الأربعاء، 7 مارس 2018

«ممدوح رزق» الخارج عن النص


أجرى الحوار / أحمد أبو الخير  
سينظر إليك، نظره فاحصة، أي طرف في الحديث لابد أن ينتبه إليه، وحينها فلتعلم أنّه يٌفعل المُخبر السري داخله، ليلتقط الشارد، يُخبىء الوارد، يعمل على تجميع أرشيف للشخصية التي أمامه، لحين استغلالها داخل أي نص.
ولكن، إذا جلست جِواره، فسيُخبرك بالتاريخ السري لمدينة المنصورة، الذي استقاه من معايشته لها من بداية الثمانينات، حيث أنّه من مواليد عام 1977م، أو مما قد حُكِى له من أصحاب المحال، أصحاب البوتيكات التي تعتم الرؤية من كثرتها داخل شارع بورسعيد أو الخواجات بالمنصورةِ، من نوادر وفكاهات الباعة الجائلين، الذين رأيته في مرة يُمسي على أحدهم.
مكان جيد لسلحفاة مُحنطة”، مجموعة قصصية له صدرت في 2013م، لتجد لها مكان بين القائمة القصيرة لجائزة ساويرس. صدر له عن مؤسسة بتانة في 2017م، مجموعة قصصية بعنوان “هفوات صغيرة لمغير العالم”، له رواية”الفشل في النوم مع السيدة نون” الصادرة عن دار الحضارة. له مقالة شهرية في جريدة أخبار الأدب، وأخرى في جريدة الحياة اللندنية، وحاصل على العديد من الجوائز .
صدر له مؤخرًا عن الهيئة المصرية العامة المصرية للكِتاب رواية “إثر حادث أليم” التي تتحدث عن الطفولة في الثمانينات داخل المنصورة، الرواية التي قال عنها الناقد الكبير أ/ سيد الوكيل أنّها من أكثر الأعمال الأدبية التي جذبته في عام 2017م.
قبل هذا الحوار ذهبت معه في رحلة ميدانية داخل شارع ميت حدر بالمنصورةِ، حيث تدور أحداث الرواية، أطلعني على الشرفة التي كان يجلس فيها الطفل مراقبًا العالم، أطلعني على فٌرن الخُبز، عن المدرسة، وغيره. وعن هذه الرواية وبعض الملابسات التي فيها كان لنا معه هذا الحوار:
تهانينا بصدورِ الرواية، والإحتفاء النقدي الكبير بها. وهي تحتفي بالذاكرة، تتراقص على حِبالها، فما هو تعريفك الشخصي لها؟
بالطبع لا يُمكن للروايةِ أن يكون لها تعريف بالمعنى الحاسم، ولكن يمكن القول أنّها تشتبك مع هموم تتجاوز أي تحديدات أو أُطر، ولكن لا شك أنه من صميم أرقها الزمن والذاكرة الشخصية وكتابة الماضي.
يسكن الطفل منطقة ميت حدر الكائنة بالمنصورة، وأنت كُنت كذلك. فهل يحكي الطفل سيرة ممدوح رزق في طفولته؟. بمعنى آخر، هل يُمكن القول بأنّها رواية سيرية؟.
الرواية تحكي ما أعتقد أنه التاريخ الواقعي لطفولتي، وهذا قد يجلعها متطابقة أو مختلفة عن ما حدث فعلاً، ولأنّني لا أميل إلى التصنيف؛ أستطيع أن أعطيها وصف سيرية فقط بإعتبار أن هذا النوع من الروايات قد يتضمن ما يمكن أن يجعلها مضادة لليقين الكامن في هذا الوصف.
في نهاية كُل فصل، كانت هنالك تجميعة لإعلانات، أفلام، موسيقى، مجلات أطفال في هذه الفترة – فترة الثمانينات، إلام يُعزى هذا الأمر؟
هذه التجميعة لتفاصيل وإشارات دقيقة للغاية داخل هذه الأعمال الفنية، ويمكن النظر إليها من زوايا عديدة منها مثلاً أنها تُشكّل الملامح الجوهرية الخاصة جدًا للطفل “المسرود عنه”، كأنها ظلال روحه أو هويته الباطنية التي تضيء طبيعة وجوده داخل كل فصل، وأيضًا بوصفها رسائل توثيقية إلى الذين تنتمي طفولتهم لحقبة الثمانينيات، كما تمثل كذلك شفرات لـ (الحادث الأليم) في الفصل الأخير من الرواية.
فراش المدرسة، المُعلمة التي كان يُريد أن يتزوجها الطالب، الفرن، بوتيك سحر وخلافه، كل هذه المعالم لهي حقيقة وأحداثها حقيقة؟
ذاكرتي حتى هذه اللحظة تؤكد لي أنها حقيقية تمامًا.
إذًا، كيف سترد على هذه الإشكالية التي ربما طُرحت عليك بأنّ هذا أمر غير أخلاقي، حيث الكتابة عن أحدهم وهو لا يزال على قيد الحياة؟
أتصوّر أن المسألة تتعلق باستخدام الأسماء الواقعية للشخصيات، وهو أمر أقوم به فعلا للمرة الأولى حيث أن لدي اعتياد على استخدام العلامات الواضحة التي تثبت الهوية الحقيقية للشخصيات دون تسمية، ولكن في “إثر حادث أليم” كان استخدام الأسماء الصريحة ضرورة لا يمكن التنازل عنها؛ لأن الرواية من ضمن ما تقوم عليه هو التوثيق الحرفي التام لكل ما يتم تذكره أو ما يبدو أن هناك نجاحًا في استرجاعه ـ وسرده مهما كان، وليس هناك أي محظور أخلاقي يمكنه أن يعطل استجابتي العفوية لما تتطلبه وتقتضيه الكتابة؛ فإذا كان هناك من يستعملون الواقع بحرية إيذائية فإن لي حرية مماثلة في استخدام الكتابة، ولكن دون قصد عدائي، أو كتصفية حسابات قديمة، وإنّما فقط لأنّ الكتابة أرادت ذلك، بصرف النظر عن تصنيف هذه الحتمية، كما أن هذه الحرية ليست حكرًا لصالحي بالتأكيد إذ أنها في يد كل من يقرر الكتابة.
الطفولة بما فيها من براءة وسذاجة وطُهر حاضرة بصورة مُغايرة إذ اكتست برداء النقد والتعليق والتحليل عليها، فهل يُمكن القول بأن الرواية تأريخ للطفولة عامة دون التقيد بزمن مُحدد؟
نعم، ولنقل بشكل أكثر دقة أنها تأريخ لهذه الطبيعة الطفولية بكل ما يُشكّلها من تداخل بين الواقع والخيال .. لاشك أنني أشعر بالسعادة حينما يقال لي أنني لم أكتب في “إثر حادث أليم” عن طفل (الثمانينيات) فقط، وإنما عن أطفال الأزمنة الأخرى أيضًا، ومع ذلك أرى أن لكل طفل، مهما تشابه الأطفال له أسرارًا مستقلة، تخصه وحده، أفكاره ومشاعره الغريبة، المنطق العجيب لتخيلاته؛ فإذا كان الطفل في “إثر حادث أليم” كان يتخيل، مثلا ، الحكايات الخفية للعابرين وهو يراقبهم من الشرفة، أو أن صوت القطار سيلتهم جسده، أو أن النهر سيجذبه من بصره حين ينظر إليه من فوق الكوبري، أو أن سريره في الليل يتحوّل إلى سفينة تخوض مغامرات بحرية، وتسافر إلى جزر بعيدة، أو أن لديه دكان حلاقة في حجرة نومه، أو أنه يبيع المخدرات في صالة منزله، أو أن الزلزال وحش خرافي يعيش تحت الأرض، أو أن الزمن يمكنه أن يكون أبطأ من سرعته الفعلية حين يحسب الوقت بطريقة معينة، أو أن هناك ثلاثة قضاة في البلتكانة يراقبون حياته لإصدار حكمهم عليه، أو أن الدنيا خُلقت من أجله وحده، وأن جميع البشر يتظاهرون أنهم لا يعرفونه في حين أنهم مكلفون بمهمة سرية تجاهه؛ فإن لكل طفل أيضًا عالمه المخبوء، أو روايته الخاصة التي يجب أن تُكتب.
يتحدث الناقد روبرت همفري بأنّ تيار الوعي يعمل على إبراز الجوانب الذهنية للشخصية، أما المنولوج الداخلي المباشر فيه استرسال وعدم اهتمام المؤلف بالقاريء، فهل يُمكن القول أن الرواية تقف في منطقة فاصلة بين هذا وذلك؟
هذا تأويل دقيق، وواع بالفعل؛ فالرواية يقودها هذا الصوت الجوّاني، بتمثيلاته السردية المختلفة، حيث ينعكس وعيه المتعدد بالذكريات، وعواطفه تجاه ما يستدعيه، وطريقة تدوينه للماضي على طبيعة هذا الصوت .. نعم، هذه الرواية حرصت بشكل كامل على توثيق ما أردت له أن يظل موجودًا في العالم بواسطتي، أو أن يبقى من خلال أثر سأتركه .. تعمدت أن أنقل طفولتي أو جزء منها بكل الأوصاف والسمات والخصائص التي كانت لشخصياتها وأحداثها وأشيائها من الخفاء إلى الوضوح الساطع، وبدقة متناهية خصوصًا كل ما يبدو صغيرًا وبسيطًا وعابرًا وهامشيًا أو لا يمثل ظاهريًا أكثر من نفسه .. هي رغبة ملحّة، لا يمكن التفاوض بشأنها، كأنها الفرصة الأخيرة قبل الموت في إعطاء هذه الطفولة ديمومة خاصة، ليس فقط كفوتوغرافيا لغوية، تعويضية وشاملة لما لم يتم تسجيله في صور بل أيضًا لإدراج عناصرها ضمن هذا الإدراك الاستفهامي المتجاوز للنوستالجيا والذي تتم كتابته للذاكرة .. بالتالي تكتشف هذه العناصر وتخلق وتسترد من جديد علاقاتها بتفاصيل الماضي ككل حتى ما يبدو أنها أبعد الجزئيات عنها .. حينما تقرر هذا فلن يشغلك مدى الاسترسال أو مقدار الوصف أو ما يظنه (القارئ) تجاه أهمية ما أنت حريص للغاية على تدوينه بقدر ما تكون مهمومًا بألا تغفل شيئًا مما أردت أن تعيد تجسيده بالكلمات، وستكون هذه الذكريات فقط من أجل (قارئ) يؤمن بأن الأمر يشبه محاولة إعادة الحياة للماضي كما كان بالضبط أو ما يُتصور أنه كذلك بشكل مختلف، يحرّض إلهاماته المختزنة على التحرر، ولهذا فكل شيء بأدق شذراته يجب أن يُروى طمعًا في هذه الاحتمالات الممكنة طوال الوقت، هذا سواء كان قارئًا تنتمي طفولته إلي الثمانينيات أم لا، حتى لو كنت أعتبر الرواية في جانب منها هدية توثيقية بالفعل لأبناء الثمانينيات.
قُرب النهاية يتحدث البطل على أنّه يَكتب كمحاولة لعدم التذكر أو على نحو تعبيره “لعدم ترويض الذاكرة” فكيف يُمكن ذلك؟ هل من المٌستطاع تحقيق ذلك عمليًا؟
كاتب هذه المذكرات يستوعب أن تذكر الماضي ليس هو الماضي نفسه، وأن تدوينه يحوّل التذكّر إلى خسارة للتذكّر، أي أنها هزائم مضاعفة مهما كانت قوة الثقة لمشاعرنا أو لقراراتنا اللغوية تجاه الذكريات .. الماضي يُذكّر كاتب المذكرات في كل لحظة أن كلماته لا تمثّل الحقيقة كما كانت تمامًا، وهذا ما يدفعه أحيانًا للاعتقاد بأن إصراره على التذكر والكتابة هو نوع من محو الذاكرة طالما أن كل ما يرتكبه يساهم في إبعاده عن نقائها الخالص، وبالتالي وكما جاء في الرواية، يبدو كل استرجاع كأنه فقدان للماضي كما كان حقًا، ولأن الكتابة معادية للتذكر القاصر والمخذول أصلاً، فهي تضمن أن يبقى الماضي مُغيّبا، غير خاضع لسلطة الحاضر، أي غير مروّض، ولا يعلن لصاحبه عن هذا الوجود المقصي، الحصين والمتمنّع إلا بواسطة ما لا يمكن تذكره أو تدوينه، أي عبر الإشارات الذهنية الخاطفة، كما جاء في الرواية أيضًا، التي تمحو العالم بشكل مباغت وتعيدك بدهاء إلى طفولتك للحظة غير مكتملة، تتلاشى على الفور، كأنّ الموت نفسه هو الذي يفعل ذلك.
تلتف النهاية داخل ثوب من الغموضِ، فعند قراءة الفصل الأخير دون التقيد بالنص الأصلي، فيُمكن أن يُنظر إليها على كونها قصة يرتسم عليها طابع السوريالية الوحشية، وخاصة أنّه يحمل اسم مُبهم(لغز كاتب المسرح). ولكن على الرغم من ذلك فيُمكن الربط بين النص الأصلي، وبين النهاية من خلال نعي الأهرام مثلاً، الموجود في المقدمة والنهاية، فهل تريد التعليق على ذلك؟
بالطبع لا أستطيع أن أتحدث، الآن على الأقل ـ بشكل تفسيري عن ما يبدو غموضًا في الفصل الأخير، ولكن يُفترض أن “لغز كاتب المسرح” مبني على ما أعتقد أنها استفهامات أساسية للرواية: من هو الابن؟ .. من هو الأب؟ .. لماذا يستعير الأب الذي هو بالتأكيد على قيد الحياة ابنًا وهميًا لينشر مذكرات طفولته؟ .. هل الأب هو كاتب المسرح نفسه؟ .. ما هو الحادث الأليم؟ .. هل ما جرى في اليوم السابق لهذا الحادث كان كابوسًا وصلت فيه رغبة طفولية قديمة إلى هلاكها حينما حاولت أن تتحقق؟ .. هل وقع الحادث كنبوءة لكاتب المسرح أم لحقبة الثمانينيات؟ .. هو بالفعل لغز لا يمكن حله مهما كانت الإجابة على هذه التساؤلات.
ما الجديد القادم في إبداع ممدوح رزق في الميادين الإبداعية المختلفة؟
أجهّز للمجموعة القصصية الجديدة، كما بدأت بالفعل في كتابة مشروع روائي جديد، فضلا عن قرب الانتهاء من كتاب نقدي عن فلسفة السرد عند جورج باتاي.
موقع (كُتب وكتّاب) ـ 4 مارس 2018