الاثنين، 5 مارس 2018

الحور العين تفصص البسلة: جدل الأساطير الأنثوية


إذا كان يمكن لقصص صفاء النجار في مجموعتها "الحور العين تفصص البسلة" الصادرة حديثًا عن دار روافد أن تبقينا في حالة اشتباك متواصل مع خبرات أساسية مثل الفقد والانتظار والكفاح من أجل الخلاص الذي يتجاوز الإنقاذ الفردي إلى أحلام التحرر الجماعي؛ فإن صفاء النجار لا تقدم هذه التجارب بوصفها همومًا اعتيادية سواء في انشغالاتها الذهنية أو آثارها الشعورية بل كأرق يمزج بين الحسي والميثولوجي، ويمثل ما يشبه صراعًا بين الجوهر الأنثوي الكامن داخل جسد مقهور يحاول تمثيله وتمريره نحو النجاة المرتبطة بكونيته ـ أي خارج مكانه وزمانه ـ وبين آليات الطمس أو المحو (الغريزية) التي يتعرّض لها هذا الجوهر بأشكال عدائية مختلفة .. تمنح صفاء النجار وجوه هذا الصراع الدور الرئيسي في تشكيل الوعي والجسد والعالم، كما تجعل هذه الممارسات هي الخالقة لطبيعة خلاصها، أو تعتبرها مصدر الخيال الذي يخطط مسرح إنقاذها لا كطريق ذاتي، بل كسبيل كلي، مطلق، لا يسقط من أحلامه أي حضور بشري، أو بتعبير آخر كافة المعذبين بالفقد الذين يموتون في انتظار تحررهم.
تتجلى هذه الأفكار في قصة "الأميبا" حيث تستخدم المرأة في هذه القصة ماء الغسيل لرد الاعتبار (التطهري بالنظر إلى الإحالة التقليدية للماء) إلى الجسد الذي يتم دهسه من جسد الزوج .. كأنها في يوم الغسيل هذا تعطي بنفسها إلى هذا الجسد الاحتفاء الجنسي اللائق به كما يتطلبه ويستحقه .. الماء الذي ينقّي جسدها من خطيئة الانسحاق تحت كرش ضخم، وهي بذلك الطقس الحسي كأنها ـ مثلما يفعل النحت ـ تزيل عن (حقيقتها الأنثوية) المتوارية داخل هذا الجسد بصمات العنف الذكوري التي تسجن انفلاتها كأسطورة مضادة ومخبوءة .. هنا يصبح الفقد حسيًا هو الآخر بأثر رجعي، وليس مجرد انطباع عن مشهد .. نستطيع أن نلمسه بأعصابنا، ونتوحد جسديًا بآلامه حينما نعيش الاندماج الناجم عنه مع المحاولات التطهيرية المحسوسة لجسد هذه المرأة .. كذلك الانتظار لن يصبح مجرد تعرّف على الجوهر العالق داخل جسدها فحسب بل سيكون انتظارنا نحن .. الشبق الذي يخصنا بينما نسعى للتناغم مع هذا الأداء الشهواني .. هكذا يتم تعيين واكتشاف علاقة أجسادنا ـ التي لا تريد أن تكون مجرد أشياء متطابقة ذات ملامح وتفاصيل مُغيّبة ـ بما هو كلي .. بالتخيلات التي تريد أن تنجو ـ كعادة سرية ـ خارج البداهة المطلقة للطمس، والمشيدة على أحكام وأسس من التراكمات المعرفية والقيمية والعقابية المتكاثرة، والتي يجدر الإشارة إلى أن صفاء النجار تعتمد في بعض الأحيان على تكوين ما يمكن تسميته بالمعادل الشكلي لهذا التكاثر للقمع ـ بهيمنته العشوائية ـ كأنها ترسم خريطة انتهاكية له عبر حركة السرد باتجاهاتها الموزعة ودورانها، والتنقل الذي لا يتبع نظامًا بين الفقرات، والتداخل والانفصال بين الوحدات الحكائية داخل القصة .. يتم تحديد وتبيّن علاقة أجسادنا بالصلات التي تربط بين كل فرد وآخر؛ كأن ثمة أسطورة مغايرة ومشتركة تخاطب أصلا لها في بُعد ما خارج هذا الصراع، وبالتالي لا تتوقف عن المجاهدة في تشكيل تصوراتها عن هذه الغاية.
(في مساءاتها كانت تنسحق تحت كرشه الضخم وتنبعج تحته كقطعة عجين تتمدد أطرافها تحت ضغط أصابع فران لا يحب صنعته، فاستوعبت أخيرًا أنه لم يكن هناك فائدة من تسابقها مع زميلتها أيتهما ترسم الشكل الصحيح للأميبا).
تتخذ المواجهة بين الذات الأنثوية والقمع اتجاهًا آخر في قصة "في انتظار ما قد أتى!" حيث القهر الديني بكل انتهازيته ووحشيته وهزليته في نفس الوقت، الذي يستطيع من خلال بقعة الدم في الجلباب الأبيض أن يبدو كالطفل المخصي الساذج الذي تتم إعادة ولادته باستمرار، وهو ما يضمن الطزاجة المتواصلة لطغيانه .. القهر لهوية المرأة التي يمكن أن تتمثل في استشراف الموت عبر العيون، أو من خلال غيمة تظلل الجميع مركزها سيدة عجوز يريدونها مثل الجميع أن تكون ضمن قطيع ممتثل للأوامر والنواهي تحت سلطة (السمع والطاعة)، أو من خلال الريش الذي ينبت على الجسد الذي يسعى للتحليق خارج الفقد، أو الانعتاق المتجسّد في إدراك المصير الأسود لكل أولئك الذين لم يستطيعوا الهرب.
(كان الرجل يتحرك كما في عروض "البانتومايم"، لكنه أشبه ما يكون بيونس شلبي في "العيال كبرت"، لم تكن هيئته مصدر دهشتي فلا يليق برجل مثله أن يظهر هكذا بعد طول انتظار إنما الأصعب كانت البقعة التي تبلل ملابسه من الأمام).
لكن الأسطورة الأنثوية لا تتسم بالوضوح والتحديد فهي أشبه بطفلة تعيش داخل الجسد المقهور، وتضيع ملامحها في ظلام الذاكرة مع مرور الزمن، ولا يصبح هناك أي إدراك لها إلا من خلال صوت نحيبها كما في قصة "الأيام التي لا تطيب"، كما أن المرأة في القصة لا تستطيع أن تعرف ما الذي حدث أو ما هي الأسباب التي جعلتها تفقد وعيها بهذه الطفلة لذا هي في حالة محاكمة واستكشاف متواصلين للماضي .. هذه الذاكرة ـ حينما تكون كذلك ـ لا تخص امرأة وحيدة فحسب؛ بل كأن هذه الطفلة هي الصوت البشري لجميع لمسافرين بآلامهم نحو الموت .. هناك توظيف للأنثى المقدسة عند صفاء النجار حيث يمكننا الحدس بهذا التقارب بين شخصياتها الأنثوية والعذراء مثلا عن طريق استعمال التفاصيل المشابهة التي تتقمص سيرتها .. لنقارن الكافورة العتيقة في بداية القصة بنخلة السيدة مريم، والفروع الحية المتساقطة بالرطب .. هذه الطفلة ـ مثل العذراء ـ تستطيع أن تلخص كل ما فقدته المرأة، وكل ما لا تعرفه أو لا تفهمه، وكل ما تتألم أو تخاف بسببه في العطاء إلى المحتاجين الذين يماثلونها .. كأن هذا العطاء هو آخر ما تتمسك به أو آخر ما تبقى من أدلة أو إشارات ربما تقودها نحو (التحليق) المنتظر.
(تقف السيدة حائرة، هل تلحق بالرجل، هل تسأله تفسير حلمها؟، لكنها مازالت نائمة، لا تمتلك إرادة حركتها، هي فقط تتحرك وفق صانع أحلامها، تستسلم السيدة لتيهها، تسند ظهرها لجذع نخلة).
هو ذاته التحليق الذي حاولت (نجاة) أن تقوم به في قصة "العطية" بعد أن فارقت الغجرية (سهاد) وزوجها (حسونة) الشريكين في التنقل من مولد لآخر .. في هذه القصة سنجد تحوّلا مفاجئًا وملهمًا عند صفاء النجار من ضمير الغائب إلى المزج بين ضميري المتكلم والمخاطب في مونولوج داخلي حينما بدأت في سرد خطوات (نجاة) بعد رحيلها عن الغجرية وزوجها .. كأنما أرادت صفاء النجار أن تصف نفسها، وأن تحرّض كل أنثى على أن تنطق بما قامت به (نجاة) بوصفه فعلها الخاص، أي أن تستكشف الريش الذي يغطي جسدها، وأن تبحث عن فرصة (التحليق) .. بوسعنا النظر إلى حركة (نجاة) مع الإيقاع في حلقات المنشدين كأنها صورة أخرى للطقس الشهواني التطهري باستعمال (ماء الغسيل) في قصة (الأميبا) .. مرة أخرى سنجد توظيف (السيدة الطاهرة) أم الفقراء والمحتاجين التي كان ضوؤها يتراءى لنجاة، ويجذبها إليه .. تخوض نجاة ما يشبه (الرحلة المقدسة) من كنيسة في المنصورة إلى دير العدرا بجبل الطير حتى (تصعد) مع من رأته أمامها (يمشي على النهر).
(دقات أجراس الكنائس تتردد في أذني، تدق على أبوابي المجهولة، يتردد صداها في أغواري، لا أدري عمق مياهي، لكنها هناك هناك بعيدة لا أستطيع لمس سطحها، لكن الدقات المتواصلة الرتيبة العنيدة تخترق السطح الأملس وتنقش عليه دوامات تتسع وتتسع وتبث ارتعاشاتها في الروح).
في قصة (اكتشاف) نتتبع زوجة المشلول، وصاحبة كشك السجائر الواقع أمام مكتب المخرج الذي حاولت منذ زمن بعيد أن تكون واحدة من اللاتي يظهرهن على الشاشة، ليس كنجمة بل كأختها أو صاحبتها أو خادمتها لكنها لم تنجح، ثم بعد سنوات طويلة وبعد أن تكبر ابنتها الجميلة وتحلم وتخطط لها بأن تكون هي (الوجه الجديد) الذي يختاره المخرج بدلا منها سيطلب المخرج منها أن ترسل هذه الابنة للعمل لديه كمديرة منزل وسكرتيرة .. هذا يقودنا إلى تأمل فكرة ديمومة القهر الأنثوي،  كأنه شيء أشبه بالإلحاح العفوي للزمن الذي يُبقي تاريخ امرأة كصاحبة كشك السجائر داخل عتمة لا يتم اكتشافها .. في هذه اللحظات ربما يصير الدافع أكثر قوة للتفكير في أن النساء جديرات بأن يكن (الحور العين) دون احتياج لتبرير أكثر من صور المعاناة المتعددة لحيواتهن، والتي لم تختبرها نساء الجنة اللاتي يتم تمجيدهن في المتون المقدسة.
(كان عليها أن تبتلع غصتها وابنتها ترتدي الإيشارب، يتسرب من بين يديها كل ما تمنته، في البداية أقلقها الأمر وقالت عيلة وستمل الذهاب إلى المسجد بعد أسبوع شهر، شهرين...).
أفكر في التنويعات الرمزية للغة صفاء النجار داخل هذه المجموعة بوصفها حيلة فيها من التعويض ورد الاعتبار وترويض الألم، وتربط بين نقاط متباعدة داخل القصص، بقعة الدم مثلا التي تبلل الجلباب الأبيض للرجل الذي يشبه يونس شلبي في قصة "في انتظار ما قد أتى!" تبدو كأنها هي بقعة الدم على السرير الناجمة عن التهام الحزن والوحدة للمرأة في قصة (نبوءة) وقد ردتها صفاء النجار إلى هذه النسخة الذكورية المشابهة  للرجل الذي يفكر في القصة التي سيكتبها لمجلة (الثقافة الجديدة) بعد غياب المرأة .. هو شكل من المجاز المتعدد الذي ينتشر بغرض نسج ملامح لما يبدو أنها الاستفهامات التي ينبغي مواجهتها عند تشريح فكرة (الأسطورة) سواء في وضعيتها المضادة المخبؤة داخل الجسد الأنثوي، أو كرجاء طوباوي مبهم يمر عبر الوجود البشري ككل: هل لدينا استيعاب كامل بماهية الطمس؟ .. هل نمتلك معرفة حقيقية بمصادر المحو، وكيفيته، والغرض الفعلي الذي يعمل لتحقيقه؟ .. هل ندرك تمامًا طبيعة محاولاتنا للتحرر والهروب والانفلات، وما الذي تصير إليه أجسادنا معها، وما هو ذلك الذي تخاطبه وتتوجه إليه هذه المحاولات؟ .. هل نستطيع أن نفهم الكائن أو (الجوهر) الذي يعيش داخل ذكرياتنا وأحلامنا ورغباتنا أصلا، ويُستهدف بالتضييع طوال الوقت؟ .. الاستفهامات التي ترتطم بالجدران الغيبية ثم تعود فورًا إلى أرواحنا كأنها لم تغادرها مطلقًا.
جريدة (أخبار الأدب) ـ 4 مارس 2018