أخبرتني شقيقتي بأنها ما زالت محتفظة بكنزة صوفية قديمة لأبي، كان يرتديها تحت ثياب النوم في ليالي الشتاء الباردة. كنت أجلس في منزلها ذات مساء شديد البرودة، ولم أعط اهتمامًا كبيرًا لما قالته. لكنها طلبت أثناء توديعي عند الباب في نهاية زيارتي الأسبوعية لها أن آخذ الكنزة لأرتديها في هذا “الطقس السيّئ”. رفضت بتلقائية مدفوعة بنوع من الاستنكار، ومع ذلك ظلت تلح عليّ كأنها مسألة شديدة الأهمية بالنسبة لها. نعم، كانت كذلك بالفعل. أن أرتدي ملابس أبي فهذا يعني ارتداء موته. هكذا كان الأمر محسومًا داخلي. الموت الذي لا يعني فناءه وحسب، وإنما الحياة التي سبقت نهاية عمره بالضرورة. كنت أريد التخلص من إصرارها والمغادرة سريعًا فأخذت الكنزة منها، متأكدًا بالطبع أنني لن أستعملها.
لم يكن الطقس باردًا أكثر من الأيام السابقة، ورغم ذلك نظرت إلى كنزة أبي قبل النوم وتساءلت في نفسي: “لما لا أجربها حقًا، بصرف النظر عن أي شيء وعلى سبيل التغيير؟”. ارتديت الكنزة تحت ملابسي ثم أطفأت ضوء الحجرة وتوجهت إلى السرير.
رأيت أبي يجلس على حافة شباك حجرة نومي في الطابق السادس، ظهره للشارع ووجهه لي. أمام الباب المغلق؛ كنت أقف في بداية الحجرة بجسد مرتجف رغم الكنزة الثقيلة، أتوسل له أن ينزل من على حافة الشباك كي لا يسقط، وفي نفس الوقت أسمع طفلتي تطرق الباب بقوة وتطلب مني أن أفتحه. لكن أبي كان هادئًا، مبتسمًا، في عينيه طمأنينة جنونية، ويهز قدميه في جذل كالأطفال. قال لي: “أريد أن أخبرك بسر حياتي”. نبرته تبدو كما لو أنه سيخبرني بسر الكون وليس حياته فقط، أو أنني شعرت بها كذلك. رفع يديه اللتين كانتا تستندان إلى الحافة، وبدأ يرسم بأصابعه في الفراغ أشكالًا مبهمة، بالتزامن مع حركة شفتيه بكلام دون صوت. حاولت أن أفهم ما الذي تعنيه هذه الرسومات الخفية والكلمات غير المسموعة مع تزايد رعبي من سقوطه، لكنني عجزت عن ذلك. بدأت أفكر في احتمالات لغوية لكل الأداءات والإيماءات الصامتة التي يقوم بها. في عقلي؛ رحت أكتب ما أتصوّر أن أبي يقصده، موقنًا أن تلك الحصيلة المتزايدة من الاستنتاجات تخصني أكثر مما تتعلق به. مع هذا؛ حتى ما أكتبه في عقلي لم يكن مستوعبًا تمامًا بالنسبة لي. لم أملك سوى مواصلة الكتابة فحسب حتى استيقظت.
في اليوم التالي كان أبي لا يزال جالسًا على حافة الشباك، لكنني كنت أقف متقدمًا خطوة باتجاهه، وطفلتي تواصل طرق باب الحجرة المغلق وتناديني لكي أفتحه. توسلت لأبي مجددًا أن ينزل، لكنه ظل محتفظًا بنفس السكينة المخبولة والملتذة. مرة أخرى قال لي وبالنبرة ذاتها: “أريد أن أخبرك بسر حياتي” ثم عاد يرسم بأصابعه في الفراغ ويحرّك شفتيه؛ فرحت أكتب في عقلي المعاني التي أظنها داخله دون أن أفهمها كليًا ثم استيقظت.
كل ليلة يتكرر الأمر. شيء ما يجبرني على البقاء مرتديًا الكنزة الصوفية، وأرى نفس الحلم باختلاف وحيد؛ مكان وقوفي الذي يقترب من أبي يومًا بعد آخر، إلى أن وجدت نفسي فجأة بعد الاستغراق في نوم بالغ العمق جالسًا على حافة الشباك، مكان أبي الذي لم يعد موجودًا. رأيتني أرسم بأصابعي في الفراغ أشكالًا مبهمة، وأحرّك شفتيّ بكلام دون صوت بينما طفلتي تقف أمام الباب المغلق مرتدية الكنزة القديمة وتتوسل لي أن أنزل.
اللوحة لـ Edward Hopper