الاثنين، 13 يناير 2025

الوقت فقط

عرفت بعد موتك أنك لم تدخل شقتك التي كان ينبغي أن تتزوج فيها .. اصطحبك والداك إلى البناية ولكن لم يكن بمقدورك صعود السلم الطويل المؤدي إليها مهما توفرت الأيدي التي ستحاول مساعدتك .. ربما لم يكن بوسع كرامتك أيضًا تحمّل أن تصعد مشلولًا لمعاينة “عش زواجك” الذي أصبح أكثر ارتفاعًا مما يبدو في الواقع .. ظللت جالسًا في الأسفل بينما صعد والداك لتفقد الشقة قبل أن يعودا إليك بأوصافها التي لن تراها مجسّدة أبدًا .. كأنها لم تكن مخصصة إلا لخلوة عابرة بين أبيك وأمك وكان بوسع دماغك الفاجر أن يتخيل أكثر السيناريوهات بذاءة لها وأنت جالس وحدك أسفل العمارة في انتظارهما، وبكل ما يملأ مرضك من غل متهكم وحسرة ذاهلة ورغبة جحيمية في انتقام لا يستثني أحدًا .. كأنها نبؤة لما حدث بعد تلك اللحظة بوقت قصير: زوجتك التي لم تدخل بها تمتنع عن الخروج من حجرتها لاستقبالك حين تزورها بينما تخبرك أمها بأن كل شيء نصيب لتعود باكيًا إلى البيت وأنت تحمل علبة “شبكة” لم تتزين بها الناجية من ورطة مرضك إلا شهورًا قليلة قبل أن تتفاقم أعراض علتك وترقد تمامًا ثم تباع الشقة التي لم تمتلكها إلا بتوقيعك المرتجف على عقدها المؤقت .. ربما تخيلت أيضًا وأنت جالس أسفل البناية انتظارًا لوالديك كل ما بقي حلمًا وحسب: شفاء من المرض .. حفل زفاف .. شهر عسل .. أطفال .. حياة أسرية سعيدة .. عمر طويل .. طمأنينة عند الموت .. كل ما تحوّل في الواقع إلى فراش من البول والخراء وأعقاب السجائر وصوت إذاعة القرٱن الكريم من راديو ترانزستور صغير بجوار مصحف ومسبحة وصرخات متواصلة تتدافع من وراء باب مغلق لتدوي في أرجاء البيت، وسباب بالجنس والملة يستهدف الجميع ويجتاح فضاء الشارع أسفل شباك حجرة الصالون التي أصبحت مغارة لشيطانك المحتضر، المأسور في ظلامها المقبض .. ما الفرق بين حلمك وما صار إليه في الواقع؟ .. إنه الوقت فقط .. مساحة الزمن لا أكثر .. هذا شيء آخر لم أعرفه إلا بعد موتك.

اللوحة:  André Derain

جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.