تأخذه أمه إلى المطبخ وتضع الشطة في فمه .. كان صغيرًا جدًا، ربما لم يكن قد التحق بالمدرسة الابتدائية بعد أو ربما كان في عامه الأول بها .. لا يتذكر الخطيئة التي ارتكبها وقتئذ لكي يُعاقب هكذا، كما لا يتذكر احتراق فمه بقدر ما يتذكر أن ثمة من كان يقبض على ذراعيه الصغيرتين ـ شقيقته الكبرى في الأغلب ـ حتى يمنعه من مقاومة تلقي الجزاء .. بقدر ما يتذكر ارتباك أمه وهي تفعل ذلك .. كان في عينيها وملامحها وحركة يديها وهي تكوّم حفنة صغيرة من الشطة وتمررها عنوة بين شفتيه اللتين لم ينجح في إبقائهما مقفلتين؛ كان ثمة تردد غامض يبدو كأنها تقول من خلاله: “عرفت أن هناك أمهات يفعلن ذلك في أبنائهن، وربما عليّ أن أقوم بذلك أنا أيضًا” .. هل كانت تجرّب طريقة شائعة لعلاج تبوله في الفراش أثناء النوم؟ .. كانت أمه تتأرجح بين ما لا تريده، وما ترغب في أن تختبره .. بين عدم إيذاء طفلها بهذه الطريقة، وبين أن تنتهز الفرصة لتجرّب الشعور الذي حصلت عليه نسوة أخريات باستخدام أبنائهن .. هل سيكون شعورًا منقذًا لها في صورة “تأديب طفل”؟ .. هل سيفسر لها سر “الشطة” التي تحرق عمرها؟ .. خندق زجاجي واحد يمكنه أن يضم معلمة لغة عربية وامرأة أميّة في الريف وتاجرة مخدرات في منطقة شعبية .. يعتقد أنه بكى، وربما لم يحدث، لكن المؤكد أنه كانت هناك دموع في مكان ما داخله .. المؤكد أن أمه قد احتضنته في لحظة تالية لهذا المشهد .. ليست لحظة لاحقة على الفور، ولكنها ربما فعلت ذلك بعد أيام أو شهور أو سنوات .. حضن قد يبدو لا علاقة له بالمشهد ولكن ثمة ارتباط وثيق بينهما .. في قلب الطفل ستمتزج سعادته بهذا الحضن، وإحساسه المبهم بأنه مرغم عليه. كتابة هذا الحدث تعني رصد الشعور العقلي لطفل صغير بمشهد قادم .. إحساس هذا الطفل بنقصان فادح في هذه اللحظة سيتكوّن نتيجة له إدراك ما بأن الأمر لابد أن يكتمل في لحظة أخرى .. أنه في طريقه للاكتمال دون تحديد الموعد .. يشعر الطفل على نحو مراوغ بأنه محتجز داخل حافة مائعة، وأنه لابد من وجود صورة تكميلية لما يحدث الآن تحتاجها تلك الدموع المكتومة في صدره، الأكثر شبقية دون شك من تلك التي لا يتذكر هل تدفقت أم لا من عينيه إثر شعوره بالاحتراق الموزع بين فمه المشتعل واستكانته الملتذة داخل حضن أمه.
جزء من رواية قيد الكتابة