الأحد، 5 فبراير 2023

وداعًا همنغوي: جثة الظل الفقير

 

في الرسالة التي وضعها داخل زجاجة وألقى بها في البحر إلى صديقه أندريس الذي رحل إلى الشمال؛ كتب "ماريو كونده" بطل رواية "وداعًا همنغوي": "وأنا الذي ما عدت شرطيًا، وما زلت عاجزًا عن كتابة حكاية رقيقة ومؤثرة، مؤثرة بحق".

ماذا لو كانت "وداعًا همنغوي" هي تلك الحكاية التي لم يتمكن من كتابتها الشرطي المتقاعد وبقيت كامنة داخل أكثر أغوار نفسه عتمة وإبهامًا؟ .. ماذا لو أن ذلك الشرطي الفدرالي الذي عُثر على جثته في مزرعة "بيخيا" والتي أقام إرنست همنغوي فيها بيته الهافاني القديم؛ ماذا لو أن ذلك الشرطي لم يكن سوى استعارة سردية لماريو كونده قائمة على الإغواء نفسه "التلصص على همنغوي"؟ .. ماذا لو كانت "وداعًا همنغوي" هي الثأر الذي لا يريد التحقق من "بابا همنغوي" أو ذلك "السافل الذي ما زال يمشي هنا" أي حيث يشير ماريو كونده إلى نقطة غير محددة في صدره؟.

"كنت معجبًا بذلك الرجل، لكنه بات أثقل على قلبي من الجبل. لقد تبيّن لي أني لا أعرفه. ولست أنا الوحيد الذي لا يعرفه، بل لا أحد في الواقع يعرفه. دعني أتحقق من الحكاية فربما أصل إلى حقيقته".

في رواية "وداعًا همنغوي" لـ "ليوناردو بادورا" والصادرة عن دار المدى بترجمة بسّام البزاز؛ لا يتعلق الأمر بالعجز عن امتلاك الحياة "الأسطورية" لكاتب "أيقوني" في تاريخ الأدب العالمي، أو بتنقية هذه الحياة من الخطايا والزيف بقدر ما يقوم على الصراع الأزلي بين "كاتب" و"الكاتب" بألف لام التعريف .. بين الشخص الذي "يكتب" وسلطة الصورة المهيمنة للكاتب النموذج أو المثال التي يجسدها همنغوي.

"ابتسم كونده ونظر إلى البحر. الخليج الصغير، الذي كان في أوقات أخرى يعج بقوارب الصيادين، بات مسطحًا مائيًا مقفرًا متلألئًا.

ـ هل تعلم مانولو؟ ... ـ توقف وتناول جرعة ـ أتمنى لو كان همنغوي من قتل ذلك الرجل. منذ زمن وأنا أستثقل ذلك السافل".

أراد ماريو كونده تصوير مقتله "المجازي" على يد همنغوي عن طريق مطاردة الدليل الذي يثبت أن من أطلق الرصاص على عميل الشرطة الفدرالية هو همنغوي نفسه .. أراد كونده أن يتحرر من أسر هذه اللعنة حين يراها متحققة بشكل مراوغ، متنكر، منفصل عن حياته المنطوية التي مرت كظل مفتون، محاكِم، ومحتقِر لحياة همنغوي .. كونده والعميل الفدرالي كانا يخوضان المسار ذاته الذي قادهما في النهاية إلى القتل: مراقبة همنغوي .. كان لكل منهما دافع مختلف، غاية متنافرة مع الأخرى، ولكن النتيجة ظلت أشبه بالحكمة التي تكشف بصلابة عن عقاب التورط في هذه المراقبة أيًا كان هدفها .. هكذا رأى كونده نفسه، وهكذا أراد أن يثبت لذاته وللآخرين تلك الحقيقة المتوارية داخله، والتي لا تفسر سيرة همنغوي، وإنما تفسّر العُمر الفقير الذي عاشه كونده بوجه خاص كما يبدو بالنسبة له.

"وراح يأتي، عن وعي واستمتاع، بتلك الأفعال التدنيسية التي لم يتصوّر يومًا ما أنه سيفعلها، فبدأ بتفحص اللوحات الزيتية التي تصوّر مشاهد لمصارعة الثيران. وتذكر فجأة كيف أن حبه للكاتب تراجع وانتهى حين كُشف النقاب عن حقائق تتصل بالصداقة القديمة التي كانت تربط همنغوي بدوس باسوس. لكن مشاعر الإعجاب بهمنغوي لم تجف في قلبه دفعة واحدة. بل لقد بدأت المسافة تتشكل حين راحت الرومانسية تفسح مكانًا للشك وبدأ معبوده الأدبي يتحوّل في نظره إلى كائن متعجرف وعنيف وعاجز عن مقابلة من يحبه بالحب".

ماريو كونده إذن كان يراقب ماضيه من خلال "الملحمة البطولية المخاتلة" لهمنغوي .. يتقمص جسده، شخصيته، أفكاره، انفعالاته، هواجسه، حركاته، ألمه ومتعته .. يتقمص كتابته: "حين بدأت الكتابة بدأت أكتب مثله. هذا الرجل كان يعني الكثير بالنسبة إليّ" .. تلك هي المسافة التي اتخذها كونده بينه وبين ما عاشه بدءً من اللحظة التي ألقى فيها التحية على همنغوي وهو طفل صغير يقف بجوار جده عند مرسى "كوخيمار"، مرورًا بتقاعده عن العمل كشرطي، وحتى اللحظة التي ألقى فيها زجاجة في البحر تحمل رسالة إلى صديقه الجالس على الجانب الآخر ليخبره فيها بأنه لم ينجح في كتابة الحكاية المنشودة .. المسافة الغائمة التي ظلت عالقة في متاهة همنغوي.

"لقد أصبح السلاح القاتل في أدبه، شيئًا فشيئًا، مرادفًا للرجولة وللشجاعة. وضعه في يد جميع أبطال رواياته، الذين استعملوه أحيانًا للقتل. مع ذلك، فلا يُعرف عنه أنه قتل. قتل آلاف الطيور والكثير من أسماك القرش والخرمان ووحيدات القرن والغزلان والوعول والثيران والأسود والحمير الوحشية".

لماذا أيقن كونده بعجزه عن كتابة حكاية "مؤثرة بحق"؟ .. هل لأن التقمص يثبت استحالة أن تكون ذلك الشخص الذي تتقمصه، ومن ثمّ فهناك ثمن لهذا سيُدفع بالضرورة؟ .. هل لأن ذلك الشخص على مدار سنوات السعي إلى التوحد به أثبت أنه خائن بشكل أو بآخر للملامح الاستحواذية التي تم تكوينها له في مخيلة المحبين؟  .. هل لأنه لم تفلح أي صيغة ممكنة لبلوغ التآلف أو التعايش بين الكاتب و"شروره" في وعي الآخر الذي أهلك خطواته في تتبع ذلك الكاتب؟ ..  أم أن السر يكمن في "مؤثرة بحق"؟ .. في ما يعنيه التأثير، ما يحدده، يفرضه، في الشروط والمواصفات الاستعبادية لإنجازه حين ترتبط بحياة "علامة أدبية" مثل همنغوي؟ .. هل يكمن العجز في عدم القدرة على تجاوز "خرافات التأثير" مهما كانت قوة تجذرها وطغيانها وإلحاحها عبر "معجزات المكرسين" في تاريخ الكتابة؟ .. "وداعًا همنغوي" هي حكاية ماريو كونده المختبئة لمجرد أن بإمكانها أن تثير هذا النوع من الاستفهامات.

"تعرف أنه كان في سنواته الأخيرة يقول إن الأف بي آي تلاحقه. زوجته لم تكن تصدق ما يقول. وقال الأطباء إنها تهيؤات، ضرب من هوس الاضطهاد. ولعلاج ذلك أخضعوه إلى خمس وعشرين صدمة كهربائية. ممتاز! ـ هتف كونده على الرغم منه".

يبدو ماريو كونده بالنسبة لي أقرب لأن يكون الرجل العجوز في قصة إرنست همنغوي "عجوز على الجسر" والتي كتبها بذكريات عمله كمراسل حربي لاتحاد صحف أمريكا الشمالية في الحرب الإسبانية .. رجل وحيد محتجز في مفترق طرق .. لا يمكنه العودة إلى مدينته "كما كانت في الماضي" ولا يستطيع التقدم بعيدًا عن اغترابه "مدينته الآن" .. أجبر على التخلي عن الأحلام الصغيرة التي كان يعتني بها كما أجبر العجوز في القصة على التخلي عن الحيوانات التي كان يرعاها .. لم يصبح مثل همنغوي، ولم ينجح في أن يكون شخصًا غيره .. طحنته حروب الزمن دون أن يشارك فيها .. لا يعرف هل يمكن لتلك الأحلام التي غادرته أن تعتني بنفسها مثلما كان يرجو العجوز لقططه التي فقدها بحيث يقدر ذات يوم وقبل لحظة النهاية على استردادها في طور التحقق أم أنها سوف تتبدد دون رجعة .. كان همنجواي في هذه القصة يخاطب كونده بينما يخاطب نفسه .. كأنه كان يخبره دون كلمات بأنه سيأتي وقت لن تستطيع فيه القطط أن تعتني بنفسها .. ربما تخيل كونده حين قرأ هذه القصة أنه ذلك العجوز بالفعل .. ربما أدرك حينئذ أن رغبة في الانتقام تنمو داخله نحو همنغوي قائمة على هذا الخطاب تحديدًا .. على المصير الذي قرره همنغوي لحياته دون أن يعرف عنه شيئًا ومن خلال قصة تدور عن حياة رجل آخر .. رجل تحوّل حين قرأ ماريو كونده قصته إلى راصد لهمنغوي وليس العكس .. رجل يفتش وينقّب في حياة همنغوي ليقبض على مفترق الطرق الذي ظل يدور ذلك الكاتب الجامح داخله .. مفترق الطرق الذي دُفن ماريو كونده في أعماقه.

"يظهر همنغوي واقفًا في لقطة جانبية، وفي خلفية صف من الأشجار. شعر أبيض ولحية بيضاء تمامًا، أما قميص الغنغهام فيبدو كأنه لهمنغوي آخر، أضخم جسمًا من الذي يبدو في الصورة: كان جسمه قد انكمش، وكتفاه تهدلتا وضاقتا. كان ينظر مطرقًا إلى شيء لا يظهر في الصورة، وكان يكفي أن تنظر إلى تلك الصورة ليتملكك إحساس مقلق بصدقها. كانت ملامحه ملامح عجوز طاعن في السن، وبالكاد تذكّر باسم الرجل الذي طالما استعذب العنف واستلذه. أسفل الصورة إشارة إلى أنها التقطت في "كيتشوم" قبل إقامته الأخيرة في المستشفى، وكانت واحدة من آخر صوره.

ـ إلى ماذا تراه ينظر؟ ـ سأل مانولو.

ـ إلى شيء على الطرف الآخر من النهر، بين الأشجار ـ رد كونده ـ كان ينظر إلى نفسه، من دون جمهور، من دون ثياب تنكرية، من دون أضواء. كان ينظر إلى رجل قهرته الحياة. بعد شهر أطلق النار على نفسه.

ـ نعم، يظهر منكسرًا.

ـ على العكس: هنا يبدو متحررًا من الشخصية التي حبس نفسه فيها. هذا هو همنغوي الحقيقي، مانولو. ها هو الرجل الذي كتب النهر الكبير ذو القلبين".

لماذا لا يريد الثأر أن يتم حتى لو كان بإمكان ماريو كونده حين ينضم إلى نادي (الكوبيين الهمنغوانيين) أن يتغوّط على همنغوي؟ .. لأن الثأر في حقيقته يستهدف ما هو أبعد أو أكثر تلغيزًا من همنغوي نفسه .. يستهدف الجذور الغيبية لحياة همنغوي وأقنعتها .. الامتدادات القهرية المتشابكة لهذه الحياة عبر الزمن .. لأن الثأر يستهدف عاهة جوهرية داخل ماريو كونده لا يمكنه استيعابها .. عاهة تجعل الثأر محاولة خفية لإنقاذ همنغوي من "أسطوريته" بكل ما يلتصق بها من "آثام" .. "لقد عدّه بعضهم رجل أكشن في مسرح كاتب، ورآه آخرون مهرجًا مهووسًا بعروض غريبة أو خطيرة لتضفي على ما يكتبه الفنان صدى وذيوعًا. لكن الجميع أسهموا، مادحين أو قادحين، في أن تتحوّل سيرته، التي صنعها بنفسه، إلى أسطورة. أسطورة من أفعال ومآثر عمّت أرجاء المعمورة وسمع بها القاصي والداني. لكن الحقيقة، كالعادة، أكثر تعقيدًا وأشد فظاعة. لولا سيرتي ما كنت سأصبح كاتبًا" .. كأن الخلاص الشخصي لماريو كونده يتوقف على هذا الإنقاذ .. لكن المعضلة التعذيبية التي يدركها كونده ضمنيًا أن "كتابة" همنغوي لا يمكن انتزاعها خارج "أسطوريته" .. "إن لم يستطع أن يغامر ولا أن يتذكر، فمن أي شيء ستكتب أيها الفتى؟"، "هو يعرف أن خياله فقير وكاذب، وأن كتبه المفعمة بالواقعية، كما أراد هو لأدبه، لم تؤسس إلا على ما رآه وعاشه وتعلمه من الحياة" .. أن "آثام" همنغوي هي "سرديته" مهما كافح في عزلها عن "المحظور الأخلاقي" .. لذا فإن عليه ـ إذا أراد ذلك ـ أن يتأمل إرنست همنغوي ـ ولو ظل محتفظًا بكامل العدائية تجاهه ـ بما يتخطى الحدود الضيقة لتمييز الواقع عن الخيال .. بما يتخطى الأحكام القاصرة تجاه "مثالية" الفنان أو "دناءته"، وذلك انتهاكًا للشر المطلق الذي أخضع الجميع بوصفه "عدلًا" .. هكذا يفكك الثأر نفسه بنفسه.

جريدة "أخبار الأدب" ـ 4 فبراير 2023