مع كل مشاهدة لفيلم (Hitomi Tanaka In The Bus) أفكر في أن هذا الباص الذي أقام ركابه حفلاً على
جسد أيقونة البورنو اليابانية صاحبة الثديين الأسطوريين ينقصه ذلك الرجل المتظاهر
بالنوم، الشائع وجوده في أفلام البورنو التي يتم تصويرها داخل الحافلات وخاصة
الأفلام اليابانية .. دائماً أشعر بأن كائناً خارقاً كـ (Hitomi
Tanaka) يحتاج وجود ذلك الرجل برأسه المستند على زجاج
النافذة، وعينيه المغمضتين، وملامحه المرتخية أكثر مما تحتاجه ولائم أقل حناناً
وفخامة يتم التهامها في أفلام أخرى .. نوم الرجل في مقابل هذا الجسد المرعب، والذي
سيغادر الحافلة غارقاً في لزوجة المطر الأبيض، المنهمر من فوهات عديدة، ربما كان
بوسعه أن يعمّق من وحشية المفارقة على نحو يتجاوز المتعة الخبيثة الناجمة عن بقاء
بعض الركاب مستيقظين في أماكنهم، دون مساهمة في تزويد كمية المطر .. كانت ((Hitomi ترتدي في الفيلم بدلة كاراتيه، ولم يكن هذا أكثر ما يليق عندي مما
كان يجب أن تضعه على جسمها وهي تصعد إلى الباص .. كان الأشرس بالنسبة لي ـ حتى يصل
الفيلم إلى ذروته الإجرامية ـ أن ترتدي المعطف الأسود الذي كانت تلبسه على اللحم
في فيلم آخر دارت أحداثه داخل متجر كبير .. ربما يفسر المقال الأول من (مكائد
القص)، والذي كان بعنوان (الكولاج اللازمني) لماذا استدعيت في قصتي القصيرة (Hitomi Tanaka In The Bus) الرجل المتظاهر بالنوم إلى الفيلم، ولماذا جعلت (Hitomi Tanaka) تستبدل بدلة الكاراتيه بالمعطف الأسود.
يمكن أن تُخلق القصص القصيرة بواسطة استفهامات من هذا النوع: ما الذي
قاله مخرج الفيلم للرجل المتظاهر بالنوم قبل التصوير؟ .. كيف تجهّز ذهنياً ونفسياً
للحفاظ على غياب العلاقة ـ الذي يجب أن يبدو متماسكاً للمشاهدين ـ بينه وما سيفعله
الركاب الآخرون بالسيدة (Hitomi Tanaka)؟ .. بماذا شعر وهو يتأمل الأيقونة التي ترتدي البالطو الأسود، بلا
شيء تحته، قبل صعودها إلى الحافلة؟ .. في ماذا كان يفكر لحظة إسناد رأسه على زجاج
النافذة، وإغلاق عينيه عند بدء التصوير؟ .. ماذا كانت انفعالاته في اللحظات الأولى،
خاصة لو لم يسبق له أن أدى دوراً كهذا؟ .. ما الذي كان يمر في عقله من أفكار
وتخيلات مع سماعه لأصوات الحفل الذي حُرم حتى من رؤيته؟ .. كيف استطاع أن يكتم
هياجه، ويمنع حدته من التصاعد كي لا تتحول إلى أثر مرئي فاضح، يتسبب في إفساد مشهد
فائض بالقسوة؟ .. ماذا لو كنت مكان هذا الرجل؟.
فكرت في الأمر على النحو التالي: هذا الرجل يحتاج إلى تخيّل كارثة؛ إذ
ربما الاستغراق الذهني في تكوين المصائب هو أكثر ما يمكنه إقامة جدار عازل بين الجسد
المحترق داخل ظلامه المقصي، وبين الكرنفال الشبقي المحتدم على بُعد خطوات منه ..
لكن تخيّل الكارثة لا يمكنه إزاحة الشعور العنيف بالإذلال نتيجة طرده خارج الحفل،
بل على العكس يمكن لهذا الشعور أن يكتسب مزيداً من الجموح مع الاستمرار في مقاومته
بالتزامن مع زيادة الفوران الجماعي المسموع للمتعة المهيبة التي لم يُسمح له بأخذ
نصيب من كرمها الهائل .. كان ينبغي إذن ابتكار حالة من التوحد بين المصيبة التي
سيتم تكوينها، والغضب .. بين الكارثة المتخيلة، والرغبة في الانتقام .. لم يكن من
الواجب الكشف عن هذا التوحد .. كان يكفي خلق الحالة لتتكفل دون إفصاح بتثبيت أمنيته
في شفي الغليل .. حسناً .. بما أننا في اليابان، سأقود هذا الباص للتحرك في شوارع
(طوكيو)، وسأدفعه لمغادرتها نحو طريق جبلي، وسأجعل عجلاته تخرج فجأة من حافة هذا
الطريق ويسقط .. سيرى المتظاهر بالنوم في مخيلته (سقوط الباص من الارتفاع القاتل
بالعرض البطيء جداً، وهو يتقلّب في الفراغ ثم يرتطم بالأرض محطماً تماماً بينما
أشلاء الجثث تتدلى من نوافذه المهشمة) .. حتى الآن لم تبدأ القصة بعد، إلا لو كانت
رغبتي الكتابية تتوقف عند حد إنتاج موقف سردي تقليدي مشيّد على المواجهة الصدئة
بين العجوزين المنهكين: العذاب والعقاب .. لكن القصة ستبدأ مع سطوع حقيقتين
أساسيتين في هذه اللحظة: الحقيقة الأولى أن هذا كان انتقام الرجل المتظاهر بالنوم
وليس انتقامي؛ فأنا في الواقع لست هذا الرجل، ولو ظلت القصة خاضعة حتى النهاية
لتقمص وضعيته لتم اعتبار مشهد سقوط الحافلة، وما سيعقبه من مشاهد مجرد نهاية عادية
.. منطقية .. متوقعة، وهذا ما لا يمكن أن يكون .. الحقيقة الثانية أن المتظاهر بالنوم
أحد ركاب الباص الذي سيسقط، لذا كان حتمياً على خياله أن يخترع طريقة لإنقاذ حياته
من هذه المصيبة الذهنية.
الآن أنا كاتب القصة الذي يريد الانتقام، وليس الرجل المتظاهر بالنوم
في الفيلم، لذا سأعود لأرشيفي السري الخاص، المدوّن به كل كائنات وأحداث الماضي
التي قررت الأخذ بالثأر منها .. كان مقنعاُ بالنسبة لي أن الانتقام من سلطة بعض
دور النشر التي تحتل الصدارة في (الحياة الثقافية المصرية) هو أكثر ما يناسب هذه
القصة .. في نفس الوقت لم أعثر حقاً ـ من خلال الرجل المتظاهر بالنوم ـ على وسيلة
للنجاة من الكارثة .. لا يمكن للرجل مغادرة الحافلة فهو يريد أن يبقى، رغم حقارة انفصاله
عن سحر غامر يجاوره بمهانة نادرة، حتى أنه من الوارد جداً أن يستند أحد الركاب من
أصحاب الحظ العظيم على جسد المتظاهر بالنوم أو يلامسه أثناء فناء ذلك الراكب في
نعيم السيدة (Hitomi) الذي لا يُصدَّق .. بدت كل الحجج القهرية الطارئة التي يمكن أن
تنقذه من السيناريو الانتقامي الذي تخيله مفتعلة .. غير مقنعة .. مساراتها تؤدي
بالقصة نحو نهايات عقيمة .. لم تكن هناك أعذاراً مفاجئة حقاً تتسم بالمعقولية تجبره
على مغادرة الباص قبل سقوطه، أو أن تختصه معجزة ما لتحميه بمفرده من الموت عند
السقوط .. كان على المصيبة الذهنية أن تحافظ على ترتيبها المنطقي طوال الوقت، كي لا
تفقد بشاعتها الرهبة الواقعية التي يتطلبها هذا الاحتياج الذي لا يُحتمل للانتقام
.. لم تكن هناك بالنسبة لي قوة في العالم تضطره إلى ترك الحافلة أو فتح عينيه أو إلى
تخيّل كارثة أخرى تضمن نجاته .. لكن ربما لم يكن هذا في الحقيقة سوى يقين شكلي كنت
في حاجة إليه كي أمتلك البرهان الذي سيدفعني نحو الوصول بالمتظاهر بالنوم إلى مرحلة
الرعب الذي يلزم انتقامي ككاتب .. كنت أثناء العمل أريده أن يبلغ التأكد المحسوم،
النقي من الشكوك بأنه سيموت حتماً مع كل ركاب الحافلة داخل هذا السيناريو الذهني
.. كنت في حاجة إلى أن يتحوّل المتخيّل إلى واقعي، بحيث يشعر المتظاهر بالنوم
فعلاُ بالهلع إثر تصديق الانتقال المحتمل للتصورات المفزعة من عقله إلى حيز
التنفيذ .. جاءت الآن لحظة انتقامي، وسأجعلها انتهاكاً ساخراً يتهكم على الوجاهة
الاستعلائية الطاغية لبعض دور النشر: (أفزعه هذا الاحتمال جدا لأنه يعرف أنه لا
يجب أن يموت الآن .. كان يتساءل في داخله بمنتهى الرعب: كيف يموت وهو لم يصدر بعد
كتابا عن دار الشروق أو حتى دار ميريت أو على الأقل دار العين ؟ .. بفعل قسوة
الخاطر البشع شعر بقلبه يدق بسرعة، وبأطرافه ترتعش كما تسببت دوخة مباغتة في فقدان
رأسه لاتزانها).
لنفترض: ماذا لو كان المتظاهر بالنوم قد نجح في التوصّل إلى حيلة
إنقاذية لحياته من المصيبة المتخيلة قبل هذه اللحظة من المونولوج الداخلي؟ .. ماذا
لو نجح في ابتكار حل فانتازي لا يعطيه النجاة فحسب، بل ويهدي إليه جسد (Hitomi Tanaka) ليحتفل به وحده قبل هذه اللحظة من المونولوج الداخلي مثلما جاء
مشهد النهاية: (بشكل لاإرادي فتح عينيه فتحة صغيرة جدا ليتأكد من أن أحدا لم ينتبه
إلى حالته العصبية التي حاول بقدر ما يستطيع إخفاءها .. رأى ما جعله يفتح عينيه
بما يفوق اتساعهما .. كان لا يزال جالسا على كرسي الباص، ولكن الكرسي كان موجودا
على أرض عشبية شاسعة تحاوطها جبال عالية جدا بينما الباص أمامه مقلوب على ظهره
مدمرا بالكامل، وكتل بشرية ممزقة محشورة في ثقوبه .. رأى السيدة Hitomi Tanaka تقف بجوار الباص تنشف جسمها العاري من لبن الأطفال ثم تسير نحوه
مبتسمة، وتنزل بركبتيها على الأرض بين فخذيه(؟ .. ماذا لو لم يكن في القصة هذا المونولج الداخلي الذي يوثّق
شعور رجل ياباني يتظاهر بالنوم داخل حافلة في فيلم بورنو لـ(Hitomi Tanaka) بالرعب من الموت قبل أن يصدر كتاباً عن دار الشروق
أو دار ميريت أو دار العين؟ .. حدوث هذه الافتراضات لم يكن يعني سوى عدم وجود قصة،
أو بشكل أدق غياب القصة التي أريدها.
جميع الاستدعاءات، وكافة التدابير كانت لخدمة هذا المونولوج الداخلي
تحديداً منذ البداية: إدخال الرجل المتظاهر بالنوم إلى الفيلم .. تفحص الاستفهامات
المتعلقة بطبيعة وجوده .. خلق رغبته في الأخذ بالثأر .. تقمّص شخصيته .. وضع
انتقامي بدلاً من انتقامه .. تخيّل كارثة ذهنية .. تأجيل الحيلة الفانتازية المنقذة
إلى النهاية أي إلى ما بعد الأخذ بثأري.
المشهد الختامي للقصة لم يكن مجرد تخليص وهمي للرجل المتظاهر بالنوم
من السيناريو المتخيّل، أو تعويض من حلم يقظة يحقق رغبتنا المشتركة في (Hitomi)، وإنما كان ـ على
نحو أبعد ـ تمازجاً بين انتقامين منجزين: انتقامي الشخصي، وانتقام الرجل المتظاهر
بالنوم .. مشهد النهاية وهو يعطي النجاة للرجل الياباني، ويهديه جسد (Hitomi) يخبرك أيضاً بأنك
حينما تكون كاتباً مصرياً، يعيش في مصر، وخاصة لو كنت مقيماً خارج المركز القاهري،
فإن هذا ربما يعني ـ من ضمن ما يعني ـ أن تعريف (الحياة الثقافية المصرية) بالنسبة
لك قد يشبه أن تتظاهر بالنوم، أثناء حفل سكس جماعي يقيمه الآخرون على جسد امرأة
جميلة داخل باص يستحق السقوط من فوق طريق جبلي.
ليكن لديك (أرشيف الجحيم) السري، الخاص بك .. كائنات وأحداث الماضي
التي ينبغي أن تأخذ ثأرك منها بالكتابة .. لا يتحقق الانتقام بإنجازه، بل بكيفية
إنجازه، لذا عليك أن تصيب الهدف من آخر مكان يمكن أن يتوقع أحد اختبائك في ظلامه.
موقع (قُل)
17 / 10 / 2015