الثلاثاء، 11 يونيو 2024

كيف يخلق الخيال النقدي نصًا شبحيًا؟ (2 ـ 2)

النموذج التطبيقي

صورة فوتوغرافية لكاتب مع نسخة من روايته “الفشل في النوم مع السيدة نون” .. كلمات أسفل الصورة عن أن حياة الشاعرة أو “البطلة المزعومة” للرواية لم تكن سوى يد سردية من الأكاذيب والمبالغات، خلقها الكاتب كي تعاون أيديه الأخرى في هرش خصيتيه مقاومة للضجر الذي يلازمه دائمًا .. ما هي الكلمات الأصلية المحتملة التي تبادلها الكاتب في الواقع على الماسنجر مع تلك الشاعرة قبل أن يحوّلها إلى “أكاذيب ومبالغات”؟ .. كاقتفاء خائن لأثر ذلك النص في كتاب “وهم الحضور”؛ هل كان يمكن أن تتحوّل هذه الكلمات إلى “كتابة أخرى” لا تشعر معها تلك الشاعرة بالتوتر ـ كما أخبرت الكاتب في رسالتها له عن الرواية ـ ومن ثمّ لا ترتكب نتيجة لذلك أية حماقات مضحكة؟


“بدأت الحوارات في التكوّن بيننا على الانترنت، كانت قليلة لأنها لم تكن تفتح الماسنجر كثيراً، وفي نفس الوقت كانت أحاديثنا غالباً قصيرة، وليست متعمقة بما فيه الكفاية .. كلام عام عن حياتها، وبيتها، والجامعة، وعن مصر، والشعر، وأصدقائها الذين أعرفهم، وذكرياتها معهم”.


بهذه الكيفية كانت الحياة “نصًا أدبيًا” عند نيتشه .. أثرًا غير مستقل لإنكار الحقيقة .. كانت اللغة اليومية فنًا، ممارسة فلسفية، أسلوبًا للمخاطرة .. “سأجعل من نفسي سيرة للاستكشاف” .. الغضب الغريزي .. إحراق السماء .. لهاث الكتابة .. رعشة المراوغة .. الاندفاعات المحمومة .. الانتقام من الطمأنينة .. غرابة النشوة .. الأورجازم اللغوي .. خرافة الإثم .. استرداد البكاء الطفولي .. السخرية من “الرهان” .. إهانة قاطع الطرق الأعظم.


أنت لم تبصر كل العفاريت التي خرجت منك وأنت عارٍ في ميدان مزدحم .. العفاريت لن تكون هي نفسها حين ترتد إلى داخلك ثانية بعد تعذيبها .. حسنًا .. لتواصل وطء تفاصيل ومشاهد وأسرار الازدحام كي تعثر على المزيد من كوابيسك .. لتمعن مخاتلة كل كابوس في قتلك.


كيف يمكنك اللعب استباقيًا ـ تفكيك النظام بتعبير دريدا ـ وعلى نحو متعمّد بإشارات التناقض في الموضوع الإيروسي؟ .. الفجوات والهوامش تكتب الرواية دون مواراة .. تحويل الانتهاك إلى بداهة .. تخريب ساطع للإزاحات .. استمتاع بالتهكم على الأوهام الأخلاقية التي تحاصر الكتابة .. استمتاع بالتهكم على استثمار الأوهام الأخلاقية الذي سيحتدم بعد قراءة الرواية .. ثمة صدى جدير بالاستعادة: يعتبر الناقد والأكاديمي العراقي د. نجم عبد الله كاظم “الفشل في النوم مع السيدة نون” من الروايات التي اخترقت المحظور الجنسي والمسكوت عنه بغرض التعبير عن الموقف وبنضج وتبرير موضوعي وفكري، حتى وهي لا تتوقف في تعاملها مع الجنس عند حدود، أو حتى لو كان الجنس هو بحد ذاته مادة الرواية وموضوعها، وذلك ضمن دراسته عن المتغيرات والتجديد في الرواية العربية المعاصرة .. “ربما يمكن للطفل في طفولته، وبواسطة مناظر، وأحداث كهذه أن يبني ما يمكن أن يُعد أصولاً، أو جذوراً للعب .. يمكنه أن يكتسب بصراً سرياً، يجعله يدرك أن الجنس هو أكثر المشاهد التي كلما أخذت راحتك في التبديل بين تفاصيلها كلما كان ذلك أكثر استجابة لإرادتها الجوهرية”.


قصيدة لشاعرة اسمها “قراءة الماضي” تكتب على الماسنجر لـ “الفشل في النوم مع السيدة نون”: “لا أعرف لماذا أكتب لك هذا .. ربما أردت أن ترى توتري فحسب” .. “الفشل في النوم مع السيدة نون” يصمت .. كاتبة اسمها “أن تتناولك رواية أو هل تراني فعلًا بهذه الطريقة؟” ترسل عبر مدونة “قراءات” ردًا إلى “قراءة الماضي” .. الرد الذي يبدو ـ رغم سعادتها به ـ لم يعوضها عن الرد الذي لم تتلقاه من “الفشل في النوم مع السيدة نون” .. “الفشل في النوم مع السيدة نون” يقابل “قراءات” صدفة على مائدة “الرواية والفانتازيا” .. “مصافحة سريعة وابتسامة خاطفة ثم اختفاء فوري” .. “الفشل في النوم مع السيدة نون” يكتب “نصوص متحركة”.


تحلم الرواية بالشاعرة والروائي الشاب الميت، فقط .. “(الشخصيات) تتوقف عن أن تكون (حقيقية) في الكتابة مهما بلغ وضوح ملامحها الحقيقية” .. الحلم يجعل الشخصيات أكثر واقعية مما تبدو عليه .. الواقع الثأري لكاتب الرواية .. “قررت تحويل الكتابة إلى حياة انتقامية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى” .. ليس الثأر من “الشخصيات الحقيقية”، وإنما من “السياق” .. التاريخ كما يدعي الحدوث .. كما كان يُحتمل أن يحدث .. “لم تعد لدي حياة كي أعيشها” .. انتقام من كل تخيُّل، فقط.


مقاطع من “الفشل في النوم مع السيدة نون” بصوت الكاتبة الفلسطينية سحر أبو ليل في برنامجها الإذاعي على ساوند كلاود .. مقاطع ماجنة تُقرأ بصوت رقيق وأداء شاعري وعلى نغمات موسيقى ناعمة .. صوت لا يعرف كاتب الرواية .. صوت غير متأكد من أن “الفشل في النوم مع السيدة نون” تدعم صورة واقعية لكاتبها أم لا .. صوت نقيض “الصداقة” .. مضاد لليقين .. ما يحتاجه بشكل حاسم ودون إمكانية للتفاوض هؤلاء “الذين رأوه متعيّنًا في الحياة، وجلسوا وتحدثوا معه ذات يوم أو في كثير من الأيام .. الذين حينما ينتهون من قراءة رواية كهذه سوف يبتسمون بالثقة اللازمة لطمأنتهم على سلامة وعيهم بالموت، وهم يرددون في أذهانهم، وبين بعضهم البعض: ليس هناك شك في أنه هو، ويدرك نفسه جيدًا مثلما ندركه” .. تصل نسخة من “الفشل في النوم مع السيدة نون” إلى “صديق” فتكون تلك هي اللحظة الأخيرة في علاقته الشخصية بكاتبها .. كأن الرواية هي الفرصة الثمينة التي خلقها الكاتب عمدًا كي يتخلص من “أصدقائه” .. قطيعة مقصودة تستبق “الاستجابات القاصرة” التي لا يجب إهدار أي شيء في مواجهتها .. “لأننا رأيناك، وتحدثنا معك، وكنا “أصدقاءً”؛ فإن الاحتمالات تتضاءل للالتفات إلى غير ما نعتقد أننا نعرفه حقًا عنك .. لن نبصر في صفحات الرواية ما يتجاوز التأكيدات على حقيقتك المتداولة في الواقع، ربما بعكس لو لم نصادفك أبدًا من قبل .. لن نفكر في وجوهك الأخرى المغايرة أو المناقضة لذلك الوجه الذي اعتدناه، ولمسنا تطابقه مع ما رسمته أنت نفسك بالكتابة .. لن نتساءل عما وراء غياب الخجل والحذر والانضباط في “الفشل في النوم مع السيدة نون” مقابل حضور العدائية والطيش والمبالغة، كالتي تناولت بها شخصية تلك “الشاعرة” مثلًا” .. كأنها الفرصة الثمينة التي خلقها الكاتب عمدًا كي يهزأ من هؤلاء الذين لن ينتبهوا إلى ما يشبه plot twist في الرواية، أو جرس تنبيه للتمعّن في “الوجوه المتعددة”:
“لي صديق كاتب قصص قصيرة اسمه (ممدوح رزق)، حينما أخبرته بالأمر أعد لي هدية فرحت بها كثيراً يا دكتور .. كانت عبارة عن مزاوجة بين القصة الأولى في اليوم السابع من (الديكاميرون) لـ (جيوفاني بوكاشيو)، وقصة (المدرسة الداخلية) لـ (أناييس نن) من مجموعة (دلتا فينوس)”.


الفصام الجامح في الرواية إعلان ملكية الكاتب لأشباحه، يماثل إعلان رولان بارت ملكيته لجسده حين قام الأطباء بإزالة قطعة من ضلعه ثم أعادوها له ملفوفة في شاش طبي صغير .. تكتب ماري جيل في “رولان بارت (بديل الحياة)”:
“هل نرى في هذا النص رمزًا للكتابة، من البعد السيري للكتابة شاملة؟
ما هي الكتابة إن لم تكن حفر المرء لجسده ونشره على شكل قطع وإعطائه للكلاب الرعوية. إن النشر هو تحويل اللحم إلى طعام إلى قطع، حيث يحصل القارئ على العظام لمضغها.

الكتابة لبارت تضع جسدك في المحور، تفهم حرفيًا حقيقة أنك تكتب بجسدك. هذا المقطع يفسر الكليشيهات البارتية: كتابة الجسم، القطعة نفسها هي استعارة كجزء من الكناية في العمل. نرى أن ما يكتبه بارت عن الجسد هو العظام. ما هي هذه العظام؟ هي قطعة من الذات منفصلة ومتلائمة ستسمح لبارت أن يصبح مالكًا لنفسه. إن نزع قطعة من الجسد، أو النزع التدريجي للجسد، في الدرج، هو استنساخ خيالي لعملية الانفصال في الكتابة، والموت من موت المؤلف من آثاره، وهناك ما يشير إلى ولادة”.
حفر الذات ونشر قطعها في “الفشل في النوم مع السيدة نون” هو مضغ لعظام الكلاب الرعوية التي تقف تحت نافذة الكاتب انتظارًا لما سينتزعه من جسده ويلقيه لهم .. كأن انفصاله عن جسده سيجعله مالكًا بالضرورة لأشباح قرائه .. لخيبات الغرباء التي يلهو بها “المريض والطبيب” عبر صفحات الرواية (في زمن ما بعد علم النفس) .. النزع التدريجي للجسد هو استنساخ خيالي للألوهة التي انتُزعت من الكاتب من قبل أن يمتلك عظامًا.

مجلة “الناقد”

العدد الثاني – أبريل 2024