إلى محمد عبد النبي (نيبو(
خرجنا من مناقشة التعريفات والآثار الضمنية لسلطة المفاهيم إلى دراسة
النماذج التاريخية المختلفة، وتحليل الأفكار الناشئة عن تأويل هذه النماذج
ومقارنتها بالتفسيرات السائدة في ذاكرة القصة القصيرة .. كانت هناك مشاريع مرتبكة
تنمو ـ رغم ذلك ـ بإصرار بالتزامن مع الجدل النظري .. أحياناً كان يبدو لي أن
الحياة تتدفق داخل تلك البدايات السردية بفضل هذا الجدل، وفي أحيان أخرى ـ دون
تغيير حرف واحد ـ كانت تبدو معادية له تماماً .. في كلتا الحالتين كنت أشعر
بالضياع إذ لم أكن حينئذ أكثر من أعمى يقتلع عيون طلابه ليجدد ثقته في الظلام ..
كأن النصائح الكلاسيكية كانت تنتقم من أسلوبي الذي يحاول الاقتراب من تهكم الـ
(ستاند أب كوميدي) في شرحها .. أرى مسدساً خيالياً مصوباً لرأسي يخرج من مخطوطات
أبناء الحرفة الجدد يدفعني إلى إعادة الهيبة فوراً إلى القواعد العامة في عقولهم:
اجعل التكثيف ضميراً متقداً، يرفض التسامح .. لا تبالغ في استعمال
المجاز .. قاوم رغبتك في التحليل والاستسلام للتأملات والاستغراق في الخواطر
المجردة عن الزمن .. دع المشاهد والأحداث تتكلم نيابة عن لسانك .. ابتعد عن الصيغ
الصحفية والتعبيرات الشائعة والبلاغة المستهلكة .. لا تتورط في الاستطراد، واستبدل
الاستدراك بالتوتر الكامن في الصمت .. الفراغ أهم من الكلمات .. اغلق الأبواب
والنوافذ جيداً كي لا تتسلل الكليشيهات إلى وليمتك .. لا تسرف في الوصف أو في
إعطاء المعلومات أو في رسم الملامح .. كن غامضاً أكثر من كونك معترِفاً .. تجنب العبارات
الطويلة خاصة المكونة من تسلسل مفرط للاستعارات المتداخلة .. امنح الشخصيات
والأماكن والأفعال ما يلزم من فضائل الأشباح .. لا تضع صوتك الخاص في المكان
الخاطئ أو في الوقت غير المناسب .. احذر من طغيان العاطفة .. لا تختبىء أبداً من
الاستجواب الذاتي: هل أتحرك بطريقة ما كنسخة من خطوات كاتب آخر؟ .. لا تتمسك
بغنيمة.
لا أحد منهم يشعر بعذابك .. ربما ـ بدافع الشفقة لا أكثر ـ يفسرون
وجومك المفاجىء بأنه اضطراب داخلي مفهوم يمكن أن يصيب أولئك المطالبين بتقديم
استعراضات الثقة عن خرافة لم تكتمل بعد قدرتهم على فهمها .. نعم .. أنا لا أستوعب
حتى الآن كيف أفسر لهم ـ بإيمان كامل ـ ضرورة التعامل مع التقنيات الأساسية كرمال
متحركة، وأطالبهم في اللحظة التالية ـ بنفس الإيمان الكامل ـ أن يشيّدوا بواسطتها
قلاعاً حصينة .. لا أحد غيري يسمع هذا الصوت الذي يخاطبهم: (أعزائي القادمين إلى الحفل
الذي غادره "تشيكوف" و"همنجواي" و"كافكا"
و"فرجينيا وولف" و"كاثرين مانسفيلد" أعرفكم بنفسي: أنا الكاذب
الذي يدعي أن مراجعاته لمسوداتكم لا تعدو سوى مجرد تصور شخصي في حين أنه يؤمن بها
كحقيقة مطلقة .. وظيفتي هنا هي زرع الحرية في بصائركم، ولكنني مع الأسف أعرف أنه
ليس المكان ولا الزمن الملائمين كي أحرّض شاباً على اغتصاب حبيبته في موعدهما
الرومانسي الأول(.
لم يكن أمامي سوى الانتظار حتى الانتهاء من جميع التمرينات: الكتابة
ككائنات غير بشرية (حيوانات .. جمادات .. ظواهر طبيعية .. إلخ) .. لعبة (الجثة
الفاتنة) التي بدأها السيرياليون الفرنسيون في أوائل القرن العشرين، وكانت نتيجتها
(الجثة الفاتنة سوف تشرب الخمرة الجديدة): (يقوم أحد الطلبة بكتابة أول سطر على
صفحة من الورق ويمررها إلى شخص آخر لكتابة السطر التالي، وعن طريق طي الصفحة، لا
يرى كل واحد من الكتّاب التالين إلا السطر السابق، وليس بقية القصة) .. سُبل تجاوز
عُسر الكتابة أو سكتة الكتابة .. بداية النص ونهايته وأنواع الرواة .. بناء
الشخصيات والمشاهد .. تطوير الحوار .. اللعب بالحبكة .. نسج المفارقات .. تنظيم
واستخدام عناصر الزمان والمكان .. كيفية وضع علامات وملاحظات في صيغ استفهامية
لإضاءة الخطوات داخل البنية .. الحماية من التشتيت بإمكانية الرجوع المتوفرة
دائماً إلى عناصر السرد الأصلية .. كيفية استغلال صور معينة أو لحظات حاسمة أو
صدمات منتقاة لتثبيت مزاج أساسي للنص .. اكتشاف الصوت الصحيح أو وجهة النظر
الملائمة للسرد والأوقات اللائقة بتواجدها، والعثور على المهام المناسبة للضمائر
.. تدبير خطط لقراءات ومعاينات ومشاهدات للبحث في المادة المعرفية للعمل إذا تطلّب
الأمر ذلك مع وضع حد ملزم كي لا يتحول البحث إلى مختبر أبدي .. الوصول لعلاقة
تفاهمية بين التركيز والإيقاع خلال مرحلة العمل.
في اليوم الأخير من الورشة أخذتهم عصراً إلى بيت في كل دور منه شقتان
متقابلتان، وتفصل بينهما ردهة صغيرة مضاء في سقفها مصباح أصفر .. صعدنا إلى الدور
الثالث حيث كانت الشقة المجاورة للسلالم مفتوحة على مصراعيها ويجلس فوق عتبتها رجل
يبدو في منتصف الخمسينيات، يرتدي جلباباً بياضه منطفىء.. تقابلت جميع العيون في
صمت تام خلال اللحظة الخاطفة التي عبرت فيها مع طلابي أمام الرجل .. فتحت البابين
المتلاصقين للشقة المواجهة وطلبت من ذوي العيون المترقبة إحضار كراسي من الداخل
وتنظيمها لجلوسهم أمام الرجل.. كانت الشقة خالية إلا من الكراسي، ولم تكن هناك
حاجة لنور كهربائي إذ كان هناك شباك ألوميتال كبير مغلق ينبعث ضوء العصر من خلاله
بوفرة .. تحركوا ببطء حذر يكاد يلامس التردد، وزادت حدة دهشتهم حينما أيقنوا أنها
ليست دعابة وأنني أريد منهم فعلاً الجلوس فوق عتبة الشقة ووجوههم صوب الرجل مشدداً
على عدم تبادل أي كلمات، والامتناع عن تدوين الملاحظات مع خلع الساعات وإخفائها
وبالطبع إغلاق الموبايلات .. كان الرجل ينظر إليهم بوجه فارغ من التعبيرات ..
وراءه كان المنظر عادياً: حائط بيج فاتح، يكشف ضوء النيون الفاتر، والقادم من
زاوية غير مرئية عن بقع رمادية ضئيلة متناثرة فوق سطحه .. مرآة دائرية كبيرة مؤطرة
بزخارف طولية سميكة ومضفّرة ذات لون ذهبي، يتضح من خفوته مرور عمر طويل على وجودها
فوق الحائط .. دولاب خشبي أسود متوسط الارتفاع، به عدة أدراج عريضة، ولكل درج
مقبضين دائريين لونهما نحاسي شاحب، وفي قلب كل مقبض نقوش بارزة تشبه أوراق الورد
المتعانقة .. فوق الدولاب فازة زجاجية زرقاء، شفافة، بداخلها زهور بلاستيكية
تُبيّن ألوانها الخامدة انتماءها إلى وقت قديم.
)إنه مجرد
رجل .. ما الغريب في هذا؟) .. كانوا يمررون الاستفهام إلى بعضهم بأطراف العيون
المستغربة، وحواف الابتسامات الساخرة، وأنا واقف وراءهم لا أفعل شيئاً أكثر من
المراقبة .. مع مضي الوقت تحوّل هز الأرجل وطرقعة الأصابع وهرش الخدود وقضم
الأظافر وتقشير الشفاة وعقد الأذرع وفكها إلى صرخات وضحكات مكتومة: (من هذا الرجل؟
.. هل هو أبوه؟ .. هل اتفق معه خصيصاً ليكون هذا المشهد الممل درساً من دروس
الورشة؟ .. لماذا اختار هذا الترتيب العجيب للمشاهدة؟ .. متى ستنتهي الورطة
الثقيلة والسمجة التي أوقعنا فيها؟، وما الهدف المهم الذي يمكن أن تحققه في
النهاية؟ .. هل يعرف ذلك الذي أحضرنا إلى هنا شيئاً عن القصة القصيرة؟ .. ماذا لو
أطلقنا الآن جيصاً جماعياً في وجهه(.
ظل الرجل ينظر إليهم بملامح خالية من الانطباعات .. لكن ضوء العصر
انسحب تدريجياً، ولم يعد هناك سوى نور النيون الفاتر في شقة الرجل، والضوء الأصفر
للمصباح المعلّق في سقف الردهة الفاصلة بين الشقتين .. ما هذا البيت الذي لم يُسمع
أي صوت لسكّانه، ولم يصعد سلالمه أو ينزلها أحد كأنه بناء مهجور عدا شقة الرجل
الخمسيني .. حتى ضوضاء الشارع التي كانت تمزج بين أصوات البشر والسيارات، وتأتي من
النافذة الكبيرة المفتوحة في جدار السلم اختفت تماماً مع غياب ضوء العصر .. لم يعد
هناك أي صوت .. استمر ذهولهم في التصاعد مع مرور زمن طويل لم تتغير خلاله نظرة
الرجل حتى أن عبور الهاجس داخل أرواحهم بكونه ميتاً كان فيه شيء من المنطق .. هل
كان غياب عنصر الحسم الدقيق للوقت سبباً في شعور متوهم بانقضاء فترة هائلة .. هل
كان لغرابة الوضع دوراً في هذا الوهم، أم أن فترة هائلة قد انقضت بالفعل .. في
اللحظة التي اكتمل فيها تحوّل الضجر إلى قلق عظيم وصلت رغبتهم ـ عكس المتوقع ـ في
الالتزام بعدم التحدث إلى أقصى يقين ممكن رغم ما كان في ذلك من عبء قاس يصعب
تحمّله.
فجأة نهض الخمسيني من فوق الكرسي بهدوء ثم بوجهه الفارغ من التعبيرات
تقدم نحو الطلاب وهو يمد يده إليهم بغرض المصافحة .. انتفضوا بفزع من أماكنهم
وأسرعوا إلى داخل الشقة وهم يتعثرون ببعضهم وبالكراسي التي كانوا يجلسون عليها ..
ظل الرجل يتقدم منهم ماداً يده، وهم يحاولون بارتباك مذعور إزاحة الكراسي التي ظل
عدد منها في الخارج حتى يتمكنوا من غلق بابي الشقة قبل وصول الخمسيني إليهم .. كان
هناك مزيج من الأنفاس المتسارعة والصرخات وخفقات القلوب المرتعشة والعرق والظلام
الكامل .. حاولوا العثور على مفاتيح الكهرباء في الشقة بعد نجاحهم في غلقها لكنهم
لم يجدوا أياً منها .. حتى الشباك الألوميتال الكبير اختفى، وعلى أضواء الولاعات
اكتشفوا أنه لا توجد شبابيك أخرى مثلما اكتشفوا أيضاً أن موبايلاتهم لا تلتقط
إشارات .. مجرد جدران صلبة مقفلة .. سمعوا دقات يد الرجل فوق باب الشقة .. دقات
متواصلة .. ليست ثقيلة ولا خفيفة .. عادية كأي دقات فوق باب تُطالب من بالداخل
بفتحه .. لكنها متواصلة، والرجل لا يتكلم .. بالطبع تأكدوا من عدم وجودي، ومع ذلك
ظلوا ينادون عليّ برعب يشتد مع استمرار دقات الخمسيني عسى أن أكون قريباً وأسمعهم
.. لكنني كنت بعيداً .. في بداية كتابة قصة قصيرة جديدة.
الصورة من فيلم "The Rewrite"