لا أتذكر هل كان هروبك من الجيش في اليوم التالي لالتحاقك به أم كان بعد عدة أيام؟ .. لكنني أتذكر جيدًا أنه كان هروبًا مؤقتًا وأنك عدت لاستكمال فترة تجنيدك، كما أتذكر أيضًا أن ذلك الهروب كان بسبب انفجار موقد الكيروسين الذي كنت تعد الشاي عليه في وجهك .. أعتقد أن آثار ذلك الانفجار كانت واضحة على الوجه الذي عدت به إلينا ولكنها كانت أكثر وضوحًا في الطريقة التي فسرت لنا بها سبب مغادرة كتيبتك سرًا وعودتك المفاجئة إلى البيت .. كان غضبك التقليدي المتوقع يشرح الأمر لعيونهم المحدقة في وجهك باستياء وقلق، ليس نتيجة ما أصابك وإنما تخوفًا من تبعات هروبك وربما حسرة على ضياع الوقت الذي كانوا سيأخذون خلاله هدنة صغيرة من شرورك .. لكنه لم يكن غضبًا فقط .. كان في عينيك وصوتك ما يخنق ذلك الغضب .. كان هناك ما يشبه نفاذ صبر متوسل تجاه الحظ العاثر الذي يلاحقك .. من خيبة الأمل التي تترصدك في كل لحظة .. من اللعنة المجهولة التي تسيطر على حياتك .. كنت تحكي ما حدث وتسب التجنيد بصلابة معهودة يعتصر حدتها في الوقت نفسه ذهول مستنجد .. صرخات مدفونة في باطن الشتائم بأنك لم تعد تدري ماذا تفعل تجاه كل هذه الهزائم غير المبررة .. كنت كمن يقرأ نبوءة سنواته التالية ومصيره المحتوم دون أن يعلم .. هل شعرت أنا بالشفقة عليك في تلك اللحظات؟ أم أن كل الشفقة التي ظلت محجوبة حتى عن نفسي الطفولية تجاهك قد عثرت على فرصة ملائمة للكشف عن وجودها؟ .. كان يريد أن يشرب شايًا فحسب .. إنه شيء يشبه أن ترفع يدك بالملعقة لتضع طعامًا في فمك .. يشبه أن تقضم لقمة من رغيف خبز .. هذه الأداءات في حد ذاتها مثيرة للشفقة حتى لو قام بها سفاح؛ فما بالك أن يسقط الطعام من الملعقة قبل وصوله إلى الفم أو أن يعض أحد لسانه وهو يقضم اللقمة .. ما بالك لو انفجر موقد كيروسين في وجه من كان يرغب في مجرد كوب من الشاي.جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.