الأحد، 25 مارس 2018

قصص طفولية تمنح السعادة


انتهى من كتابة التعليق ثم أغلق الموقع قبل أن يطفئ اللابتوب .. هناك شيء غريب .. شعور لم يعهده من قبل .. انتبه إلى أنه كتب هذا التعليق بآلية تامة .. لم يكن يتملكه هذا المزيج الجارف والمعتاد من الألم والغضب والحسرة .. (إعدام في ميدان عام) .. لكنه ينتبه أيضًا إلى أنه يخدع نفسه الآن بطريقة ما .. هذا الإحساس ليس مفاجئًا كما يحاول أن يصوّر لنفسه .. منذ فترة وهو يشعر بانسحاب تدريجي للانفعال الذي كان يسيطر عليه دومًا أثناء التدوين اليومي للتعقيبات في جميع المواقع الإلكترونية التي يتصفحها تحت أخبار جرائم القتل واغتصاب الأطفال .. بدأ هذا الانسحاب بشكل لا يكاد ملحوظًا ثم أصبح من غير الممكن تجاهله .. وصل اليوم إلى ما يشبه الحد الأخير .. لم يكن يعتبر نفسه مجرد شخص عادي، يستمتع بالجلوس أمام الإنترنت ساعات طويلة متجولاً بين المواقع الصحفية كي يكتب التعليقات المعبّرة عن شعوره بالفجيعة تجاه وحشية البشر، المقترنة بالدعوة للقصاص العاجل والمعلن من المجرمين، والتي يختمها باستفهامات صادقة، تفيض بالخوف واليأس عما أصاب الناس في هذا الزمان .. نعم، كان الأمر هكذا في البداية، ولكنه مع مرور الوقت لم يعد كذلك .. أصبحت كتابة التعليقات هوية حقيقية له .. تعريفًا أصليًا لذاته، لم يُطلع عليه أحد .. تحوّلت فكرته عن السطور التي يدوّنها كل يوم مطالبًا بالثأر من القتلة ومغتصبي الأطفال من مجرد تعقيب إلى نوع من المشاركة في القصاص .. مساعدة في تحقيق عدالة لا تتحقق غالبًا دون نقصان .. كان يؤمن أنه بواسطة التعليقات الغزيرة ذات الصيغة الموحدة تقريبًا التي يبصم بها على كل جريمة يمر عليها يساهم في سد الثغرة الدائمة للانتقام من أجل أرواح الضحايا .. كان قد تمكن كذلك من حماية هذا الإيمان بأن عيّن اختلافًا أساسيًا بينه وبين الآخرين كافة الذين يكتبون تعليقات مماثلة .. كان هذا الفرق محددًا في المثابرة .. التفاني الذي لا يتعطل .. عدم التهاون والإخلاص المثالي في كتابة التعقيبات مع كل خبر يصادفه لهذا النوع من الجرائم، وهي الميزة التي يدرك أنها لا تتوفر في غيره.
الآن يشعر بالضيق المشوب بالتوجس؛ فالمسؤلية التي كان يتحمّلها لم يكن يؤديها من باب القيام بواجب روتيني وإنما كعقيدة محصنة بالشغف .. لكن شعوره بالعفوية الباردة لحركة أصابعه فوق أزرار اللابتوب تزعجه بشكل غير محتمل .. بدا كأنما رأى في هذا الإحساس دليلا على بدء خسران المكانة التي اعتبر نفسه جديرًا بأن يحظى بها منذ زمن بعيد.
*******
تُلبس طفلتها ثوبًا جميلا .. تمشّط لها شعرها .. تبدأ في ارتداء ملابس أنيقة .. تضع مكياجًا كاملا.. تفكر في المكان التي ستأخذ طفلتها إليه اليوم .. كافيه .. صالة فندق .. حديقة عامة .. حسنًا .. ليكن حديقة عامة؛ فمع هذه الغيوم الداكنة الكثيفة، والهواء البارد، والمطر الذي يبدو وشيكًا لن يذهب إلى الحدائق المفتوحة إلا أولئك المختبئين في الوحدة .. الذين يريدون التمعن في الماضي على نحو منعزل، مستفيدين من التواطؤ الغامض للشتاء، ولهذا فسيكونون في أَمسّ الحاجة إلى غريبٍ غير متوقع .. تغلق باب الشقة .. تنزل السلالم ممسكة بيد طفلتها المشغولة بتأمل خاتمها الصغير في اليد الأخرى .. أصبحت لديها خبرة كبيرة في اختيار رفقائها .. لم تعد تواجه صعوبة في انتقاء الرجال المناسبين وفقًا لنظرات العيون، وانطباعات الملامح، والمظهر العام .. تستطيع الآن، وبمنتهى السهولة أن تحدد الشخص الملائم، وكيفية الاقتراب منه، وبدء حوار معه سيفضي في النهاية إلى غايتها الأثيرة التي لم تتغير.
*******
خرج إلى الشارع لأنه قرر التفكير بعيدًا تمامًا عن بيته في السبب المبهم الذي جعله يكتب (إعدام في ميدان عام) بآلية تامة .. دخلت هي وطفلتها الحديقة .. يعرف أنه منذ ثلاثين سنة لم يدخل هناك حيث كان يلعب مع أصدقائه حول الشجرة الكبيرة التي لا تزال ثابتة في المنتصف .. تجلس المرأة والطفلة على أريكة بجوار الشجرة .. تبدأ بعض القطرات الخفيفة في التساقط من السماء؛ فيقرر الدخول إلى الحديقة لاستقبال المطر هناك .. تبدأ الطفلة في الجري والتقافز حول أمها التي تدعمها بابتسامة لامعة .. يجلس على الأريكة الثانية بجوار الشجرة .. تنظر إليه .. يراقب الطفلة وقد بدأت تلاحق بكفيها القطرات الخفيفة المتساقطة من السماء .. ليس هناك في الحديقة سوى ثلاثتهم .. سيخبر الرجل المرأة بعد قليل أنه حزين من أمر ما، أما هي فستخبره أن هذه الطفلة التي تلعب أمامهما بلا أب .. سيحكي لها أنه يعيش بمفرده في منزل يضيق لحظة بعد أخرى، وستحكي له عن الأسباب التي تجعلها غير راغبة في الزواج ثانية .. سيبنعث رنين هاتف كلا منهما في نفس اللحظة، وسيكتشفان أن كليهما قد خصص نغمة (كارمينا بورانا)، وسيجد كل منهما أيضًا حين يرد على هاتفه أن المتصل قد طلب رقمًا خاطئًا .. لكنهما لن يتوقفا على الإطلاق أمام هذا التطابق، وسيكملان حوارهما كأن شيئًا لم يحدث .. سيطلب منها الرجل أن تأتي معه إلى بيته، وستشترط عليه المرأة أن تحضر طفلتها، وأن يحكي لها قصصًا جميلة لم تسمعها من قبل تمنحها السعادة، حتى تغفو، وحينئد ستكون المرأة ملكًا له، وبلا مقابل أكثر من هذا .. سيقول الرجل لها أن لديه قصص طفولية كثيرة، ولكنه لا يعرف كيف يحكيها، فضلا عن أنه لم يعد متأكدًا هل هي جميلة وتمنح السعادة أم لا، وستطلب منه المرأة أن يحاول هذه الليلة فقط، لأنها لا تكرر لقاءها بأي رجل مرة أخري.
*******
ستصبح الحديقة خالية بعد لحظات، وستتحوّل القطرات الصغيرة المتساقطة من السماء إلى مطر غزير مع حلول الليل .. لا أحد يعرف .. هل سيطالب شخص ما في صباح اليوم التالي ـ ربما يكون المطر قد توقف حينئذ ـ عبر تعليق في موقع إلكتروني، بإعدام هذا الرجل الذي خرج برفقة المرأة والطفلة من الحديقة بالإعدام في ميدان عام؟.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 23 مارس 2018
photo by Fadi Toufiq