الثلاثاء، 11 يونيو 2024

فهرس الملوك: «الملك» بين المفهوم والانزياح اللغوي


 ربما لن يكون التفكير فى تعريف «الملك» عند قراءة المجموعة القصصية «فهرس الملوك» (دار مرايا) للكاتبة ليلى عبد الله ملتزمًا أو مرتبطًا بالصفات والسمات المتعددة لـ«الملوك» المتعاقبين عبر قصص المجموعة فحسب، وإنما قد يكون تأملًا أيضًا فى «مفهوم» الملك، والذى قد يفضى بدوره إلى تفكيك التعريف التقليدي، المتجذر تاريخيًا.

أتحدث عن «الملك» كوجود غير مؤطر، غريزة «كونية» منتزعة الحدود، حضور شامل يكمن فيما قد يبدو مجردًا أو منفصلًا عنه ظاهريًا. ربما يمكن التمعن عند قراءة هذه المجموعة الصادرة عن دار مرايا فى «الملك» بوصفه فكرة التسلط نفسها، بكل هيمنتها وقمعيتها وقابليتها المضمرة للتحوّل إلى لعبة بلا شروط، تقوّض دعائمها المفترضة.

«صار مع مرور الأيام يطلب منى أن ألتهم نصف الولائم، بل زاد تشككه الصارم إلى الحد الذى جعله يستغنى عن تناول الأطباق، ويكتفى بتناول القليل من الفواكه فتضاعف حجمي، وصار جسمى مترهلًا من الشحوم، وبدا الملك كخيط رفيع كاد أن ينقطع فى أية لحظة من شدة نحوله. وبعد ثلاث سنين قضيتها فى القصر، قضى الملك نحبه بسبب سوء التغذية، وظلت المؤامرات تعيش بعده، وقد عدت إلى أسرتى التى تحسّنت أحوالها بفضل ما أرسله لها من بريق الذهب، إلا أننى عدت مريضًا بالنقرس».

يمكننا مقاربة «الملك» فى هذه القصة بعنوان «ذوّاق الملك» باعتباره اليقين الذى يخشى على استبداديته من الخدش، فيحشد دفاعًا عن نفسه من الأفكار والممارسات ما يعتقد أنها قادرة على حمايته؛ ومن ثمّ تتحوّل هذه الأفكار والممارسات عبر مسارات تداولية متشعبة ومراوغة إلى أدوات وعناصر تكوينية ليقين آخر، تحكمه «معرفة» مغايرة، وبالضرورة يمتلك استبداده الخاص، المجابه لذلك اليقين الذى نتج سابقًا عن حضوره.

يقين مختلف، يعيّن مبادئه عفويًا كبديل أكثر جدارة من ذلك الذى أراد التحصّن به، ولهذا فهو لا يمثل خلخلة لليقين «الأصلي» بقدر ما يتوحدان ويتضافران فى ضديتهما وصراعهما على توطيد وتحفيز موضوع «التسلط» ذاته، كمطلق قهري، دون سياج مُدرك، أى بما يتجاوز التواطؤ بين اليقينيات المتناقضة. على هذا النحو يمكن أن يكون «الملك» فى هذه القصة عقيدة، مذهبًا، أيديولوجيا، عُرفًا أو تقليدًا متوارثًا.

بوسعه أن يكون «حكمة» متعالية، كلما «صاغت» مبررًا لشموليتها، يصد عن رونقها «الشك»؛ صار المبرر نفسه «حكمة» أخرى يُمكن مع كل مغامرات التأويل المحتملة أن تُستعمل فى هدمها.

«فى أحد الأيام وصلت إلى القرية فرقة من المسلحين، يحمل أعضاؤها لوحات مرسومة لوجه شاب، وقد اجتمعوا بكبار أهل القرية، وأقنعوهم بتعليق اللوحات فى بيوتهم، كما أقنعوهم بأمور أخرى، وقبل أن يغادروا حطموا تمثال الملك بمساعدة شباب القرية، بينما كان أهل القرية فى ذهول يتساءلون: ما معنى طاغية؟!».    

يجدر بقارئ قصة «تمثال الملك» أن يحدّق إلى هذا التمثال كتجسيد أو رمز لتلك الإرادة التعسفية المستترة، التى تتقنع بما يُسمى «الحقيقة المطلقة»، وتتناسل عبر مشيئتها الاستحواذية أوجه الإخضاع كافة، بحيث يتحوّل «التمثال» إلى خالق لغوي، مسيطر، لا يتوقف عن إنتاج بصماته المتغيرة عبر الزمن. البصمات التى لا تكتفى أى منها بأن تكون «أثرًا» للسلطة، وإنما تتحوّل هى نفسها إلى سلطة يحاول خطابها «احتكار المعنى»، بينما يستمر فى تأكيد انفصاله عن «إطار مرجعى حاسم» يقع خارج بنيته اللغوية. يمثل «وهم» التمثال قناع «الطاغية» ليس كفرد، وإنما كـ «استيلاء أزلى على الوجود» بملامح غائبة، تتعدى / تحطم «نماذجها»، لتُبقى «الوجه الاستعبادي» مؤجلًا فى «أبديته».

«هدأت سورة الملك، متأملًا ذوبان الثآليل فى سواد الفحم، واقتنع بتفسير الرسام، واعتقد أنه سيخلّد فى لوحة بهذه الطريقة. يبدو أن حكمة الرسام الصعلوك بلغت أقاصى البلاد وما جاورها، حتى صار الناس وملوك البلدان الأخرى يستخدمون هذا الفن، وعرفوه بالمدرسة الفحمية، ولم يرسم المحتال بعد تلك اللوحة غيرها، وعاش متنعّما بمكافأة الملك، وقبل وفاة الملك شاع أنه أكثر ملوك التاريخ وسامة فوق سطح الأرض. أما المدرسة الفحمية فى الفن فقد توقفت بعد أن عُرضت بعض لوحاتها فى ساحة عامة، وتساقط مطر أثناء العرض، فأزال سواد الفحم».

كأن قصة «لوحة الملك الفحمية» تقدم مجازات تفكيك السلطة التى تسبق الحضور المباشر لـ «الملك»؛ فالفحم يليق به أن يكون اللغة التى يسعى من خلالها «اليقين» أن يمارس هيمنته الشاملة، أى أن يكتسب صورة زائفة لسرابه المشوّه عبر «المهارة الانتهازية» للرضوخ، وما المطر إلا «تقويض اللغة» الذى ينزع قناع «القيمة» عن «السلطة».

«وصلت أصوات الحشود المتنافرة إلى أذهان الوفود الحاضرين من ملوك البلدان الأخرى، واستنكروا سلوك ملك هذه البلاد قائلين: «الملك يلبس خردة شعبه، يا له من ملك! انظروا إلى شعبه، هؤلاء البسطاء، حتى خردتهم سلبت منهم! يا له من ملك جشع!». وأصوات البسطاء تهتف: «أعيدوا لنا خردتنا، أعيدوا لنا خردتنا!». تكثّفت الأصوات حتى صارت أجسادهم تتبعها إلى حيث الملك يقف مذعورا فى داخل كائن ينهار رويدًا ورويدًا، فقد كانت الأيدى الممتدة تنتشل ما كان ملكًا لها!».

فى هذه القصة التى تحمل عنوان «نفايات الشعب» يبدو «التسلط» قائمًا ومتدثرًا بما يمكن اعتباره «رماد الآخرين»؛ ذلك الشيء الذى كان يتسم بالحميمية، ويسكنه الرجاء، ويمثل إشارة أثيرة لعالم الفرد، وتحوّل إلى «نفاية» تشارك بتلقائية فى نسج رداء الاستبداد، بعدما كان وعدًا غامضًا بأن يكون له دور فى خلاص ما. الرماد ليس ناجمًا عن احتراق «الوعد»، وإنما عن الإيمان نفسه بأن ذلك الشيء الحميمى كان «وعدًا» لا «وعيدًا». هو احتراق الذات التى لم تمتلك فى أية لحظة ما تحوّل إلى «نفاية»، ولكنها جاهدت لاستعماله حتى كشف عن وظيفته الجوهرية فى سلوك القهر.

البسطاء حين يحاولون استعادة «الخردة» لا يستعيدون الرجاءات نفسها من جسد «اليقين»، ولكنهم يستعيدون يأسهم العالق فى هذه الرجاءات، يستعيدون فرصًا أخرى للتأمل فى الكيفية التى يمكن للعلامة الأثيرة أن تكون بواسطتها خائنة، فضلًا عن كونها «خادمًا تجميليًا» للتسلط، خاصة حين تتجرد هذه العلامة من حياتها القديمة، وبالأخص حين تعلن أن تلك الحياة القديمة لم تكن إلا تمهيدًا مخاتلًا لهذه الوظيفة. استعادة «النفايات» هى محاولة للقبض على السر الاستبدادى فى عالم الفرد، كأن تجريد «الملك» من «الخردة» بوسعه أن يجرد كل ما هو شخصى من «شموليته»، يجرد «اليقين» نفسه من لغته التى تعيش على الأحلام الخاسرة بالسيادة على المطلق.

«اقتيدت شهر زاد إلى منصة الموت، فى الوقت نفسه كان بين الحضور شخصيات غريبة، وكأنهم انبثقوا من زمان ما، فقد كان بعضهم يرتدى ثيابًا عفا عليها الزمن، وآخرون ظهروا بهيئات مختلفة.

يقال: إن هذه الحشود الغريبة تسربت من قصر الملك، وواصلت طريقها حتى الساحة العامة، كان مظهرهم مخيفًا، فبعث الهلع فى قلوب الحاضرين، حتى سيّاف الملك عجز عن الوقوف أمامهم وهم يحيطون بشهرزاد التى علت وجهها بشاشة ظاهرة، كانت تعرفهم فردًا فردًا، كان هناك على بابا وبرفقته أربعون حراميًا، السندباد، وبدر البدور، معروف الاسكافى وغيرهم، حملوا شهرزاد على أكتافهم إلى حيث الملك شهريار الذى بدا مبهوتًا من هذه الحشود الزاحفة نحوه، وقف عاجزًا أمامهم، يعلو الهلع وجهه، فمن أين جاء هؤلاء الثوار؟!».

تقدم قصة «ليلة سقوط شهريار» الخيال بوصفه أداة «التفكيك» الذى تمارسه الحكايات ضد السلطة، فشخصيات «ألف ليلة وليلة» أو «الثوار» حين تنقذ شهرزاد من شهريار أو «الطاغية» فإنها تشير إلى إمكانية تدخّل الذاكرة السردية فى مجابهة الموت حين يبدو أن الذات قد بلغت حد الخرس أمام الواقع الاستبدادي.. الخيال الذى بمقدوره استبدال «الملوك» بـ «الصعاليك» فى الحكايات الهزلية، أو اللهو بغفلتهم فى المتاهات، أو استدراجهم إلى بيوت المرايا، أو إعادة تركيب هيئاتهم فى مجسمات هازئة، أو قلب لعبة الخداع ضد عروشهم، أو تحويل بطولاتهم الوهمية إلى دعابات لاذعة، أو خلق أشباح متغيّرة لكوابيسهم، وذلك مثلما فعلت ليلى عبد الله فى «فهرس الملوك».

«أنزل الحشد شهرزاد التى وقفت فى حضرة الملك بشموخ وعلى وجهها نبرة انتصار، وهى تقول له: «بلغنى أيها الملك السعيد، ذو العرش المجيد، أن امرأة تدعى شهرزاد صارت ملكة على بلاد يحكمها ملك طاغية يدعى شهريار، وأن هذه المرأة عزمت أن تصون نفسها ونساء مملكتها من بطش هذا الملك الجبار، الذى أودى بحياة الكثير من الضحايا». ومن فورها أمرت السيّاف أن يضرب عنق شهريار، ليخلص البلاد والعباد من جبروته، وتبقى شخصياتها خالدة».

هل الحكايات نفسها أم القدرة على منعها من إعادة تدوير «الحقيقة المطلقة»؟.. ما الفرق؟.. فى كل حكاية يوجد التمثال والمعاول التى تهدمه، تكمن الإرادة التعسفية للاستحواذ مثلما تنطوى على الهواجس العصية على الإخضاع.. شهرزاد لا يفترض بها أن تكون «خالقًا لغويًا» بل مخرّبة لأقنعة اللغة.. ألا تكون «بصمة» للخطاب وإنما بصمة لمرحها الذاتى فى لعبة الغواية والانتهاك.. لا يفترض بشهرزاد أن «تحتكر المعنى» وإنما أن تروى سيرة انفلاته وعصيانه الدائم عبر الزمن.. إن «الإطار المرجعي» لن يتبدد كـ «تصوّر غريزي» مع رأس شهريار المقطوع، وإنما سيظل راسخًا، حتى فى «شخصيات شهرزاد الخالدة»، مثلما تناوئ استعبادها.. كيف نحكى ما سبق أن رواه الجميع بطريقة أخرى، أى أن نجعل الطاغية يسرد قصته فوق أنقاض «النموذج»؟ كيف نروى دون «استيلاء» على ما يُنظر إليه كـ «بنية ضامنة»؟ إنه رهان شخصي، لا يخضع للصواب والخطأ، ولكنه احتياج بديهى وحسب، استجابة ضرورية لأن تكون «حكايتى» طوال الوقت سخريةً من «مفهوم» الملك.
أخبار الأدب
2 يونيو 2024