الجمعة، 9 مارس 2018

الذات تراوغ عماءها


لا تجعلني قراءة رواية "ظل طائر خفيف" أفكر في الصور المتعددة للذات أمام نفسها أو أمام الآخرين بل في الماهية الملغزة للذات كفكرة، كاحتمال مستقل يسبق انعكاساته المتغيّرة داخل الوعي أو عبر إدراك الآخر .. الماهية التي ربما ليس بمقدورنا سوى أن نحاول بشكل مستمر الوصول إلى تشبيهات متبدلة لإبهامها مثل اللوحة التي كانت على حائط البار أمام البطلة، وأعطاها حازم عزت سعد هذا الوصف:
"تتعارك داخلها الخطوط، وتشتبك بضراوة لتشكل مهزلة حربية بلا أدنى تكتيك".
تعيدني هذه اللوحة إلى مونولوج داخلي سابق للبطلة حول الضيق والضجر والاضطراب:
"أنا لا أحتاج طبيبًا نفسيًا لأعرف الأسباب، هم فقط يضعون الأشياء في مصطلحات منمقة، والأحاسيس المتضاربة في قوالب درامية ثابتة، لكن الأمر يكون عشوائيًا أكثر مما يتصورون".
لكنها ليست مجرد محاولة للوصول إلى تشبيه للإبهام؛ بل أيضًا علامة استشرافية للغموض حيث يتحوّل الرصد، أو الكفاح للقبض على أي مما يمكن اعتباره جرحًا ملتبسًا إلى تمهيد يكاد يكون نبوئيًا لاشتباك قادم مع تعمية جديدة للذات .. طمس متزايد، تجسده الصراعات الشهوانية الطائشة، التي تتخذ أحيانًا مظاهر تآلفية، وتفرض هيمنتها داخل الفضاءات المختلفة التي تتنقل داخلها بطلة الرواية، أو بالأحرى المصائد المجهولة التي تتكاثف عتمتها كلما كشفت بوضوح تام عن وجودها:
"معقد هو الأمر. امرأته على علاقة بصديقتها الأجنبية. دفع ذلك فيّ شعورًا بالراحة، تعرى الدكتور أمامي دون أن يعرف، كما فعلت أمامه بالجلسة".
بهذا يصبح التخيل الذي تمارسه بطلة الرواية لعلاقة ثلاثية بين الطبيب النفسي وزوجته وصديقتها الأجنبية تجهيزًا لمشهد لاحق ستكتشف فيه البطلة حضور صديق زوجها أثناء ممارستهما الجنس عبر شاشة اللابتوب، وبدوره يصبح هذا المشهد ترتيبًا آخر لصداقة ستتطور على فيسبوك بين هذا الزوج وزوجة الطبيب النفسي، قبل أن تحل بطلة الرواية محل الصديقة الأجنبية في العلاقة مع زوجة الطبيب النفسي .. هي المهزلة الحربية التي بلا أدنى تكنيك حيث لا يجب أن تستبعد حدوث أي شيء مهما كان غريبًا أو صادمًا أو حتى يبدو غير منطقي لدى من يحاول استيعابه، وبهذا فمهما كانت طبيعة التخيلات؛ فإن أكثرها جموحًا يستطيع التحقق في لحظة مستقبلية، وبالكيفية التي يؤكد من خلالها أنه بالفعل المعادل الحسي لهذا التخيل.
علينا أن ننتبه أيضًا إلى العفوية التي يتم بها الانتقال من التمهيد إلى التعمية، التي تصير بالتالي تجهيزًا لفخ جديد سيتم تجسيده تلقائيًا .. يتبنى حازم عزت سعد في أحيان كثيرة ـ وخاصة في بداية الرواية ـ إيقاعًا سرديًا متلاحقًا لإثبات هذه العفوية كأنه يكرّس للعادية المطلقة التي يتم بها الأمر، وهو بذلك يجعل هذا الإيقاع متماشيًا مع التنفس المتسارع لبطلة الرواية؛ فما يحدث ـ رغم أي شيء ـ بديهي كالتنفس .. كتنفس هذه المرأة تحديدًا.
يدخل التحوّل المتعمد لشعر بطلة الرواية إلى اللون الأبيض في نطاق الاستشراف؛ فتلوين شعرها بالشيب ليس فقط لاستدعاء أثر شكلي يصوّر (شيخوخة الذات)، وإنما أيضًا للكشف عن يقين الذات تجاه نفسها بأن ما تعيشه الآن ليس مؤقتًا بل أبديًا .. أن ما تختبره ليس مقصورًا على زمن معين بل إنها في حقيقة الأمر تعيش مصيرها أيضًا.
"هل يمكن أن يرى الإنسان نفسه جميلًا؟! أعتقد أنه يراها نفسه. لا يراها قبيحة، أو جميلة. يكره أشياء في شكله. يحب أشياء أخرى، إنما أبدًا لا يقارن صورته بأي إنسان آخر، ويقيس هل هو جميل أو لا".
تتناول هذه الرواية الصادرة عن دار الربيع العربي العديد من الأبعاد المعلنة، لعل أبرزها موضوع "الاتهام"، والمقترن أو المتداخل مع موضوع آخر وهو "المحاكمة" .. الرعب من الإدانة .. من أن تتصرف على نحو خاطئ .. من أن تفقد صورتك مبررات قبولها لدى الآخرين .. السلطة التي يمتد قهرها عبر ذهن البطلة إلى عواطفها المضطربة، إلى هيئتها وسلوكها الجسدي .. هذا ما قد يجعل استفهامًا جوهريًا يصاحب خطواتنا داخل الرواية: أي كينونة مبهمة للذات تلك التي سبقت وجود أجسادنا ثم احتلتها، لتجعل من العالم مسرحًا للتناطح بين لغز وآخر؟ .. بين فردية لا تستطيع التعرّف على نفسها، وفردية مغايرة؟.
"هل يرونني تافهة، ضئيلة؟ هل قلت شيئًا؟ فعلت شيئًا خاطئًا؟ هل انفعالات وجهي لا تبدي ما أشعر به؟ هل استعملت مفردة قاسية في غير محلها؟".
هل يمكن تأويل "الذنب" بوصفه أحد التمثلات "الغامضة" لهذه السلطة؟ .. أن يفترض بك القيام بشيء لا تقوم به، لا تعرف ما هو، ولا تعرف لماذا لا تقوم به، ولا حتى من قد يلومك عن هذا التقاعس كما كانت تفكر بطلة الرواية؟.
"الواقع أن ما نطلق عليه خطأً أو صوابًا، إنما يوجهنا لفعل ذلك حكم المجتمع، الذي بدوره تؤثر فيه أمور عديدة من بينها الأخلاقي واللا أخلاقي".
يمكننا تأمل العماء تجاه "الذات"، وعلاقته بـ "الذنب" في ضوء "الإيمان" كمضاد لـ "الفهم" .. غياب المنطق الذي يُدفَع ثمنه كل لحظة في مقابل طمأنينة لا يتم الحصول عليها .. نحن نحاكم أنفسنا ويحاكمنا الآخرون لأننا لا نستطيع معرفة وجودنا .. لأننا نتمسك بالرجاء في المقدس الذي لا ينقذنا عوضًا عن الجهل الذي فُرض علينا، والغفلة التي لم نخترها ..  قرأت الحوار الأخير بين بطلة الرواية والطبيب النفسي الآخر كأنه جدل تقليدي بين امرأة تتم محاولة ترويض انفلاتها وتمردها لصالح وعي بليد، يقوم ـ كالعادة ـ على إجابات تلفيقية سهلة لدى خبير تنمية بشرية ذي طابع ديني .. وعي لا يجرؤ على التوقف أمام (لماذا يحدث الأمر هكذا، وبتلك الصيغة التحذيرية والعقابية؟) ليهرب بالمسالمة اللائقة نحو (سيتم التعويض بعد الموت عن حدوثه هكذا) .. يتخطى (لماذا يجب أن تظل ماهية الذات ملغزة؟) إلى (ينبغي أن تصدّق حتى لو كان كل شيء ضد المنطق، ومهما كانت النتائج الجحيمية الناجمة عن ذلك) .. (لماذا ينبغي أن يوجد الخطأ من الأساس؟) إلى (الدين صحيح دون شك، ولابد أن يكون هناك المخطئ الذي يسعى للتكفير عن ذنوبه) .. (عدم الاقتناع بالحجج الفاشلة، ورفض الأسانيد المتبجحة للسلطة سواء كمجتمع أو كعقيدة، أو محاكمة الحرمان القدري من أن يكون لكل فرد انعزاله "الإلهي" الذي يحميه من الآخرين) إلى (لا يمكن تطبيق عدم الاقتناع حيث يستحيل الانعزال عن الآخرين فحسب نتيجة "الغرائز" التي "خُلقت" داخلنا") .. ثم نأتي إلى (الحكمة الأكثر هزلية وسذاجة) على لسان الطبيب النفسي:
"سيصبح تنفيذك لنظريتك عن الخطا من الخطأ ... لكونه لا يراعي من يتحمّل وجودك المؤذي في حياته لتصوره أنه إذا ما تخلى عنك فسوف يضرك. يتحمّل أذاك له ولا يتحمل أذاك".
كأنه ليس من حق أي إنسان أن يغادر أي علاقة لم تعد لديه أدنى قدرة على تحمّلها لو كان قادرًا على ذلك لمجرد أن الطرف الآخر لا يزال قادرًا على تحمّل وجود هذا الإنسان في حياته .. بالطبع لم يخطر في ذهن الطبيب النفسي أن عدم إخراج الآخرين لي من حياتهم لا يفرض عليّ التزامًا أخلاقيًا بأن أبقى داخل هذه الحياة التي لا أطيقها بحيث أصير مُدانًا لو خالفته، وإنني لو قررت البقاء فهذا لا يجب أن يتم تحت وصاية قيمية "المراعاة" التي تهددني وتُجرّمني لو عارضتها لأن هذا النوع من الوصاية ضد حريتي البديهية في أن أبتعد عن ما يسبب لي الألم، وهو موقف مناقض للآخر الذي يحاول فرض نفسه ـ عاطفيًا وأخلاقيًا ـ على وجودي، ويحاول إجباري على البقاء في حياته لأنه قدم عربونًا استباقيًا بقبوله لحضوري في مكان لا أريده أصلا .. لم يخطر في ذهن الطبيب النفسي أيضًا أن هذا "الآخر" الذي يجدر بي "مراعاته" بعدم الخروج من حياته قد لا يفهم أنه يضرني، وأن ما يبدو له خيرًا من تصرفات يقوم بها تجاهي قد تكون قمة الإيذاء بالنسبة لي، وأن الأنانية القصوى تكمن في هذا الذي يشبه الابتزاز الشعوري الذي يجرّد شخصًا ما من حريته، ومن رغبته في الخروج من دائرة مهلكة بالنسبة له كي يجبره على الامتثال لمشيئة الآخر المغلفة بالنوايا الطيبة وتنتج الشر حتى لو كان دون قصد .. لم يخطر في ذهن الطبيب النفسي كذلك أن مراعاة الآخر لي أو (تحمّله لمساوئي) حينما لا أطلبه أو أسعى إليه أو أتمناه فإنه لن يجعل هناك مسؤولية بالضرورة على عاتقي تجاه هذا الآخر، خصوصًا لو لم أفعل أكثر مما هو حق لي أي "الابتعاد" ..  يشبه الأمر أن أسجنك في بيتي الذي لم تعد تقدر على التواجد داخله لحظة أخرى لإنني أريد ذلك، ولإنني لا أرى نفسي مخطئًا، ولإنني أريدك أن تتحمّل أخطائي لو حدثت، ولإنني أتحمّل أخطاءك التي لم تطالبني من الأساس بتحمّلها، ومهما كان هذا السجن قاتلا بالنسبة لك.
لا تقدم "ظل طائر خفيف" إجابة أو تفسيرًا حول موضوع "الذنب" فما تقوم به بطلة الرواية يمكن أن يسير في جميع الاتجاهات التأويلية سواء كان رغبة في تعويض الأب الميت عن ما قامت بارتكابه ضده قبل الموت عن طريق استبداله بجميع الرجال الذين يعبرون جسدها بأساليب مختلفة، والذي تتم مضاعفته اندماجيًا بجسد امرأة أخرى "حياة مغايرة مفارقة ومتخلصة من الماضي", وبمشاركة الأم ـ كثأر منها ـ التي يمكن أن تحضر في جسد زوجة الطبيب النفسي ـ وهو ما يرتبط أيضًا بتجديد الخضوع للأب من خلال هذه الشهوات الذكورية، أو تفكيك هذا الذنب والسعي للتحرر منه بواسطة التمادي في ارتكاب ما كان سببًا أوليًا له .. يتمثل هذا في أحلام بطلة الرواية التي تتأرجح بين الشعور بالانتهاك الفضائحي، أو تحويل الفحولة إلى لعبة تريد أن تحطمها وأن تمتلئ بها في الوقت نفسه، أو أن تنتقم من قوانينها (شبق الاتهام والجزاء الذكوري كمحرّك للقهر البشري ضد الأنا) وتجعلها كذلك جسرًا للخلاص من "عدم الفهم".