الاثنين، 19 مارس 2018

قصتها القصيرة


يتوقف التاكسي بي أمام حاجز المزلقان .. يتعاقب وصول السيارات الأخرى إلى الحاجز فتتوقف بجوار التاكسي من الجانبين .. يقترب العابرون ثم يتوقفون بينما تتأهب آذانهم وعيونهم لمجيء القطار .. أراه يتحرك وحده .. بخطوات بطيئة تدنو من حاجز المزلقان .. ملامحه مزيج من الغضب والضجر .. عيناه تائهتان برجاءٍ مكتوم .. يقف بين العابرين .. يضع يديه في جيبي بنطلونه كمن يحاول إخفاء عجزه عن منحهما الوضعية الصحيحة أثناء الانتظار .. يتلفت حوله بارتباك منهك، كأنه لم يعد يتذكر شيئًا عن نفسه وعن الحياة أكثر من أنه لا يجب أن يعبر الآن .. تتنقل نظراته بين الوجوه التي تحاوطه بتلهف شاحب، يحاول الاختباء، كأنما يبحث عن شخص غامض، لا يعرفه، وفي ذات الوقت لا يريد لهذا الشخص أن ينتبه إلى وجوده لو كان قريبًا منه بالفعل .. ينظر إلى القضبان .. يبدو أنه يتطلع إلى شيء آخر من خلاله، أو بالأحرى ينظر إلى عدم قدرته على رؤية هذا الشيء الآخر .. أسمع صوت القطار .. أراه يخفض عينيه لأسفل كطفل لم يتعوّد أبدًا على مروره رغم السنوات التي شيّبت شعره، ونحتت التجاعيد والخطوط في وجهه .. من حركة رأسه نحو فراغ ما بعد عبور القطار، من صدره الذي يعلو ويهبط بتلاحق ثقيل، من الخروج اليائس ليديه من جيبي بنطلونه، من نصف الخطوة الباهتة لقدمه اليمنى التي تحركت باتجاه حاجز المزلقان وهو يرتفع قبل أن تتوقف مجددًا؛ أكاد أرى الارتجافات القوية لقلبه كأنه تحوّل منذ زمن بعيد إلى مخزن لدوي القطارات .. يتحرك التاكسي بي، ويمر بجوار خطواته السريعة التي تبدو فرارًا، أو سعيًا للحاق بموعد لم يحصل عليه بعد .. يبتعد التاكسي فيغيب عن عينيّ .. أنظر أمامي وأفكر؛ لماذا لم أستطع أن أراه أبدًا هكذا من قبل رغم أننا نعيش معًا منذ خمسة عشر عامًا في بيت واحد؟ .. لماذا يظهر هكذا الآن رغم أننا قبل مغادرتي المنزل منذ أقل من ساعة كنا نضحك في نهاية دعابة قلت له خلالها أنني وطفلتنا سوف نتشارك في قتله لو فكّر في الزواج من واحدة أخرى تكتب قصصًا قصيرة مثله؟ .. لماذا يبدو بجميع طبائعه المتغيرة طوال الماضي شخصًا مختلفًا عن هذا الذي رأيته صدفة اليوم؟ .. لا أعرف؛ هل هكذا يظهر دائمًا كلما توقف عند حاجز المزلقان قبل عبور القضبان وحده بعد مرور القطار؟.
اللوحة لـ Bob Dylan