفة إذا كنت حية أو ميتة/ هذا العام صبغتُ شَعري حتى لا أضطر للموت".
ويستوي عدم إدراكها الطبيعة المراوغة للموت، وعدم فهمها طبيعة الحياة المتذبذبة كبندول الساعة، بكل آمالها وآلامها، وأحلامها وكوابيسها، ومسرّاتها وملذاتها المتبخرة، ولحظاتها المشروخة والمبتورة: "أمي لم تستطع التنفس، ثم أخذت أنفاسها الأخيرة بعد عشرين ثانية/ الطريقة نفسها التي تخيلتها لقبلاتي مع الكثيرين، مع رجال لم أقابلهم قط".
اكتمال الدائرة
وفي مواجهة هذا الغياب الذي يحاصرها من كل جانب، والانهيارات التي تلاقيها عند كل منعطف، فإن الذات الشاعرة لا تملك غير أن تدفن الاشتياق "التوق" في الغابة، وتنزلق وحيدة مع الوجع صوب المنحدر في الطريق إلى الهاوية السحيقة، في حين تبقى تساؤلاتها متدفقة بحيوية وخصوبة من دون خفوت أو ذبول: "أتساءل عما إذا كان الناس لحظة الموت، يسمعون جرساً، أو يشعرون بمذاق حلو في أفواههم، أو بسكين يقطع أجسادهم إلى نصفين، ثم يُنزع اللحم من الداخل، مثل كعكة الورقة".
تنظر الشاعرة فيكتوريا تشانغ إلى كل ما في هذا الكون في سياقه الحركي الدائري، المكتمل المنتظم، ولا تشذ عن تلك النظرة رؤيتها لدائرة: "الحياة/ الموت/ الحياة مرة أخرى". وإن لم تكن لدينا شواهد دنيوية على ابتعاث الراحلين، فهناك رسائلهم ووصاياهم التي تصل الماضي بالحاضر، وبإمكانها أن تصل أيضاً إلى المستقبل، وتصنع أيام الأجيال الآتية: "يخرج أبي من رسائله/ تعيش معي حروفه ذات الرؤوس الصغيرة، التي ستغادر الرسائل لتعتني بأطفالي لاحقاً/ وصايا أبي سوف ترعاهم".
التحرر كفكرة
وبالتوازي مع نزعة الشاعرة إلى النفاذ إلى الأعماق: "هناك القليل من المجاذيف في داخلك، تحاولين أن تقودي بها قواربك الصغيرة"، ومحاولتها قراءة الذات والآخرين من الداخل، ولو من خلال الثقوب والشقوق، فإنها تتمنى تجربة الطيران مع الغربان، بعيدًا عن علامات الاستفهام. كما أنها تقترح الخروج من الصندوق الضيق المظلم، إجابة عن كيفية الاستمرار في هذا الوجود المعقد المتشابك: "ربما يكون الهدف هو أن نستهلك كل الضوء".
كذلك، فإنها تقدّم الحرية فكرة وحلّاً للانفلات من القوانين الخارجية المفروضة، والخلاص من الدوامات المتكررة، التي صبغت الأنفاس بالنمطية، ودقات القلب بالسأم والعُقم: "ما فائدة الباب إذا كنت لا تستطيع الخروج؟/ الباب الذي لا يمكن فتحه يسمى جداراً/ النافذة التي لا يمكن فتحها هي فقط جدار شفاف".
أما طَرْق الأبواب والنوافذ لديها فهو بحد ذاته فعل التحرر والتغيير الإيجابي، ولو أدى ذلك الفعل الأوّلي البسيط، إلى مجرد إحداث صوتٍ صاخب أو العبور الوهمي إلى الضفة الأخرى من المتاهة، من دون نجاة فعلية، ومن غير تعديل للأوضاع البائسة: "غادرتُ الحجرة بهدوء/ فهمتُ حينئذ أن الظلام يسقط بلا نهاية".