قبل أن تنقذ قصص إدواردو غاليانو عن كرة القدم حياة فيكتور كوينتانا
العضو السابق في الكونغرس المكسيكي حين رواها للقتلة المأجورين الذين اختطفوه عام 1997؛ فإن كتابتها قد أنقذت غاليانو نفسه .. كان إنجازها خطوة متقدمة
على الموت بتعبير راي برابيري حيث القتلة المأجورين لا يتواجدون في الخارج وحسب بل
في الداخل قبل أي شيء .. كل إنقاذ لاحق من الموت عبر قراءة القصص يمعن في تأكيد
تلك الخطوة الأصلية التي تقدمت على الموت، وأنقذت كاتبها في المقام الأول.
"عندما نشرت "مرايا" لأول مرة بالإسبانية العام
الماضي، افترض "خورخي" أن الكتاب لا يمكن توفره بسهولة في
"بنما"، لأنه سيكون متداولًا حول العالم من قارئ إلى آخر. ورغم أن
مدخراته لم تكن كبيرة، فقد قام برحلة واهمة، استغلها كلها لشراء نسخ
"مرايا"، ووضعها بشكل فج في المقاهي والمتاجر والأكشاك وصالونات
الحلاقة، وفي كل مكان. لقد استدرج بها جميع الأشخاص".
ثمة شيء ثابت يمر عبر مقالات "حياة الكتابة" الصادر عن دار
مسكيلياني، بإعداد وترجمة عبد الله زماي، ويطرح من خلال صور مختلفة تلك المواجهة
مع الموت بالكتابة، أو ما نفترض أنها محاولة لذلك عبر سرد الحكايات .. أن تسبق
الموت حين تنتهي من قصة ما .. أي موت نتحدث عنه، وما هي الكيفية التي يتم بواسطتها
هذا الإنقاذ أو التقدّم على الموت بخطوة، وكيف لا تتوقف حكاية ما منذ اللحظة الأولى
التي قامت فيها بذلك عن إنقاذ الآخرين، لتثبت مع كل قراءة لها أنها فعلت الأمر
نفسه مع كاتبها في الماضي؟
"في مارس من عام 2007، في "يوكاتان"، كان "كتاب المعانقات" محظورًا
في سجن "ميريدا" لاحتوائه على بعض الأفكار الشيطانية. قبل ذلك، في
"سان خوسيه" في كوستاريكا، قابلت فتاة بصدد قراءته في محطة الحافلات.
"دائمًا ما أحمله معي عندما أسافر" قالت لي، "إنه صديقي
المحمول".
ربما يتعلق الأمر بكتابة الموت .. أن يكون الكاتب هو الموت ذاته الذي
يحاول أن يسرد حكاياته مستخدمًا الجسد الذي قرر اكتشافه بواسطة الكتابة .. أن يكون
كل قارئ هو هذا الموت بينما يعيد كتابة قصته .. ذلك ما يخلق المجاز الكوني للكتابة،
أو ما يُعرّف طبيعة الإنقاذ المجازي الذي تؤديه الحكايات: الموت لا يستطيع أن يقتل
نفسه.
"حينما رويت هذه القصة في الجامعة بالمكسيك، وقع أمر لم يحدث من
قبل في غيرها من الأمسيات الكثيرة التي أقمت. صفق أربعة آلاف طالب بأقدامهم وضربوا
بصدورهم، كما لو أنهم يجلسون في ذلك المسرح في "مدريد" قبل سنوات عديدة.
فيديريكو، استمع".
كان إدواردو غاليانو هو السجينة ماتيلد لاندا التي ألقت بنفسها من فوق
السطح لتنفجر كقنبلة قبل مراسم تعميدها، والتي كان يُفترض أن تعلن خلالها توبتها
عن معتقداتها الشيطانية .. ثمة بحر أيضًا لم يره غاليانو، قد لا يكون البحر ذاته
الذي طلب منه عمال المناجم أن يحدّثهم عنه، ولم يروه مطلقًا، ولكنه يتشابه معه في
كونه وجهًا مجهولًا للموت .. الوجه الذي سيبدو الكفاح لتخيّل ملامحه كأنما الموت
يحاول التطلع لظلامه في المرآة.
"دخلت هذا العالم بنوع من الشجاعة الفريدة، شجاعة لا يتحلّى بها
سوى عديمي الخبرة أو الجهلاء أو كليهما، لم أكن أشعر بالخوف، فغصت برأسي في هذه
الحديقة البحرية مفتونة بعجائبها".
يمكن التفكير في أن كتابة الموت تقوم على الاقتحام المتواصل للفجوة
المخيفة بين عيني الكاتب والأشياء والأشخاص الذين يراهم بحسب إليف شافاك .. الفجوة
التي لا تسعى الحكايات لاحتلالها بل لخلق جذورها المحتجبة .. أن تتم في كل مرة
محاولة تعيين قصة ما لتكون الجوهر الاستقرائي المحتمل لتلك الفجوة، بحيث يمكن
للآخرين استعمالها كأساس مفترض لإعادة صياغة الفجوات المخيفة بين عيونهم وكائنات العالم.
"حين شرعت في التجول في شوارع إسطنبول، تحضيرًا للرواية والمتحف،
داهمت أسواق السلع المستعملة ومتاجر الكتب القديمة ومنازل الأهل والأصدقاء بحثًا
عن علب الدواء القديمة ومنافض السجائر، وصور المساجد المؤطرة وبطاقات الهوية وصور
جوازات السفر، وقد أدركت أن جمع القطع الفنية للمتحف لا يختلف كثيرًا عن جمع القصص
والحقائق لتأليف رواية".
بينما كنت أقرأ ما كتبه أورهان باموق عن "متحف البراءة"
الذي يضم أشياء الرواية أو ذكريات الحب في إسطنبول في السبعينيات والثمانينيات
وجدت نفسي أفكر في البحر الذي طلب عمال المناجم من إدواردو غاليانو أن يحدثهم عنه
.. هذه الأشياء والذكريات بجانب كل ما يمكنها أن تمنحه من أفكار وعواطف واستفهامات
فهي ـ مثل ذلك البحر ـ تجسّد فراغًا مهيمنًا، أو كأنها تبدد نفسها حين تصوّر ما
ينبغي عليها أن تمثله .. هي موجودات لا يمكن رؤيتها ولا الإحساس بها بأكثر مما
يتجاوز الفقدان الغامض .. فقدان يتخطى الحياة نفسها .. لنقل أنها تفرض نوعًا من
العماء الحتمي لا بوصفها نتاج الماضي بل نتاج الموت .. باعتبارها وجوهًا مجهولة
للموت .. هذا ما يضمن عدم ثباتها .. تظل الأشياء والذكريات في حالة تغيّر دائم
مهما بدت وضعيتها جامدة داخل متحف ما .. كل
كتابة وكل إعادة كتابة تمارس هذا التحوّل في بنيتها .. تصبح موجودات أخرى .. أو
كأنها تستعمل الحكايات البشرية المتعاقبة كي تستمر في إنتاج نفسها .. كأن للأشياء
والذكريات حكمة مخبوءة أو خرافات سرية لا تتوقف القصص عن مطاردتها عبر الزمن.
"لكنني اكتسبت رذيلة سرد القصص في سن مبكرة نوعًا ما. تقول أمي
إنني حالما امتلكت القدرة على الحديث أصبح لدي ميل لتعذيب إخوتي المساكين بسرد قصص
تميل إلى الكآبة، قصص تملأ نهاراتهم بالرعب وأحلامهم بالكوابيس. بعد ذلك تحتم على
أولادي المرور بالمعاناة نفسها. كنت أحكي القصص منذ أبعد تاريخ أتذكره، لكنني لم
أصبح كاتبة حتى بلغت الأربعين تقريبًا. قبلها لم أكن أمتلك الثقة الكافية، وانشغلت
برعاية أسرتي وبالعمل لكسب قوتي".
هل تثبت حكاية العجوز الذي سرق اللصوص صندوق رسائل الحب التي استقبلها
في مختلف مراحل حياته الطويلة ثم قرروا إعادتها إليه واحدة تلو الأخرى، بوتيرة
رسالة في الأسبوع، وظل العجوز ينتظرها بشوق وفرح رغم أنه يعرف كل شيء فيها؛ هل
تثبت هذه الحكاية التي أشارت إليها إيزابيل الليندي ما ذكرته عن متحف أورهان
باموق؟ .. لو تصورنا أن صندوق الرسائل هو ذلك المتحف، وأن الخطابات هي الأشياء
والذكريات التي يحتويها فإن اللهفة السعيدة للعجوز الذي ينتظر عودة هذه الخطابات
كأنها تُرسل إليه للمرة الأولى تعني أن الرسائل لم تعد هي تلك التي احتفظ بها طوال
حياته .. أصبحت هي البحر الذي لم يره من قبل .. وجوه مجهولة للموت الذي سيحاول
العجوز أن ينقذ نفسه منه كلما حاول تخيّل ملامحها.
"بعد وفاة باولا، كانت الكتابة هي الشيء الوحيد الذي أبقى عليّ
سليمة العقل. فالأسى رحلة جحيمية طويلة، كالمشي وحيدًا في نفق مظلم، ووسيلتي للمشي
عبر ذلك النفق هي أن أكتب! كل صباح كنت أسحب نفسي من السرير وأتجه إلى المكتب،
أضيء الشمعة أمام صورة باولا، أفتح جهاز الكمبيوتر، وأغرق في البكاء".
هو نفس ما قامت به إيزابيل الليندي حين استمرت في كتابة رسالة لجدها
المحتضر الذي لم تتمكن من العودة إلى تشيلي لتوديعه .. رغم أنه لن يعيش حتى يقرأها
.. رغم أنه مات بالفعل وهى تواصل كتابتها .. كانت تحاول إنقاذ نفسها في الجانب
الآخر من الموت .. الموت الذي يجب أن تكونه بواسطة الكتابة .. كانت رسالة وداعها
إلى جدها التي تحولت إلى رواية "بيت الأرواح" هي وسيلة إيزابيل اللندي
كي لا تُنسى .. أن يتم تذكر محاولتها لأن تسبق موتها الخاص بخطوة عندما يسعى
قارئها للتقدّم على موته الشخصي عبر روايتها.
يتحدث روبرتو بولانيو عن هذا الأمر في إطار الشجاعة التي يمتلكها
الكتّاب، وبالنسبة لي أحب أن أضعها كمرادف للحظة التي أعلن فيها توم وايتس في
أغنيته "ذراعا روبي" أن قلبه قد كُسر .. الأغنية التي سمعها كازو
إيشيغورو وتتحدث عن جندي ترك حبيبته نائمة في الساعات الأولى من النهار ليهرب
بعيدًا على متن قطار، وكان لها أثرًا لدى إيشيغورو في إبقاء ستيفنز بطل روايته
"بقايا اليوم" متكتّما على عواطفه حتى النهاية .. هي شجاعة اقتحام
الفجوة المخيفة التي حدثتنا عنها إيف شافاك، والتي شيّدت هذا التوحد بين توم وايتس
وكازو إيشيغورو وستيفنز بطل "بقايا اليوم" وجعلتهم يمتلكون العيون نفسها
التي تتناثر في دوامات الظلام.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 7 إبريل 2019