في روايته (بقايا اليوم) الصادرة عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة في 357 صفحة، بترجمة الراحل الكبير (طلعت الشايب)؛ لا يستثمر الروائي الإنجليزي من أصل ياباني (كازو إيشيجورو) صاحب الـ 62 عاماً، والحاصل مؤخراً على جائزة نوبل في الآداب ثيمة السفر في سياقها التقليدي كفرصة مضمونة لمراجعة الذاكرة، ومحاكمة الماضي الذي غادرت الذات تجسيده المكاني بشكل مؤقت، بل يجعل كذلك من السفر نفسه موضوعاً للمساءلة: هل هو نوع من التحرر ولو في نطاق محدود، أم أنه ـ في حقيقته الأعمق ـ إعادة تجديد للخضوع؟. هل يمثل الابتعاد المقترن بالتأمل والفهم المختلف أسلوباً للانفلات من سيطرة قدرية على الزمن، أم أنه ترسيخ قهري ـ أكثر حدة ومراوغة ـ لحتمية هذا الرضوخ؟.
(ربما نكون قد فهمنا على نحو أفضل سر غرام أبي بقصة رئيس الخدم الذي لم يهتز عندما اكتشف وجود نمر تحت طاولة العشاء، ذلك لأنه كان يعرف بالغريزة أن في موضع ما في تلك القصة يوجد الجوهر الحقيقي لمعنى "الكرامة").
إن (ستيفنس) رئيس الخدم الإنجليزي بقدر ما كان يحاول الخطو بعيدًا عن صرامته الوظيفية أثناء الرحلة بواسطة الاستعادة، والتشريح المضاد لوجوده بقدر ما كان يبدو أنه يستخدم هذا الخروج لترويض الهواجس العدائية التي تناوش هذه الجدية الحاكمة لشخصيته وحياته العملية. ربما نفكر في أن رحلة (ستيفنس) داخل الريف الغربي لم تخلق هذه الحاجة لمراجعة الذاكرة، وإنما كانت مجالا ملائمًا لأن تصبح هذه المحاكمات المخبوءة، والتي يسهل استنتاج أنها تمثل جزءاً جوهرياً من ماضي (ستيفنس)، أن تصبح واقعه الخاص والعابر بقدر الوقت الذي سيستغرقه هذا السفر. علامات الجوع للتورط في العالم الممتد خارج القصر، والتي كانت أقرب إلى المركز السري للعالم، أو بالأحرى كان النزاع مع قمعها الفوري، أو مع قتل تماديها هو ذلك المركز.
هنا تعلن سلطة المكان (قصر دارلنجتون) التي تم تجاوز حدوده المتعينة عن هيمنتها غير المحكومة بأطر. تثبت عدم ارتباطها بحيز جغرافي بقدر ما هي مشيئة تُشكل غرائز الحياة لدى بشر كـ (ستينفس). الدوافع المقدسة التي لا تقوده دائمًا للإيمان بأنه أدى دوراً مثالياً تجاه العالم فقط، بل تجبره أيضاً بواسطة الجدل مع هذا الإيمان على التمسّك به. هذا الحفاظ على اليقين لا يتجذّر لدى رئيس الخدم الإنجليزي بوصفه واجباً اضطرارياً، أو هروباً من مواجهة متحسرة للأخطاء، وإنما تحوّله الرحلة ـ بكل ما تدعيه من تحرر ـ إلى اكتشاف غير متوقع للجدارة، دعم استثانئ لفكرة الذات عن نفسها، والتي ينبغي عليها بالضرورة أن تكون ممتنة للمهمة الوجودية ـ خدمة (اللورد دارلنجتون) ـ التي منحت الذات هذه المكانة، حتى لو كانت مهددة، أو محل شك.
(أنا مندهش لرد فعلك هذا يا مس "كنتون"، والمؤكد أنه لا حاجة لتذكيرك بأن واجبنا المهني لا يسير حسب أهوائنا وعواطفنا وإنما حسب رغبات من نعمل عنده).
تتحدد الاستفهامات المتعلقة بما يؤديه السفر حقاً في الرواية وفقاً للتفاصيل التي يسترجعها (ستيفنس)؛ إذ تمزج طبيعة تحليلها بين رؤية رئيس الخدم لحقيقته التاريخية التي تتعدى حضوره الفردي، وبين الضبابية المنتهكة لرونق هذه الصورة. بين محاولة تسوية التعارضات القائمة بين الحقيقة التاريخية لوحدته، ونقائضها، وبين إنكار هذه الحقيقة كلياً. ليس الألم متعلقاً هنا بهذا الصراع فحسب، وإنما بالوعد المغدور للخلاص الذي كان يفترض بالرحلة أن تحققه، والتي أثبتت أن مسارها ليس أكثر من التفافًا للرجوع إلى الأصل مكتسباً ما يشبه الشغف الناضج والخبيث، الذي قد لا ينجم إلا عن الوهم بالابتعاد. كأن (ستيفنس) قد حصل على بداية جديدة لحياته القديمة مشيّدة على ما هو أبعد من الركائز الاعتيادية لوجوده السابق، أي المسافة المجازية المثقلة بالرجاء واليأس، التي يمكن للذات أن تتفحص الماضي من ورائها لتختبر وتجادل المعاني التي كوّنت الذاكرة، وفي مقدمتها (الكرامة)، حتى لو كان المصير المتوقع أو الثابت هو العودة رغم كل شيء.
(إلا أنني لم أسمح أبداً بأن تدخل مدبرة القصر وتخرج من غرفتي هكذا طوال اليوم. غرفة رئيس الخدم ـ كما أعرف ـ مكان له أهميته الخاصة. هي قلب كل الأنشطة التي تدور في القصر، ليست أقل من مركز العمليات .. مركز القيادة في المعركة).
يستخدم (كازو إيشيجورو) في (بقايا اليوم) اللغة المماثلة لوظيفة (ستيفنس)، أي أنها تتسم بما يجب أن يحظى به الخادم العظيم، القادر على تحقيق التوازن ـ بحسب ما جاء في الرواية ـ بين اليقظة والتظاهر بعدم الوجود. كأن لغة الرواية تخدم غرضين مزدوجين: الحفاظ على هوية (ستيفنسن) مع تشابك حالاته المتغيرة أثناء الرحلة، وفي نفس الوقت تثبّت طبيعته كخادم لشيء يتعدى (اللورد دارلنجتون)، أو(مستر فراداي) المالك الجديد للقصر، أي أنها تضعه طوال الوقت في نطاق البُعد الغيبي لوظيفته كخادم لغاية مجهولة، غير مدركة، تنتهي بالموت.
(لقد كرست وقتاً طويلاً بالطبع من أجل تحسين قدراتي أو مهاراتي في الممازحة، ولكن ربما لا أكون قد تعاملت مع ذلك بالالتزام الواجب. وربما أبدأ المران بحماس جديد عندما أعود إلى "دارلنجتون هول" غداً).
على جانب آخر لا يجب استبعاد الرغبة في التعويض الملموس كهدف أساسي للسفر، سواء فيما يتعلق بحب (ستيفنس) لـ (مس كنتون) مدبرة القصر السابقة، وسعيه لإعادتها إلى العمل، أو على مستوى الإقرار الذاتي بحقيقة (اللورد دارلنجتون) كشخص مجرد من العظمة، أو بالتخلص من تزييفات الوعي التي سيطرت على ماضي رئيس الخدم. ولكن عند رصد هذا، يمكننا أن نتناول تلك الإرادة كتأكيد على الوعد الذي اعتبر (ستيفنس) أن بوسع هذه الرحلة تحقيقه. ليس هذا فقط، بل علينا أن نرصد ذلك في ضوء تحوّل التعويض إلى انتباه لما يمكن أن نعتبرها حكمة للابتعاد؛ ما الذي يقودنا للخروج، أو بالتعبير الأشمل: السعي نحو الانزواء المختلس الذي يتخطى ما رُسم لنا من خطوط مكانية، والذي قد لا يكون سفرًا بالأخص، وإنما تراجعًا أو انسحابًا بأي كيفية عما كان مقدرًا لأعمارنا أن تتورط في حصاره؟. لماذا علينا أن نتتشبث بالطموح في استجابات منقذة لهذا الابتعاد؟، ولماذا يتكفل الابتعاد بإعادة تقديمنا كعناصر نمطية من وليمة عامة للتاريخ رغم كافة الإشارات التي يبديها كأطواق نجاة؟. هل هو ابتعاد حقًا أم وسيلة ماكرة، غير مستوعبة، لتجديد الولاء؟.
يذكر أن هذه الرواية التي سبق حصولها على جائزة البوكر البريطانية سنة 1989 واحدة من أربع روايات ترجمت إلى العربية لـ (كازو إيشيجورو)، وصدرت جميعها عن المركز القومي للترجمة لمترجمين مصريين، أما الروايات الثلاث الأخرى فهي: (من لا عزاء لهم)، ترجمة (طاهر البربري) عام 2005. رواية (عندما كنا يتامى)، ترجمة (طاهر البربري) عام 2008 رواية (فنان من العالم الطليق)، ترجمة (هالة صلاح الدين) عام 2009.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الأربعاء، 11 أكتوبر 2017
(ربما نكون قد فهمنا على نحو أفضل سر غرام أبي بقصة رئيس الخدم الذي لم يهتز عندما اكتشف وجود نمر تحت طاولة العشاء، ذلك لأنه كان يعرف بالغريزة أن في موضع ما في تلك القصة يوجد الجوهر الحقيقي لمعنى "الكرامة").
إن (ستيفنس) رئيس الخدم الإنجليزي بقدر ما كان يحاول الخطو بعيدًا عن صرامته الوظيفية أثناء الرحلة بواسطة الاستعادة، والتشريح المضاد لوجوده بقدر ما كان يبدو أنه يستخدم هذا الخروج لترويض الهواجس العدائية التي تناوش هذه الجدية الحاكمة لشخصيته وحياته العملية. ربما نفكر في أن رحلة (ستيفنس) داخل الريف الغربي لم تخلق هذه الحاجة لمراجعة الذاكرة، وإنما كانت مجالا ملائمًا لأن تصبح هذه المحاكمات المخبوءة، والتي يسهل استنتاج أنها تمثل جزءاً جوهرياً من ماضي (ستيفنس)، أن تصبح واقعه الخاص والعابر بقدر الوقت الذي سيستغرقه هذا السفر. علامات الجوع للتورط في العالم الممتد خارج القصر، والتي كانت أقرب إلى المركز السري للعالم، أو بالأحرى كان النزاع مع قمعها الفوري، أو مع قتل تماديها هو ذلك المركز.
هنا تعلن سلطة المكان (قصر دارلنجتون) التي تم تجاوز حدوده المتعينة عن هيمنتها غير المحكومة بأطر. تثبت عدم ارتباطها بحيز جغرافي بقدر ما هي مشيئة تُشكل غرائز الحياة لدى بشر كـ (ستينفس). الدوافع المقدسة التي لا تقوده دائمًا للإيمان بأنه أدى دوراً مثالياً تجاه العالم فقط، بل تجبره أيضاً بواسطة الجدل مع هذا الإيمان على التمسّك به. هذا الحفاظ على اليقين لا يتجذّر لدى رئيس الخدم الإنجليزي بوصفه واجباً اضطرارياً، أو هروباً من مواجهة متحسرة للأخطاء، وإنما تحوّله الرحلة ـ بكل ما تدعيه من تحرر ـ إلى اكتشاف غير متوقع للجدارة، دعم استثانئ لفكرة الذات عن نفسها، والتي ينبغي عليها بالضرورة أن تكون ممتنة للمهمة الوجودية ـ خدمة (اللورد دارلنجتون) ـ التي منحت الذات هذه المكانة، حتى لو كانت مهددة، أو محل شك.
(أنا مندهش لرد فعلك هذا يا مس "كنتون"، والمؤكد أنه لا حاجة لتذكيرك بأن واجبنا المهني لا يسير حسب أهوائنا وعواطفنا وإنما حسب رغبات من نعمل عنده).
تتحدد الاستفهامات المتعلقة بما يؤديه السفر حقاً في الرواية وفقاً للتفاصيل التي يسترجعها (ستيفنس)؛ إذ تمزج طبيعة تحليلها بين رؤية رئيس الخدم لحقيقته التاريخية التي تتعدى حضوره الفردي، وبين الضبابية المنتهكة لرونق هذه الصورة. بين محاولة تسوية التعارضات القائمة بين الحقيقة التاريخية لوحدته، ونقائضها، وبين إنكار هذه الحقيقة كلياً. ليس الألم متعلقاً هنا بهذا الصراع فحسب، وإنما بالوعد المغدور للخلاص الذي كان يفترض بالرحلة أن تحققه، والتي أثبتت أن مسارها ليس أكثر من التفافًا للرجوع إلى الأصل مكتسباً ما يشبه الشغف الناضج والخبيث، الذي قد لا ينجم إلا عن الوهم بالابتعاد. كأن (ستيفنس) قد حصل على بداية جديدة لحياته القديمة مشيّدة على ما هو أبعد من الركائز الاعتيادية لوجوده السابق، أي المسافة المجازية المثقلة بالرجاء واليأس، التي يمكن للذات أن تتفحص الماضي من ورائها لتختبر وتجادل المعاني التي كوّنت الذاكرة، وفي مقدمتها (الكرامة)، حتى لو كان المصير المتوقع أو الثابت هو العودة رغم كل شيء.
(إلا أنني لم أسمح أبداً بأن تدخل مدبرة القصر وتخرج من غرفتي هكذا طوال اليوم. غرفة رئيس الخدم ـ كما أعرف ـ مكان له أهميته الخاصة. هي قلب كل الأنشطة التي تدور في القصر، ليست أقل من مركز العمليات .. مركز القيادة في المعركة).
يستخدم (كازو إيشيجورو) في (بقايا اليوم) اللغة المماثلة لوظيفة (ستيفنس)، أي أنها تتسم بما يجب أن يحظى به الخادم العظيم، القادر على تحقيق التوازن ـ بحسب ما جاء في الرواية ـ بين اليقظة والتظاهر بعدم الوجود. كأن لغة الرواية تخدم غرضين مزدوجين: الحفاظ على هوية (ستيفنسن) مع تشابك حالاته المتغيرة أثناء الرحلة، وفي نفس الوقت تثبّت طبيعته كخادم لشيء يتعدى (اللورد دارلنجتون)، أو(مستر فراداي) المالك الجديد للقصر، أي أنها تضعه طوال الوقت في نطاق البُعد الغيبي لوظيفته كخادم لغاية مجهولة، غير مدركة، تنتهي بالموت.
(لقد كرست وقتاً طويلاً بالطبع من أجل تحسين قدراتي أو مهاراتي في الممازحة، ولكن ربما لا أكون قد تعاملت مع ذلك بالالتزام الواجب. وربما أبدأ المران بحماس جديد عندما أعود إلى "دارلنجتون هول" غداً).
على جانب آخر لا يجب استبعاد الرغبة في التعويض الملموس كهدف أساسي للسفر، سواء فيما يتعلق بحب (ستيفنس) لـ (مس كنتون) مدبرة القصر السابقة، وسعيه لإعادتها إلى العمل، أو على مستوى الإقرار الذاتي بحقيقة (اللورد دارلنجتون) كشخص مجرد من العظمة، أو بالتخلص من تزييفات الوعي التي سيطرت على ماضي رئيس الخدم. ولكن عند رصد هذا، يمكننا أن نتناول تلك الإرادة كتأكيد على الوعد الذي اعتبر (ستيفنس) أن بوسع هذه الرحلة تحقيقه. ليس هذا فقط، بل علينا أن نرصد ذلك في ضوء تحوّل التعويض إلى انتباه لما يمكن أن نعتبرها حكمة للابتعاد؛ ما الذي يقودنا للخروج، أو بالتعبير الأشمل: السعي نحو الانزواء المختلس الذي يتخطى ما رُسم لنا من خطوط مكانية، والذي قد لا يكون سفرًا بالأخص، وإنما تراجعًا أو انسحابًا بأي كيفية عما كان مقدرًا لأعمارنا أن تتورط في حصاره؟. لماذا علينا أن نتتشبث بالطموح في استجابات منقذة لهذا الابتعاد؟، ولماذا يتكفل الابتعاد بإعادة تقديمنا كعناصر نمطية من وليمة عامة للتاريخ رغم كافة الإشارات التي يبديها كأطواق نجاة؟. هل هو ابتعاد حقًا أم وسيلة ماكرة، غير مستوعبة، لتجديد الولاء؟.
يذكر أن هذه الرواية التي سبق حصولها على جائزة البوكر البريطانية سنة 1989 واحدة من أربع روايات ترجمت إلى العربية لـ (كازو إيشيجورو)، وصدرت جميعها عن المركز القومي للترجمة لمترجمين مصريين، أما الروايات الثلاث الأخرى فهي: (من لا عزاء لهم)، ترجمة (طاهر البربري) عام 2005. رواية (عندما كنا يتامى)، ترجمة (طاهر البربري) عام 2008 رواية (فنان من العالم الطليق)، ترجمة (هالة صلاح الدين) عام 2009.
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الأربعاء، 11 أكتوبر 2017