الثلاثاء، 11 يونيو 2024

استشراف الديستوبيا المضمرة / مقارنة بين رواية "فصول من سيرة التراب والنمل" لحسين عبد العليم، ورواية "دنيا زاد" لمي التلمساني

في هذه المقارنة لا أفكر في مفردات كـ "الخراب"، "الضياع"، أو "الفجيعة" ـ المفاهيم المرتبطة تاريخيًا بالديستوبيا ـ من منطلق حضورها العام، المستقل، وإنما بوصفها رؤية ذاتية متغيرة للشخصيات الروائية. اعتقاد أو تصوّر في حالة تشكّل وإرجاء ومراوغة. هذا تحديدًا ما لا يجعل "الخراب" شيئًا "يحدث" وإنما شيئًا "يُكتشف"، يجعله "تمثلًا سابق الوجود" لا يُعرّف بحضوره المتعيّن ولكن ببصماته النبوئية والتخييلية الغامضة في باطن الذات، الأثر الاستشرافي الغائم لـ "الضياع"، الذي لم يعد وفقًا لذلك مجرد "فجيعة" منفصلة عن "الماضي"، وإنما تجسيدًا لتوقعات مضمرة في تاريخ الشخصية. أصبح "الخراب" هو الماضي بينما كان يعمل بشكل إيهامي على إخفاء نفسه.

في رواية "فصول من سيرة التراب والنمل" تكمن "الديستوبيا" في التفاصيل التي تنطوي بصورة مبهمة على المصير الشخصي، أو "الموت المدخّر" في عتمتها:
بالنسبة لي؛ تحفّز قراءة رواية "فصول من سيرة التراب والنمل" لـ "حسين عبد العليم"، الصادرة عن دار "ميريت" 2003 على التفكير في "التفاصيل" أكثر من "الحكاية" نفسها، ليس فقط لأنه بالإمكان وضع الرواية في سياق من الحكايات المشابهة سواء معرفيًا أو أسلوبيًا؛ وإنما لأن التفاصيل تمثّل فاعلًا جوهريًا في بنية الرواية للدرجة التي من الممكن القول معها أنها قادرة على أن تحل جماليًا كبديل، أو تعويض للموضوع الحكائي ذاته.
"أخذ يبحث عن المقص الصغير وسط الأشياء المبعثرة الغارقة في التراب على منضدة السفرة: شرائط كاسيت .. عُلب أدوية منتهية الصلاحية .. سرنجات .. جهاز قياس الضغط .. عُلب سجائر بعضها فارغ والبعض الآخر ممتلئ والبعض الثالث بين بين .. عملات نقدية معدنية .. أجندات شركة ساندوز ذات الكعب الزمبركي الأبيض .. ترمومترين .. نموذج تعليمي لقلب آدمي يمكن فكه وتركيبه .. كتب وجرائد .. نتائج تقويم من شركات الأدوية وشركات التأمين والبنوك ـ فلم يجده".
الدمار هنا ليس مقصورًا على الذات ولكنه ما "يكوّن" الذات، أي أنه العالم الذي يحتل أغوارها، ومن ثمّ فإنه يحدد ما تبصره الذات عن نفسها كفكرة "عاجزة" يهيمن عليها الوجود. ما يُكتشف إذن ليس "النهاية"، وإنما الخطوات المبهمة والمتوارية التي قادت إليها. كل تمهيد عار أو مخاتل لم يكن في جوهره إلا وعيدًا تسكنه المأساة. "النهاية" موضوع أزلي، يحقق أبديته بواسطة خلق "التفاصيل" المتزامنة والمتعاقبة، المشروطة بالإخضاع، التي لا يمكن التفاوض مع حتميتها.
في رواية "دنيا زاد" تكمن الديستوبيا أيضًا في التفاصيل التي تسبق "الفقد"، في استعادتها، لا من أجل القبض على ما كان تجهيزًا لهذا "الفقد"، وإنما لكي يتم استنطاق الموت نفسه حينما كان يبدو متواريًا في الذاكرة. حينما كان "الفقد" أصلًا متنكرًا في واقع "غير كارثي". كأن هذا "الحكي" سينسج تفاصيل بديلة، ومن ثمّ احتمالًا لترويض الألم، أو تبصرًا استدراكيًا بما يضمره صمت "الموت" في تلك الحياة الناجمة عن "الاستعادة".
"طلبت من أخويها الحضور .. تأخرا .. ثم جاء الأصغر أولًا .. أخبرته بأن الطفلة قد ماتت .. بكى .. وبكيت. وقلنا نخبرها تدريجيًا كما أشار الأطباء الثلاثة .. ثم جاء الأخ الأكبر. بكينا أيضًا. واتفقنا على تفاصيل أخرى .. لا أذكرها الآن لكني أعرف أني لم أعد أستطيع البقاء وحيدًا. أحطنا جميعًا بالفراش. الذي لا يضم سوى جسدها الساجي. لا سبيل الآن لأن تضمهما ذراعاي. وربما أيضًا .. غدًا".
ماذا لو أن دنيا زاد هي الموت الذي يتبادل شهريار وشهرذاد حكي تاريخ العالم من أجله بكيفية انتقائية؟ .. هذا يعني أن ثمة محاولة سردية لاستنطاق هذا الموت، أي كفاحًا لجعله يحكي "ألف ليلة وليلة" المجهولة، والكامنة في ظلامه، خاصة لو كان هذا الموت نقيًا، خالصًا من المرور المؤقت للحياة ممثلًا في طفلة لم تعش .. يعني أيضًا أن تاريخ العالم الذي يتم سرده من خلال الأب والأم لن يكون هو الذاكرة ذاتها التي سبقت هذا الموت، أو ما يُتصوّر أنه الوجود الذي تقدّم على الفقد بل سيكون حياة أخرى، أو الماضي المغاير الذي سينتج بالضرورة واقعًا مختلفًا، أو على نحو أدق إبهامًا مختلفًا.
تجرد "الديستوبيا" التفاصيل من "الحياد"، ذلك لأن الكشف عن البصمة النبوئية لها في اللحظة التي تراها الذات "خرابًا"؛ يجعل التفاصيل "العامة" متورطة في "المأساة الشخصية". تصبح نذير شؤم بأثر رجعي. يتحوّل "حيادها" إلى "استشراف" خفي لما صار جرحًا حقيقيًا كما في رواية "فصول من سيرة التراب والنمل".
ما يُقصد بالتفاصيل في هذه المقاربة هو "أشياء الواقع" التي تكوّن ما يشبه سجلًا توثيقيًا للأزمنة المختلفة: الأغراض الشخصية المتعلقة بحقبة معينة .. أنواع المأكولات والمشروبات .. الشوارع والميادين والحدائق .. الكازينوهات والمقاهي والمطاعم .. قاعات العرض .. الكتب والأفلام والمسرحيات والأغاني والمقطوعات الموسيقية .. أنواع السجائر والعطور والملابس ... إلخ.
"عرضت عليه صور الأميرات فوزية وفايزة وفايقة شقيقات الملك فاروق المقصوصة من مجلة ملونة ـ بانبهار وحرص شديد كأنهن مثلها الأعلى. أرته ألبومًا آخر خاصًا بمقالات وصور الزواج الملكي وعلقت: إن هوايتها هكذا بالمصادفة مثل الملكة فريدة ـ العزف على البيانو والرسم. في عام 1951 سوف يكتشف الدكتور عزيز أن زوجته عايدة عادت لهوايتها القديمة وجمعت صورًا ومقالات بمناسبة عيد الجلوس الملكي والزواج الملكي الثاني من ناريمان".
نلاحظ في رواية "دنيا زاد" أن العالم لا يتشكل وفقًا لـ "الفجيعة"، وإنما بسطوة "ترتيبها الخفي" في الماضي، والذي أعلن عن تمثله المتقدم في باطن الأشياء التي لم تكن تُظهر ـ على الأقل ـ تهديدًا حاسمًا. الأشياء التي اكتسبت بعد ذلك ـ بفعل الصدمة ـ صفة التخييل، بعدما كشفت "واقعيتها" عن "عدم الولاء" المضمر حينما كانت "حاضرًا"، ومن ثمّ كان على الذات أن تشتبك مع تلك التدابير المجهولة "الاستشرافية" التي أنتجت "الفجيعة" عبر مراجعة "أشياء الذاكرة"، أو ضبابيتها الفادحة بشكل أدق، كأنه تنقيب عن مواضع "الخيانة" أو الإرادة الماكرة لـ "الديستوبيا".
"أعد الأيام بلا أرقام. أعدها بمدى ابتعادها عن يوم الاثنين الخامس عشر من مايو. حتى ذلك المساء الذي عثرت فيه على بعض القصاصات التي كان زوجي يدون عليها بيانات المستشفى. أرقام أكياس الدم. المصاريف المتفرقة. ساعة دخولي غرفة العمليات. وساعة خروجي منها. نص تقرير الطبيب الذي استخرج بناءً عليه التصريح بالدفن ... أقرأ: وفاة في الرحم نتيجة انفصال تام للمشيمة".
تتشكل عناصر العالم بعد الموت باعتبارها ظلالًا غامضة لتلك البنية المعتمة التي ذابت دنيا زاد داخلها .. كأنها تتحوّل إلى قرائن لحكمة مضادة، مراوغة، تشمل موجودات الحياة وأحلامها كافة، وتنبع من الثقل المهيمن الذي يفرضه غموض هذا الموت على الأجساد وعلاقاتها والتفاصيل المرصودة كحصار من الأسرار التي تتوعّد الغفلة .. بالتالي تصبح الأفكار والعواطف المتشابكة أقرب إلى الهواجس الاستشرافية فيما يشبه البحث عن الفضاء الخاص لنجاة غير مستوعبة داخل موت متجذّر في الماضي، ولابد أنه يرسم في ذلك الخفاء الذي يتم السعي لاستكشافه تلك الخطوات التدريجية لحدوثه في المستقبل.
هذه الرغبة السردية في مطاردة التوقعات المستترة داخل صدوع الماضي لـ "الديستوبيا المكتشفة" لا تؤجل استقرار "الكابوس" أو مراوغته فحسب، وإنما تحوّل "الاستشراف" المضمر في حد ذاته أيضًا إلى "منظور"، يختلف مع كل اعتقاد أو تخيل، ويتبدل مع كل لحظة تفكير أو شعور بـ "الضياع" تحاول التخلص من إيهامها، وفي نفس الوقت تنفلت على نحو ضمني من معناها المترفّع، أو يقينها الإدراكي مثلما نجد في رواية "فصول من سيرة التراب والنمل"
لكن في نفس الوقت يجدر بنا تأمل كيف تتغيّر التفاصيل الثابتة بتعدد الرواة، أي الطريقة التي تخلق بواسطتها وجوهًا متباينة لوجودها داخل كل حكاية جديدة .. هذا ليس تأثيرًا في اتجاه واحد، أي انطلاقًا من الشخصية نحو الشيء المستقل في جموده الخاص بل هو نوع من التبادل القائم دائمًا، والأقرب للامتزاج الغائم، الذي يعطي التفاصيل حتى في عدم تبدّلها القدرة على إنتاج كائنات متعددة، وبالضرورة تواريخ مغايرة لأشباحها .. يكمن السر في الكيفية، أي في الشكل الذي يتم من خلالها تحديد علاقات الخلق المتبادل بين الحكايات والأشياء، أو ما يمكن أن نطلق عليه صِيغ التوحّد المراوغة بين عمائها.
"حكى لها عن تسكعاته في شارع الملكة نازلي وشارع الملكة فريدة، الأزبكية وشارع ابراهيم باشا وميدان اسماعيل باشا، كانت عايدة تشرد وتطلب منه وعودًا بأن يأخذها إلى كازينو صفية حلمي والأوبرا الملكية وكازينو بديعة وأن يعبرا سويًا كوبري عباس مشيًا. انفجر الدكتور عزيز في الضحك. (يا ستي .. وسان سوسي قدّام شقتي في ميدان الجيزة .. دا غير اسكندرية التريانون وديليس واتنينيوس وهلّم جرّا .. وكل ده بقى كوم وأوربا لوحدها كوم تاني)".
بذلك يصبح "الغياب" وتحديدًا "لغته" هي "الحياة والموت"، التي لا تسكنها "الديستوبيا" وحسب، وإنما تخلق تأملاتها أيضًا. تنسج المكائد المتغيرة للمأساة باسترجاع ما تبين أنها جذورها المطموسة في الزمن. لم يعد هذا "الزمن" في حالة "انقطاع" عن "المأساة" أو محض تراكم تدريجي لاكتمالها، وإنما صار "مشيئة"، قرار غيبي تحقق بالفعل، محتميًا برمزيته الاستعبادية، "حكاية" قهرية شُيّدت سرًا، وما العلامات التي قد تبوح بها ما هي إلا احتمالات تستعملها الذات في مجادلة ذلك الغياب، في الصراع مع الغريزة القدرية للعالم، لا استنادًا إلى "حكمتها" بالضرورة، وإنما امتثالًا لمقاومة الشر المتسلط من "بلاغتها". كأن هذه المقاومة هي إشارة الذات لحضورها "الإلهي" قبل وجود فكرة "الديستوبيا" نفسها كما في رواية "دنيا زاد"
"الحلم: اليوم أتمت دنيا زاد ثلاثة أسابيع. أنير لها شمعة وأحملها إلى قبرها الساكن في ركن من أركان الغرفة. أفتح باب القبر وأتسلل إلى حيث الجسد الساجي. أضع الشمعة إلى جواره. وأبكي مرة واحدة. في طقوس حب سرية، أراها تطبع على جبيني قبلة حارة كحرارة القبر المغلق".
لكن الاستشراف يتضمن تلك الحاجة البديهية للحصول على الحياة التي لم تعشها دنيا زاد .. ليست حياتها ككائن يجرّب العالم بشكل اعتيادي، وإنما حيوّات الآخرين التي كانت ستمنحها لهم دنيا زاد لو لم تمت .. الوجود الذي لا ينبغي أن يتوقف عند الحدود التقليدية للبنوّة، وإنما ذلك الذي يجدر به التخلص من الألم المنطقي، أي يستبعد بصورة محصنة الجوهر العدائي المجهول الذي لم تختبره دنيا زاد، وبهذا يكون موعدًا مؤجلًا، متجرّدًا من الفناء.
هذه المقارنة تقارب "الديستوبيا" ـ بالأخص ـ في ترصدها المحتجب داخل ما لا يشي بها، ومن ثمّ فإن "الاستشراف" ليس محاولة للتحديق إلى "النبوءات" الخفية التي غافلت الذات في الماضي، وإنما إلى "الخراب" نفسه كموضوع لا تخدش السردية الذاتية ما يجسده، وإنما تقوّض مبرره. أتحدث عن الانتباه أو التيقظ إلى التفاصيل كما لو أنها سيرة شبح متهكم عنادًا "للفجيعة" كما في رواية "فصول من سيرة التراب والنمل":
"عندما عاد في الثالثة عصرًا دخل إلى حجرة الدكتور عزيز مباشرة، فوجئ به مستلق على ظهره في السرير، صغير الحجم كطفل، منكمشًا، شاهد فؤاد بنفسه مئات من أسراب النمل تدخل وتخرج من فتحتي أنف الرجل وتغطي عينيه وتدخل وتخرج من أذنيه وفمه ـ فأدرك أنها النهاية وأجهش باكيًا".
لهذا فأسراب النمل لا تأتي من الخارج بل من التفاصيل نفسها .. من أشياء الواقع التي يمنحها الوعي قيمة مقدسة، خاصة حينما تتحوّل إلى ماض مفقود .. أسراب النمل تختبئ داخل أغوار التفاصيل مهما تعددت أو تباينت الحكايات، أو اختلفت طرق تكوينها واندماجها .. مهما تجلت الحياة كوفرة براقة أو انطواء شاحب؛ لا يمكن لهذه الحتمية أن تُنتهك، حيث الجسد المتحسّر لم تخلقه في جميع الأحوال تلك الأشياء التي كان يجب عليها فقط التواطؤ قهرًا مع "المتغيرات القاتلة للواقع"، وإنما الأشياء الحميمية التي تضمر الموت وتمرره بأكثر الأشكال غموضًا، وبقدر رسوخها الظاهري كأيقونات ملائكية يهددها المحو.
"الاستشراف" سؤال عقابي، محاكمة سردية، لا تُبقي "الديستوبيا" عند حدود "المفاهيم التاريخية" وإنما تجعلها بعثًا مضادًا لخفائها.
الهوامش:
ـ رواية "فصول من سيرة التراب والنمل" / حسين عبد العليم ـ دار ميريت 2003
ـ رواية "دنيا زاد" / مي التلمساني ـ دار شرقيات 1997
ـ الموت المدخر في التفاصيل / ممدوح رزق ـ قراءات في الرواية العربية، دار ميتا 2021
ـ الموت يسرد صمته / ممدوح رزق ـ قراءات في الرواية العربية ـ دار ميتا 2021
مجلة "الناقد"
العدد الثاني
أبريل 2024