(لم أعلم
أبداً لم كنت واثقاً إلي هذا الحد أني سأقتلهم قريباً، وأني سوف أغيّر مصيرهم إلي
مصير أفضل ولو كان موتاً. ثم رأيت أني سأقتل الكثيرين، وأن عدداً هائلاً من الناس
سيُقتلون لكني لن أشترك في قتلهم، ورأيت أن الناس ستقتل أبناءها وستأكل لحومهم، ورأيت
أن الرجل القاعد يأكل الطعام ويتفرّج علي التلفزيون قد حطم آخر الأختام وأطلق
العنان لكل ما سيحدث).
يقدم (محمد ربيع) اقتراحاً ـ شكلياً ـ للبنية السردية التي تقوم علي إحالاتها روايته (عُطارد) الصادرة عن (دار التنوير) .. هذا الاقتراح يفترض مراقبة القاريء من داخل لحظته الحاضرة (ما بعد يناير 2011) لواقع مستقبلي (احتلال الجيشين الرابع والخامس من "فرسان مالطا" لمصر عام 2023) تم تأسيسه في الماضي (يناير 2011) .. لكن هذا الاقتراح لم يكن سوي مستوي ظاهري من اللعبة الجمالية التي خلقها (محمد ربيع)؛ فالرواية لا تتوقف طوال الوقت عن إعطاء البراهين المؤكدة بأن الواقع القرائي (الذي يمثل اللحظة الحاضرة كفاصل وهمي بين زمنين سرديين) هو في حقيقته وجود يحكمه التطابق بين الماضي والمستقبل .. تلاحم بين (الارتداد) و(الاستباق).
(المقاومة مكوّنة من ضبّاط شرطة سابقين فقط، هناك عددٌ قليلٌ جدا من ضباط الجيش، وهؤلاء لا يطَّلعون علي كلّ شيء ويُعتبرون أعضاءً من الدرجة الثانية، ولا يتمُّ تكليفُهم إلا بالمَهمّات الانتحارية أو الخَطِرة جدًّا. هناك أيضًا عددٌ أقلُّ من المواطنين العاديّين، تدفعهم الحماسةُ الوطنية إلي ارتكاب أفعالٍ حمقاءَ لكنَّها فعَّالة، راغبين في التخلُّص من الاحتلال. وهؤلاء لم يقوموا إلَّا بعمليات التجسُّس، ونقلِ المعلومات، لا يعرفون أعضاء المقاومة من ضبّاط الشرطة، لا يعرفون أسماءَ القادة أو أماكن الاجتماعات، لا يحملون سلاحًا، ومن يرغب في التطوُّع منهم، فكلّ ما يُقدّم له سلاحٌ أبيضُ وعليه التعامل به مع العدوّ المحتلّ. كانت المقاومة المصرية، بشكلها هذا، جنَّتَنا؛ نموذج مثاليّ لذكاء جهاز الشرطة المصري وتفاني رجاله في خدمة الوطن، وحرصهم علي عدم إدخال أيّ غريب وسطهم، حتّي لو كان وطنيًّا حقًّا وكارهًا الاحتلالَ، كالمواطنين العاديّين. كلُّنا كنَّا نعرفُ أسبابَ انفرادِنا بالمواقع المهمّة في المقاومة، وهي عديدة لا يمكن حصرُها؛ علي سبيل المثال لأنّ المواطنين ضعفاءُ في الأصل، ينحازون إلي أُسرِهم الصغيرة، ومُتعِهم التافهة، هم غيرُ مُدرَّبين علي استخدام السلاح أو علي العمل في مجموعات أو تحمّل المسئولية، وحتّي لو كان المواطن مدرَّبًا علي كلّ ما سبق، كضبَّاط الجيش مثلًا، فسينقصه حتمًا القدرةُ علي التصرُّف في الأوقات الحرجة. قال كريم إنّ ضبّاط الجيش السابقين اكتسبوا جرأةً انتحارية لا حدودَ لها، وقال إنّ تلك الجرأة سببُها هزيمتُهم المُنكَرة، ورغبتُهم في التكفير عن خطيئتهم في حقّ البلد، قال إنّ عذابَهم مقيمٌ ودائم، وهم علي الاستعداد للانتحار ببساطة من أجل جرح أحد جنود الاحتلال. كان هذا مناسبًا جدًّا، وفكَّرتُ أنّنا مع زوال الاحتلال، ولا أعلم متي سيحدثُ هذا، سنكون قد تخلَّصنا من رجال الجيش السابقين تمامًا، في النهاية، مَن يرغب في سيطرة الجيش مرَّة أخري علي البلاد؟).
لا تعتمد الرواية إذن علي التأثيرات التي يمكن أن تنتج عن المفارقات الزمنية الكامنة في التفاوت بين لحظات السرد (كما أشار "جيرار جينيت" في تقسيمه لأنماط الاسترجاع)، وإنما تراهن علي تحويل السرد إلي خطاب كاشف، حقل ملهِم من الفرص القوية والاحتمالات الواعدة بحصول الوعي علي ما هو ماثل فعلاً دون احتياج لاستعمالات متعسفة لحيل التناقض .. كأن (محمد ربيع) استطاع بهذه الكيفية أن يقلب (حبكة القدر) لتعمل بطريقة عكسية؛ فالمستقبل في (عُطارد) أمكن استخدامه ـ ضمنياً ـ كملخص استشرافي للحاضر، أو شارح متوقِع لتفاصيل الخراب الحالي، وفي نفس الوقت ظل ملتزماً بوظيفته الأصلية وفقا لـ (تزفيتان تودوروف) كمختزل مُنبِيء ـ لا يتسم بالغموض ـ للزمن الذي سيكون مستقبلاً امتدادياً له .. إذا كان التطابق بين الماضي والمستقبل هو المحرّك لخيوط هذه اللعبة الجمالية، فهو أيضاً يستبعد المحو كإجراء مقترن بالتثبيت .. ليست هناك ممارسة استعارية، أو أداء تمثيلي، بل إدعاء شكلي الحياة والقيامة والجنة والعذاب والجحيم ـ لإعادة تركيب العالم .. هذا ما جعل الرواية تبدو كأرض صلبة، متخلصة من الأصداء اللامكشوفة، التي بوسعها تحريض السرد علي مفارقة الركائز الجوهرية لصالح تفتيته .. الابتعاد الخفي عن أصواته المستقرة إلي اتجاهات متناثرة تحوّله من متن راسخ إلي هوامش متشظية يقودها العدم .. إن (عُطارد) تختبر القدرة علي تحرير المشهد المتواصل عبر الزمن من القمع للوصول إلي تعارف أوثق بتفاصيله القهرية أكثر من كونها تجرب تفكيكه، وإعادة بناء أنقاضه .. المشهد الذي يبدو ـ كما هو، ومع امتلاك حدة البصر المناسبة ـ أكثر كابوسية مما يمكن أن يسفر عنه تذويبه واختراعه بشكل مغاير.
(أحاطت الكلاب بالأجساد الثلاثة، انتشرت روائح عديدة حادة، لم تكن الكلاب في حاجة لتشمم الأجساد الملقاة علي الأرض، أثارت الرائحة الكلاب فأخذت تدور في الكشك الضيق هائجة متحيرة؛ رائحة غضب، رائحة دم كثيف، رائحة مني رجل يخطو نحو الموت، ورائحة بالغة القوة لخراء فتاة تُغتصب، تبرزت عمداً كي تُفلت. ورائحة شعور شمتها الكلاب لأول مرة، هذا شعور أقوي من الفزع، هذا شعور يوقف القلوب ويشلها. نبحت الكلاب: "هذا ميت ... هذا ميت ... هناك طفلة ... ميتة أيضاً ... طفلة ماتت ... يجب دفنهما).
يحمل (أحمد عطارد) اسم رسول الآلهة عند الرومان .. الطفل المدلل لدي الشمس، والذي لقربه منها يوصّل الرسائل بالسرعة والاتقان اللازمين ـ أتذكر الآن قصة (عُطارد) لـ (د. هـ. لورنس) والتي تُجسّد الجحيم الجليدي المؤقت الذي نزل بالأرض كتحذير جاء به الإله (عطارد) ـ وهكذا كان هذا الدال الميثولوجي ملائماً للمهمة التي تكفل ضابط الشرطة (أحمد عطارد) بتنفيذها وهي قتل البشر لتخليصهم من الجحيم وإرسالهم إلي الجنة .. هذه المهمة كانت ناجمة عن إدراك ذاتي لما سيتم اعتباره حقيقة كونية .. من يمكنه الجزم بعدم وجود عقيدة حاسمة، أو يقين لا يقبل الشك مثل ذلك القانون الذي عرفه (أحمد عطارد)، ويقف وراء القنص والتعذيب حتي الموت والاختفاء القسري داخل مقابر جماعية، أي وراء الحاضر الذي تستشرفه (كوضع مستقبلي) رواية (عُطارد)؟ .. من يضمن عدم تحوّل هذه العقيدة إلي هوس جماعي (سواء كصورة مطابقة أو كحالة مشابهة)، أو تحقق هذا الهوس بالفعل كتفسير لشيوع القتل التلقائي، غير المتطلب لتبرير عشوائيته؟ .. قتل (أحمد عطارد) للناس ليس فانتازيا، وإنما مساعدة سردية لامتلاك حدة البصر المناسبة كي يمكن رؤية ما هو ماثل فعلاً .. كأن (عٌطارد) نسخة مصرية مقاربة لـ The Walking Dead، وهو ما يدعمه (فقدان الحواس) أكثر من التنويعات المشهدية للقتل والاغتصاب مثلاً.
"هذا جحيمكم. لا يزال طويلاً. سنوات كثيرة قادمة أكثر هولاً مما رأيتم. وينتهي جحيم ليتلوه جحيم كما سبقه جحيم. وتمر عليكم بعدي سبع سنوات مظلمات يموت فيها كل شيء وأنتم تنظرون. وثم تجوعون فتأكلون جيف الكلاب. ثم تموتون فتأكلون جثامينكم. ثم تيأسون فتأكلون أبناءكم. ويوضع الأمل في قلوبكم. ولا أمل. فالأمل عذابكم".
فكرت كثيراً في الماضي وربما مازلت أفعل ـ في هذا الهاجس: أعيش الآن مرحلة ما بعد الموت الذي لم أشعر به .. جسدي الحالي هو نسخة لا تعرف شيئاً عن فناء الأصل .. نحن في الجحيم فعلاً، وربما الموت هو انتقال أبدي إلي نسخ أخري من الجحيم .. ما يمكن أن ينقذك من رعب هذا الهاجس هو الأمل في لحظة قادمة، مجهولة، وقد تكون غاية في القرب، يتم التأكد خلالها من أنه كان تصوراً خاطئاً .. الأمل هو الاستمرار في الانتظار، أي عدم مقاومة العذاب ـ رغم أن مقاومته ستنتقل بك إلي خانة أخري وحسب ـ وهذا هو الجحيم الذي يتخطي (مصر) حتماً .. إن ما قد يعد تساؤلاً مستحقاً للتأمل هو ما يكمن في الملاحظة العابرة التي أشرت إليها سابقاً: (هذه المهمة كانت ناجمة عن إدراك ذاتي لما سيتم اعتباره حقيقة كونية) .. هل هو إدراك ذاتي حقاً، أم ضرورة يفرضها الجحيم، ليس من الوارد تفادي الخضوع لها؟ .. مشيئة إجبارية خادعة، تدفعك لتصديق أنها ناتجة عن اختيار في حين أنها قرار قبلي يستعمل الأجساد؟ .. (عُطارد) رسول مَن حقيقةً؟ .. إن الجنة قد تعني مثلما فعل (ربيع) في روايته ـ محاولة أن تتسلي سردياً بالعذاب بقدر ما تستطيع.
يقدم (محمد ربيع) اقتراحاً ـ شكلياً ـ للبنية السردية التي تقوم علي إحالاتها روايته (عُطارد) الصادرة عن (دار التنوير) .. هذا الاقتراح يفترض مراقبة القاريء من داخل لحظته الحاضرة (ما بعد يناير 2011) لواقع مستقبلي (احتلال الجيشين الرابع والخامس من "فرسان مالطا" لمصر عام 2023) تم تأسيسه في الماضي (يناير 2011) .. لكن هذا الاقتراح لم يكن سوي مستوي ظاهري من اللعبة الجمالية التي خلقها (محمد ربيع)؛ فالرواية لا تتوقف طوال الوقت عن إعطاء البراهين المؤكدة بأن الواقع القرائي (الذي يمثل اللحظة الحاضرة كفاصل وهمي بين زمنين سرديين) هو في حقيقته وجود يحكمه التطابق بين الماضي والمستقبل .. تلاحم بين (الارتداد) و(الاستباق).
(المقاومة مكوّنة من ضبّاط شرطة سابقين فقط، هناك عددٌ قليلٌ جدا من ضباط الجيش، وهؤلاء لا يطَّلعون علي كلّ شيء ويُعتبرون أعضاءً من الدرجة الثانية، ولا يتمُّ تكليفُهم إلا بالمَهمّات الانتحارية أو الخَطِرة جدًّا. هناك أيضًا عددٌ أقلُّ من المواطنين العاديّين، تدفعهم الحماسةُ الوطنية إلي ارتكاب أفعالٍ حمقاءَ لكنَّها فعَّالة، راغبين في التخلُّص من الاحتلال. وهؤلاء لم يقوموا إلَّا بعمليات التجسُّس، ونقلِ المعلومات، لا يعرفون أعضاء المقاومة من ضبّاط الشرطة، لا يعرفون أسماءَ القادة أو أماكن الاجتماعات، لا يحملون سلاحًا، ومن يرغب في التطوُّع منهم، فكلّ ما يُقدّم له سلاحٌ أبيضُ وعليه التعامل به مع العدوّ المحتلّ. كانت المقاومة المصرية، بشكلها هذا، جنَّتَنا؛ نموذج مثاليّ لذكاء جهاز الشرطة المصري وتفاني رجاله في خدمة الوطن، وحرصهم علي عدم إدخال أيّ غريب وسطهم، حتّي لو كان وطنيًّا حقًّا وكارهًا الاحتلالَ، كالمواطنين العاديّين. كلُّنا كنَّا نعرفُ أسبابَ انفرادِنا بالمواقع المهمّة في المقاومة، وهي عديدة لا يمكن حصرُها؛ علي سبيل المثال لأنّ المواطنين ضعفاءُ في الأصل، ينحازون إلي أُسرِهم الصغيرة، ومُتعِهم التافهة، هم غيرُ مُدرَّبين علي استخدام السلاح أو علي العمل في مجموعات أو تحمّل المسئولية، وحتّي لو كان المواطن مدرَّبًا علي كلّ ما سبق، كضبَّاط الجيش مثلًا، فسينقصه حتمًا القدرةُ علي التصرُّف في الأوقات الحرجة. قال كريم إنّ ضبّاط الجيش السابقين اكتسبوا جرأةً انتحارية لا حدودَ لها، وقال إنّ تلك الجرأة سببُها هزيمتُهم المُنكَرة، ورغبتُهم في التكفير عن خطيئتهم في حقّ البلد، قال إنّ عذابَهم مقيمٌ ودائم، وهم علي الاستعداد للانتحار ببساطة من أجل جرح أحد جنود الاحتلال. كان هذا مناسبًا جدًّا، وفكَّرتُ أنّنا مع زوال الاحتلال، ولا أعلم متي سيحدثُ هذا، سنكون قد تخلَّصنا من رجال الجيش السابقين تمامًا، في النهاية، مَن يرغب في سيطرة الجيش مرَّة أخري علي البلاد؟).
لا تعتمد الرواية إذن علي التأثيرات التي يمكن أن تنتج عن المفارقات الزمنية الكامنة في التفاوت بين لحظات السرد (كما أشار "جيرار جينيت" في تقسيمه لأنماط الاسترجاع)، وإنما تراهن علي تحويل السرد إلي خطاب كاشف، حقل ملهِم من الفرص القوية والاحتمالات الواعدة بحصول الوعي علي ما هو ماثل فعلاً دون احتياج لاستعمالات متعسفة لحيل التناقض .. كأن (محمد ربيع) استطاع بهذه الكيفية أن يقلب (حبكة القدر) لتعمل بطريقة عكسية؛ فالمستقبل في (عُطارد) أمكن استخدامه ـ ضمنياً ـ كملخص استشرافي للحاضر، أو شارح متوقِع لتفاصيل الخراب الحالي، وفي نفس الوقت ظل ملتزماً بوظيفته الأصلية وفقا لـ (تزفيتان تودوروف) كمختزل مُنبِيء ـ لا يتسم بالغموض ـ للزمن الذي سيكون مستقبلاً امتدادياً له .. إذا كان التطابق بين الماضي والمستقبل هو المحرّك لخيوط هذه اللعبة الجمالية، فهو أيضاً يستبعد المحو كإجراء مقترن بالتثبيت .. ليست هناك ممارسة استعارية، أو أداء تمثيلي، بل إدعاء شكلي الحياة والقيامة والجنة والعذاب والجحيم ـ لإعادة تركيب العالم .. هذا ما جعل الرواية تبدو كأرض صلبة، متخلصة من الأصداء اللامكشوفة، التي بوسعها تحريض السرد علي مفارقة الركائز الجوهرية لصالح تفتيته .. الابتعاد الخفي عن أصواته المستقرة إلي اتجاهات متناثرة تحوّله من متن راسخ إلي هوامش متشظية يقودها العدم .. إن (عُطارد) تختبر القدرة علي تحرير المشهد المتواصل عبر الزمن من القمع للوصول إلي تعارف أوثق بتفاصيله القهرية أكثر من كونها تجرب تفكيكه، وإعادة بناء أنقاضه .. المشهد الذي يبدو ـ كما هو، ومع امتلاك حدة البصر المناسبة ـ أكثر كابوسية مما يمكن أن يسفر عنه تذويبه واختراعه بشكل مغاير.
(أحاطت الكلاب بالأجساد الثلاثة، انتشرت روائح عديدة حادة، لم تكن الكلاب في حاجة لتشمم الأجساد الملقاة علي الأرض، أثارت الرائحة الكلاب فأخذت تدور في الكشك الضيق هائجة متحيرة؛ رائحة غضب، رائحة دم كثيف، رائحة مني رجل يخطو نحو الموت، ورائحة بالغة القوة لخراء فتاة تُغتصب، تبرزت عمداً كي تُفلت. ورائحة شعور شمتها الكلاب لأول مرة، هذا شعور أقوي من الفزع، هذا شعور يوقف القلوب ويشلها. نبحت الكلاب: "هذا ميت ... هذا ميت ... هناك طفلة ... ميتة أيضاً ... طفلة ماتت ... يجب دفنهما).
يحمل (أحمد عطارد) اسم رسول الآلهة عند الرومان .. الطفل المدلل لدي الشمس، والذي لقربه منها يوصّل الرسائل بالسرعة والاتقان اللازمين ـ أتذكر الآن قصة (عُطارد) لـ (د. هـ. لورنس) والتي تُجسّد الجحيم الجليدي المؤقت الذي نزل بالأرض كتحذير جاء به الإله (عطارد) ـ وهكذا كان هذا الدال الميثولوجي ملائماً للمهمة التي تكفل ضابط الشرطة (أحمد عطارد) بتنفيذها وهي قتل البشر لتخليصهم من الجحيم وإرسالهم إلي الجنة .. هذه المهمة كانت ناجمة عن إدراك ذاتي لما سيتم اعتباره حقيقة كونية .. من يمكنه الجزم بعدم وجود عقيدة حاسمة، أو يقين لا يقبل الشك مثل ذلك القانون الذي عرفه (أحمد عطارد)، ويقف وراء القنص والتعذيب حتي الموت والاختفاء القسري داخل مقابر جماعية، أي وراء الحاضر الذي تستشرفه (كوضع مستقبلي) رواية (عُطارد)؟ .. من يضمن عدم تحوّل هذه العقيدة إلي هوس جماعي (سواء كصورة مطابقة أو كحالة مشابهة)، أو تحقق هذا الهوس بالفعل كتفسير لشيوع القتل التلقائي، غير المتطلب لتبرير عشوائيته؟ .. قتل (أحمد عطارد) للناس ليس فانتازيا، وإنما مساعدة سردية لامتلاك حدة البصر المناسبة كي يمكن رؤية ما هو ماثل فعلاً .. كأن (عٌطارد) نسخة مصرية مقاربة لـ The Walking Dead، وهو ما يدعمه (فقدان الحواس) أكثر من التنويعات المشهدية للقتل والاغتصاب مثلاً.
"هذا جحيمكم. لا يزال طويلاً. سنوات كثيرة قادمة أكثر هولاً مما رأيتم. وينتهي جحيم ليتلوه جحيم كما سبقه جحيم. وتمر عليكم بعدي سبع سنوات مظلمات يموت فيها كل شيء وأنتم تنظرون. وثم تجوعون فتأكلون جيف الكلاب. ثم تموتون فتأكلون جثامينكم. ثم تيأسون فتأكلون أبناءكم. ويوضع الأمل في قلوبكم. ولا أمل. فالأمل عذابكم".
فكرت كثيراً في الماضي وربما مازلت أفعل ـ في هذا الهاجس: أعيش الآن مرحلة ما بعد الموت الذي لم أشعر به .. جسدي الحالي هو نسخة لا تعرف شيئاً عن فناء الأصل .. نحن في الجحيم فعلاً، وربما الموت هو انتقال أبدي إلي نسخ أخري من الجحيم .. ما يمكن أن ينقذك من رعب هذا الهاجس هو الأمل في لحظة قادمة، مجهولة، وقد تكون غاية في القرب، يتم التأكد خلالها من أنه كان تصوراً خاطئاً .. الأمل هو الاستمرار في الانتظار، أي عدم مقاومة العذاب ـ رغم أن مقاومته ستنتقل بك إلي خانة أخري وحسب ـ وهذا هو الجحيم الذي يتخطي (مصر) حتماً .. إن ما قد يعد تساؤلاً مستحقاً للتأمل هو ما يكمن في الملاحظة العابرة التي أشرت إليها سابقاً: (هذه المهمة كانت ناجمة عن إدراك ذاتي لما سيتم اعتباره حقيقة كونية) .. هل هو إدراك ذاتي حقاً، أم ضرورة يفرضها الجحيم، ليس من الوارد تفادي الخضوع لها؟ .. مشيئة إجبارية خادعة، تدفعك لتصديق أنها ناتجة عن اختيار في حين أنها قرار قبلي يستعمل الأجساد؟ .. (عُطارد) رسول مَن حقيقةً؟ .. إن الجنة قد تعني مثلما فعل (ربيع) في روايته ـ محاولة أن تتسلي سردياً بالعذاب بقدر ما تستطيع.
أخبار الأدب
31 / 10 / 2015