لم يكن وقتها في ذلك المساء الثمانيني هو نفس الرجل ضيق الصدر، غليظ
الصوت، صارم النظرة بل كان رجلاً مختلفاً .. كان شخصاً يليق بكورنيش نيل
(المنصورة) في مساء الثمانينيات .. حتى وأنت طفل في الابتدائي يمكنك أن ترصد هذا
التغيير الذي قد أن يطرأ على أبيك في لحظة غير متوقعة .. ربما تشعر حتى بقدر من
الغربة المفاجئة بينك وبينه .. نعم .. لم يكن هو أبي التقليدي ذلك الذي كنت أسير
في صحبته بخطوات متمهلة، تتخللها أوقات وقوف تسمح بتركيز البصر على الجانب الآخر
من النهر .. أسمع صوتا غير مألوف يخرج من بين شفتيه: (هذا هو جامع “البنا”) ..
انظر حيث أشارت عيناه .. قبة يتوهج اخضرارها بخفوت مهيب وسط الظلام الذي يحتوي هذا
الجزء من (طلخا) .. كان صوته هادئاً، وذلك ما يفسر شعوري بعدم اعتياده .. لكنه لم
يكن مجرد صوت هادىء فحسب .. كان فائضاً كذلك بمزيج ساحر من البهجة والحزن .. صوت
يحتفل بالحنين كما يجب .. كنت أنصت بشغف طوال الوقت لأبي وهو يحكي لي عن هذا
الجامع وعن النيل الذي كان يمتد اتساعه (زمان) ليغطي المكان الذي نسير فوقه الآن
.. لم يكن الحكي وحده هو ما يحدث للمرة الأولى .. الرفقة نفسها وبهذه الكيفية كانت
تتم للمرة الأولى أيضاً .. الشغف بحكايات أبي كان مدعوماً إذن بنشوة رائقة احتضنت
روحي نتيجة هذا التحرر الاستثنائي من النمط الثابت لعلاقتنا .. لم يكن غريباً إذن
أن يكون أول ما فعلته بعد عودتي إلى البيت في ذلك المساء هو تدوين ما سمعته في
دفتر ورقي صغير يحمل شعار وزارة التربية والتعليم .. ذلك النوع من الدفاتر كان
يستخدمه أبي في وظيفته إذ كان يعمل موجهاً للغة العربية .. قررت تخصيص هذا الدفتر
لتسجيل (تاريخ المنصورة) الذي لم يكن يرضيني سوى أن احصل على وعد من أبي
بالاستمرار في الخروج ومواصلة الاستماع لحكاياته كما حدث في لقاءنا الأول.
كانت المرة الأولى والأخيرة .. ليس الحكي فقط وإنما الرفقة أيضاً .. لا أعرف كذلك المصير الغامض الذي انتهى إليه الدفتر الورقي الصغير المختوم بشعار وزارة التربية والتعليم، والذي لم يُكتب فيه سوى صفحة واحدة أو صفحتين على الأكثر .. كل ما أعرفه أنني أمشي وحدي الآن في نفس المكان (كورنيش المنصورة)، وأن تعريف الزمن أصبح الابتعاد المتزايد عن مساء الثمانينيات .. أعرف كلما نظرت إلى الجانب الآخر من النهر حيث القبة الخضراء لجامع (البنا) أنني لم أعد طفل الابتدائي، وأن الصوت غير المألوف لأبي ـ الذي سمعته مرة واحدة فقط ـ لم يُدفن في مقابر العائلة.
كانت المرة الأولى والأخيرة .. ليس الحكي فقط وإنما الرفقة أيضاً .. لا أعرف كذلك المصير الغامض الذي انتهى إليه الدفتر الورقي الصغير المختوم بشعار وزارة التربية والتعليم، والذي لم يُكتب فيه سوى صفحة واحدة أو صفحتين على الأكثر .. كل ما أعرفه أنني أمشي وحدي الآن في نفس المكان (كورنيش المنصورة)، وأن تعريف الزمن أصبح الابتعاد المتزايد عن مساء الثمانينيات .. أعرف كلما نظرت إلى الجانب الآخر من النهر حيث القبة الخضراء لجامع (البنا) أنني لم أعد طفل الابتدائي، وأن الصوت غير المألوف لأبي ـ الذي سمعته مرة واحدة فقط ـ لم يُدفن في مقابر العائلة.