هناك استفادات عدة
حققتها رواية (شواش) لـ (أحمد سمير سعد) الصادرة عن دار (ميريت) 2016 من التوظيف
السردي لنظرية الفوضى، وكذلك لفكرة (الشواش) في العهد القديم .. ربما يمكن تحديد
الاستفادة الأولى في إضاءة الصراع بين الترصّد الرقمي للعالم بوصفه طريدة رياضاتية
يمكن الإمساك بطيشها وتوقّع مساراته، وتشريح الوجود ـ كطبيعة حية غير مضمونة ـ من
خلال محاولة تفسير المشاهد المتشابكة، اللامنطقية بالرجوع إلى أصولها المحتملة .. هذا
الرجوع ربما يقود إلى اكتشاف التغيرات ـ التي قد تكون ضئيلة ـ المؤدية إلى آثار
مباغتة، ومتصاعدة التأثير بشكل متسلسل داخل ما يمكن أن يُعتبر نظام ما، أو ما
يُسمى بـ (تأثير الفراشة).
(لا أحد أدرك تلك
الحالة التي يكون فيها العالم على شفا الانزلاق، لحظة مفتوحة على كل احتمال، لحظة
تستحيل فيها تيارات الحمل العادية في الماء الساخن إلى دوامات وفقاعات وغليان
وانفجار وكأنها بلا سبب أو نظام أو نمط، لحظة حساسة جدا لكل مدخل، لحظة رياضاتية
بامتياز).
(حتى وإن سلّمت
وأقنعت نفسي أنه تكفيني المعطيات البشرية والأرقام غير الدقيقة تماما، أعرف أنه مع
استمرار التعويض في المعادلات بذلك المستوى من الأخطاء والتقريب، والذي لا أملك
فكاكا منه، سيزيد الانحراف وتتباعد النتائج وتقل الدقة، بإمكاني فقط إحكام التنبؤ
لأيام، ربما لشهور قليلة، من أدراك أنك حتى تملك دقة البشر؟!، ما الذي تعرفه عن
هذه المجتمعات حتى تأتي بنتائج دقيقة؟!، كل نشاط بشري ولو ضئيل كفيل بتغيير كل
النتائج).
الاستفادة الثانية
ربما تكمن في التعرّف على هزائم الراصد، الذي يحاول التفسير والاكتشاف والتنبؤ عند
الرغبة في تحويله إلى صورة أرضية للإله أو إلى إله بشري / نصف إله، يختبر الخيبة
الناجمة عن استعارة الطبيعة المتعالية، اللامبالية للإله الكوني، غير المتورط في
الخبرة الإنسانية، والقادر على السيطرة على (الشواش)، أي إعادة خلق الكون بالإتيان
به من الشر والظلمة إلى البركة والنور مثلما جاء في سفر التكوين.
(كإلهٍ ملّ
العالم، أنظر إلى كل شيء في غير اعتناء وبترفع العارفين، أو لعله يأسهم، أبشر
بالنهاية وأحتفظ بالبشرى لنفسي، أهون من أن أتحدث إليهم وأوهن من أن أخبرهم).
(تجاربي صفر، شقي
بحدودها الضيقة، لست ذلك المتحرك، المقدم، المخترق، الجريء، الكلمات جامدة على
شفتي، ربما لا تتكون بالأساس، عاجز عن التلاعب بها والتعبير عنها).
(أرقامي لا تعني
شيئًا، لا تعني إلا ذاتها، ليس بمقدوري أن أصير إلهًا أو حتى جنيًا يتقن التصنت
على السماء، ليأتي بخبر الغد اليقين، كل ما أفعله هباء، عبثٌ كامل كحياتي).
يمكن تحليل
الاستفادة الثالثة لهذا التوظيف السردي باعتبارها نتيجة ناشئة عن اندماج
الاستفادتين السابقتين؛ إذ أدى هذا التزاوج إلى وقوع ما يُمكن تسميته بـ (الكوارث
المتواصلة عند حافة النهاية) في مستوى غائم من الإدراك .. نطاق ضبابي يرتفع فوق إمكانية
التعيين الحاسم: هل تنتمي تفاصيل هذا الجحيم إلى الواقع الموضوعي لزمن السرد حيث
تُشكّل هذه التفاصيل المُفضية بتلاحقها المحموم نحو الفناء حقيقة ملموسة ومشتركة
بين كافة شخصيات هذا الواقع، أم أن هذا الجحيم يتم كتصورات تنبؤية لها صفة البداهة،
وتتمسك بحتميتها في وعي السارد / نصف الإله دون أن تتجسد خارجه، أم أن هذا السارد
يرى ـ ببصيرة لازمنية ـ المشاهد المخبوءة (التي تمثّل الحقائق الكارثية) في الظلام
المحيط بما يحصل فعلاً، الذي لا يطفو سوى سطحه الأقل عنفاً، ولا يرى الآخرون غير
قشوره المضللة .. هل شخصيات هذا الواقع هي أجساد وأرواح مغايرة، ومستقلة فعلياً،
أم أنها تمظهرات مرآوية متوهمة لشخصية السارد، ويتمثّل في بعضها الخصائص التي حُرم
من امتلاكها.
(محمود نصار وبوحي
منه أدرك أنه بصق على العالم بصقته الأخيرة، امتلك كل الشجاعة وتحدى ونفذ، لا
يُبقي على حياة لا تستحق، استطاع أن يتخلى عن الابن، عن ميري، عن الخوف والرهبة
وبجرأة بلا مثيل، ارتمى على ظهره وأخذ يضحك ويقهقه على العالم).
هذا المستوى
الغائم للأحداث التي تبدو كتداخل من الاحتمالات المعرفية، والمقترن بتفحّص الذاكرة
ليس مجرد إطار جمالي لتوثيق الفوضى، أو مُعادل انعكاسي للطيش الرقمي، بل على نحو
أعمق هو اختراع للـ (شواش) بكيفية ذاتية .. إعادة خلقه، أي تنظيمه كما يليق بإله
أو بنصف إله يسعى وراء اكتمال ألوهيته .. تتبع شخصي لفوضى العالم عبر خطوط
انتقائية تتخذ ظاهرياً سمة التنقّل العشوائي .. لكن هذا التتبع ليس للأمام كما قد
يبدو للوهلة الأولى .. لا يتقدّم السرد نحو النهاية أو الفناء بل على العكس، فوراء
ما يبدو اقتراباً تدريجياً نحو الموت هناك رجوع قهري داخل الماضي ـ وهو ما يُعد
المتن الأصلي للرواية ـ هذا الماضي ليس بداية تاريخ عالم الرياضيات وحسب، وإنما
كافة البدايات الممكنة .. بداية التاريخ الكوني الذي يُمثّل تاريخ عالم الرياضيات
جزءً من فوضاه، وبالتالي يحتوي ـ كموت هائل ـ على موته الخاص.
(الانهيارات
الأرضية تزحف، اصطدام عربات المترو، سقوط شبكة الكهرباء بالكامل، تصدعات الكباري،
انطباق الأنفاق، أخبار عن شقوق بمبنى السد العالي، زحف البحر، الانفجارات التي
صارت كزقزقة العصافير أمام كل نافذة وأعلى كل شجرة وتحت كل مقعد عام وعلى كابلات
التليفونات وفي كل منور، القتل اليومي بلا ضغينة والنهب والسرقة بلا نية وإفلاس
البورصة والبنوك المقفرة كقبور، البشر الساعون كموتى بلا روح أو حياة؛ ينتظرون موتًا،
قد يأتيهم عن يمينهم أو يسارهم بغتةً، أو بسكرات موجعة وصرخات مفزعة ملتاعة
يغتالهم من أسفل أو يحوّم حولهم ثم يصرعهم ويخطفهم من أعلى).
يروق لي إجراء
مقارنة بين فقرتين في الرواية ـ تتشابهان مع فقرات أخرى تحمل نفس المعطيات بصيغ
مختلفة ـ ربما ستفضح ما أراه مواجهة مع مدلولات استفهامية جوهرية داخل النص ..
الفقرة الأولى:
(كانت الطامة
والهزة التي هيجت الدم في عروقي أن أعرف أن هناك من سخر من إله نيوتن ومعادلاته،
وصفوا ربه الذي يتدخل ليعدّل من حركة الكواكب ويحفظ النظام بدفعات رقيقة من يده،
وصفوه بأنه صانع ساعات أعمى، عاجز عن أن يجعل من الكون عالمًا منتظمًا بلا تدخل
منه .. الكفرة لا يخلب عقولهم شيء وقد ضرب الله عليها غشاوة، متى كانت الساعة
منتظمة دون تدخل منه ادعوا عدم وجوده أو موته أو تخليه عن العالم، ومتى تدخل،
ادعوا عجزه عن خلق نظام لا يحتاج إليه).
الفقرة الثانية:
(أجلس إلى حاسوبي بالساعات، ظهري مصلوب، عيناي ملتهبتان، الوخزات بكل جسمي، أحاول أن أقرأ العالم، أستقرىء مستقبلي، أحمل البشارة أو أكتمها كنبي مقطوع اللسان أو رسول نغزه الشيطان فكفر).
(أجلس إلى حاسوبي بالساعات، ظهري مصلوب، عيناي ملتهبتان، الوخزات بكل جسمي، أحاول أن أقرأ العالم، أستقرىء مستقبلي، أحمل البشارة أو أكتمها كنبي مقطوع اللسان أو رسول نغزه الشيطان فكفر).
هل نحن إزاء نوع
من التحوّل الفكري أو الإنقلاب العقائدي للسارد أدى إليه الفشل في أن يكون صورة
للإله؟ .. في أن يكون بديلاً له بعد التأكّد من غيابه؟ .. هل هناك فراغ كوني تم
اكتشاف انفتاحه على هواجس غامضة لا يمكن حسمها، أخذت محل الاستقرار الإيماني،
وبالتالي أفرز ـ منطقياً ـ شكلاً من المراجعة أو المحاكمة التي تعمل بنفس طريقة
السرطان؟ .. هل كانت صفات الإله التي حاول السارد تقمّصها مكونات لقناع صلب يريد
إخفاء عذابات هذا التحوّل أو ترويضها؟.
(ساعتها ترى كل
شيء ممكن، لا يصدمك شيء وإن ارتجف جسدي البشري ولم يتحمل، ارتعد وخاف ودهش ولم
يفهم وتألم وبكى وانتحب .. كل غريب يغدو منطقيا تحركه طاقة الاحتمال).
ربما كانت رواية
(شواش) نموذجاً لكتابة الغضب التي تقف وراءها دوافع الثأر من اليقين مهما كان ..
الثأر من خيانته .. من توسّل العثور على صانع الساعات .. إيجاده ولو ككيان بشري ..
خلقه ببصر غير مفقود .. من الفوضى المتمادية التي لا يتدخل أحد ـ أي أحد ـ
لإيقافها، أو لجعلها شيئاً قابلاً للتوقع، وبالضرورة متاحاً للفهم.