في بداية المساء وقبل أن تخرج زوجتي مثل كل يوم مع طفلتي للذهاب إلى
أمها سألتني عند باب البيت إذا كنت أريد شيئًا .. طلبت منها أن تشتري صحيفة لي؛ إذ
لم أكن متأكدًا من خروجي الليلة .. قبل أن تغلق الباب وراءها نبّهت عليّ بألا أنسى
إحكام غلق باب الشرفة إذا ما فتحتها كي لا يدخل أحد الفئران المتسللة من السطح ..
أعددت كوبًا من الشاي ثم فتحت الشرفة لأقف بداخلها عدة دقائق، وبعد خروجي لم أنس
إغلاقها .. اتصل أحد أصدقائي بعد قليل كي يطلب لقائي في المقهى .. لم يكن لدي
انشغال بأمر هام؛ لذا بدّلت ملابسي ثم خرجت واستقللت تاكسيًا .. شاركت صديقي
الجلوس ساعة ونصف تقريبًا ثم غادرنا المقهى .. تركني صديقي عائدًا إلى بيته بينما
دفعني الطقس البارد الممتع إلى أن أقرر التمشية قليلا قبل رجوعي إلى المنزل .. بعد
ما يقرب من عشر دقائق، وبينما كان البيت لا يزال بعيدًا على نحو ما، والطريق
الواسع تتدفق من خلاله السيارات المسرعة على الجانبين؛ رأيت امرأة قادمة من بعيد
.. لم يكن هناك بشر كثيرون يفصلون بيننا في هذا الليل البارد، لذا كنت قادرًا على
رؤية وجهها بشكل متواصل وهو يتضح تدريجيًا مع اقتربها .. كانت زوجتي .. للوهلة
الأولى لم أعرفها ولا أدري لماذا .. كانت تحمل الملامح ذاتها، وترتدي نفس الملابس
التي خرجت بها من البيت في بداية المساء، ومع ذلك شعرت أنها تمثل في هذه اللحظة وجودًا
مبهمًا، وأن ثمة ضرورة لمحاولة اكتشاف صلتي به .. ظللت أحدّق في وجهها مبطئًا من
خطواتي ثم توقفت وهي تواصل التقدم نحوي .. بدأت هي كذلك تبطئ من خطواتها حتى توقفت
أمامي .. ابتسمت بطريقة تدل على أنها لم تعرفني أيضًا، وأنها تحاول التأكد من أنني
أنا بالفعل رغم تيقنها من أنه لم يطرأ أدنى تغير على صورتي المعتادة .. لم تكن
طفلتي معها، لكنني لم أتعجب من ذلك، ولم أسألها عن السبب .. كان عدم وجود طفلتي
يزيد من شعوري بمنطقية هذا اللقاء غير المتوقع، وبأنه حتمًا ليس مجرد صدفة.
سألتها: رايحة فين؟
أحسست بالدهشة من النبرة التي خرج بها هذا الاستفهام من فمي .. كأن شخصًا
آخر هو الذي نطق به .. بدا في أذنيّ كأنما ولد صغير مرتبك، يحاول بمزيج من التلهف
الغامض والبهجة الخجولة أن يتعرّف بفتاة أصغر منه قليلا للمرة الأولى، أو أن عجوزًا
أكبر مني بعشرات السنوات يسعى بحرج لتذكير امرأة تحمل ضعف عمر زوجتي بشيء ما، أو
أن يعيد ربط خيط قديم انقطع بينهما منذ زمن .. لم أجد في ملامح زوجتي أثرًا للدهشة،
بل انسجام تام مع نبرة سؤالي.
ـ مفيش .. الجو حلو، قلت أتمشّى شوية.
لم أستغرب إجابتها، مثلما لم أستغرب لهجة هذه الإجابة .. بدا صوتها هي
الأخرى كأنه لبنت متحيّرة، تحاول إخفاء فرح منهك شعرت به فجأة نتيجة هذا اللقاء
غير المنتظر .. ظهر على وجهها أنها تدرك ملائمة هذه اللهجة التي ردت بها لأن تكون
لامرأة عجوز أيضًا، وأنها كانت مباغتة لها .. مرت لحظات صمت غريبة .. ابتسامتان
متقابلتان، غائمتان، مثقلتان بعدم الفهم والحسرة والرجاء .. أحسست كأنه موعد
دبّرناه سويًا دون اتفاق كي نقف في هذا الوقت البارد من الليل، وفي هذا الطريق
الذي تتدافع فيه السيارات بجوارنا، وتحت هذه الأضواء البيضاء الكثيفة والساطعة ..
كأنه موعد دُبِر لنا، وتم تسييرنا إليه، حتى يشعر كلا منا حين ينظر في عيني الآخر
بأنه يريد أن يسأله عما حدث طوال السنوات الكثيرة الماضية دون أن يمتلك القدرة على
ذلك.
شعرت باختناق الدموع في حلقي، وبدت هي كذلك على وشك البكاء .. وجدت
نفسي أقول لها مستردًا صوتي التقليدي، وأنا أبُعد نظرتي اليائسة عن ملامحها التي
اختفت الابتسامة منها.
ـ أنا راجع البيت .. متتأخريش.
تركتها مواصلا المشي بساقين مرتعشتين، لتكمل سيرها في الاتجاه الآخر
.. لم يلتفت أي منا وراءه.
رفعت عينيّ عن شاشة اللابتوب حينما فُتح باب المنزل ودخلت زوجتي
وطفلتي .. أسرعت طفلتي كالعادة نحوي لتقبّلني بينما رحت أتأمل وجه زوجتي وهي تُغلق
الباب .. كان يحمل نفس الانطباع المألوف الذي خرجت به من البيت .. قبل أن تتقدم
نحو حجرة النوم أخرجت نسخة الجريدة من حقيبتها وناولتها لي وهي تسألني بنبرة
روتينية إذا كنت أشعر بالجوع الآن. رددت عليها بنفي مقتضب وخافت بينما كانت تلتفت
نحو الشرفة لتتأكد أنها محكمة الإغلاق.
بتانة نيوز ـ 12 يناير 2018