الاثنين، 13 يناير 2025

أهم إصدارات 2024: جويس منصور فى كتابين لمحسن البلاسى

صورة موضوعية


ممدوح رزق

من بين إصدارات 2024 يتخذ كتابان للشاعر والتشكيلى والمترجم محسن البلاسى أهمية خاصة؛ ذلك لأنهما يتناولان الأيقونة السيريالية المصرية الفرنسية جويس منصور بجهد متفرد وكثافة جمالية مميزة، الكتاب الأول «قصص مؤذية» ويضم جميع الأعمال النثرية لجويس منصور، أما الكتاب الثانى «جويس منصور... طفلة مسك الروم» فهو عن حياة الكاتبة والمفكرة السيريالية التى ولدت عام 1928 فى بودين بإنجلترا ورحلت عام 1986 فى باريس.

قصص مؤذية
يضم الكتاب خمسة كتب: الراقدون الراضون، يوليوس قيصر، زرقة الصناديق (مسرحية)، الذى / التى، وقصص مؤذية. بالإضافة إلى دراسة مطولة للمترجم، وكذلك مقدمة كتبها الشاعر الفرنسى بيير باتيو.

إن قراءة الأعمال النثرية لجويس منصور أشبه بالإفاقة المضادة، انتباه يناقض الإدراك المروّض بالتطهر والرجاء، أشبه بالتسلل المرتعش جذلًا ورهبة عبر الصدوع والأغوار المتوعدة لمخطوطات سحر قديمة، أكثر بدائية من الحياة والموت، أى حيث اللغة لا تزال كامنة فى خامها الغيبي؛ لا يقين يحصنك من اللعنة، ولا معرفة تصد عنك الانتشاء بالموت.

جويس منصور على هذا النحو تجعلك تعيش حقًا؛ حين تفكك الحياة ذاتها فى بصيرتك الكابية؛ فتعثر على النقاء الوحشى لمذاقها المكبوت، تستيقظ من الغياب المحكوم بالوعى، لتسترد العدم الذى تحجبه الذاكرة، تتحوّل من فريسة للرموز والعلامات إلى مُطارِد لمتاهاتها المحترقة.

ذلك لأن نثر جويس منصور يفجر الهلع المترصد الذى يعبر بالنفس خارج التظاهر القيمى بالانسجام، نحو أسطوريتها المعادية للتمثل. شبحيتها المنتهكة للخلاص، تستعيد الذات كإعادة خلق تقويضية إبهامها الأزلى، كطيف متناثر مجرد من الوصايا حيث تبدّل الكوابيس مساراتها من الاختباء فى «اليقظة» إلى التوغل عبر الأشلاء الجسدية وأنقاض العالم باتجاه الصمت الذى تتبدد عنده الاحتمالات الكاذبة للنجاة.
 
«سقطت ورقة ميتة على فمى، وها هى رطوبته البرِّيَّة تستيقظ. أبحث عن نفسى لمدَّة دقيقة كاملة بين الحلقات المطَّاطية التى تحيط بالذاكرة: إنها تهرب. استيقظ بسرعة، كتاب يقع. عالم الصحراء. غادرت شارع Aubépines فى عجلة من أمرى، لأجد القِلادة التى تربطنا (ولكنْ، مَنْ يحمل السلسلة؟) أنا أتقدَّم، أسير على طول الحاجز، وأشير إلى علامات المرور الملوَّنة بلون النيون الأزرق المحبَّب لى هناك فى الجزء الخلفى من المستشفى، ووجود كلب أسود بجانبى يجيب عن الاسم شبه المَنسِيّ «يوتيك»، وأنواع أخرى جديدة.

حجاب من الغَيْرة فى أوج السُّرَّة. أسقط من أعلى الحاجز. سمعتُ أنه إذا قام الثعبان بتنظيف أُذُنَيْكَ فى أثناء النوم بعمق، فعند الاستيقاظ ستجد لسان الطيور قد أصبح واضحاً. إذا كان النوم هو السقوط، فما هى اليقظة؟».



جويس منصور... طفلة مسك الروم
«على مدار أكثر من ثلاثين عامًا تم تقديم جويس منصور للشرق الأوسط فقط كشاعرة إيروتيك، وتم تقييدها فى ذلك الإطار عبر حركة نقدية رجعية، وتم تجاهلها تمامًا كقاصة وفنانة بل وناقدة ومفكرة سيريالية، شاركت بشكل جذرى ومركزى فى صياغة وتشكيل الحركة السيريالية منذ خمسينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي.

خطاب جويس منصور الشعرى والسردى عالمى وهو صوت امرأة واعية بقوة اللغة كوسيلة مقاومة للعبودية الجسدية بشتى أشكالها الاجتماعية».

حياة جويس منصور هى سيرة الارتباك والغموض والمجازفات القلقة، استغراق فى سفر متأرجح من التنقيبات الاندفاعية نحو تقمص الألغاز والتشتت بوصفه سبيلًا خلًاقًا للوجود المغامر، للبصمة الفريدة بكل ما تنطوى عليه وتثيره من مراوغة.

 «وهكذا ندرك عند قراءة أعمال چويس منصور، التأثيرات التى ربما تكون قد تعرضت لها فى صالون مارى كافاديا، “علوم السحر كانت مألوفة لمفردات چويس منصور الشعرية، كما تتضفر مفرداتها مع عنفها الإيروتيكى حيث خط الدم والعرق والدموع ينسجم مع موضوعات الحب والموت”، وبفضل ترددها الدائم على هذا الصالون ولقائها بچورج حنين، وسفرها المتواصل إلى فرنسا قبل رحيلها النهائى إلى باريس عام 1956، حتى لو لم تكن تعرف أندريه بريتون بعد ولم تكن جزءًا من الحركة الباريسية.

أو عضوة رسمية فى الحركة السوريالية المصرية، شعرت چويس منصور بألفة مع السوريالية بعدما عرَّفها حنين على البيان الأول للسوريالية.

مثل العديد من المثقفين الناطقين بالفرنسية فى مصر، كانت چويس أيضًا مواكبة للحركات الأوروبية الطليعية الأخرى، بما فى ذلك السوريالية الباريسية، لكنها لم تعتبر نفسها شاعرة سوريالية بشكل مباشر».

صدر الكتاب عن دار صفصافة كاقتفاء أثر حاذق عبر أوراق جويس منصور بحثًا فى حياتها ومراسلاتها وعلاقاتها ومؤلفاتها ومسارات حركتها، أى فى ذلك التحريض المتعدد فائق الحساسية والعنف لارتحالها الذى يمزج بين الأسى والفوضى والدهشة فى استشرافات مغوية. حكايات مسكونة بالمخاطرة، تخاتل الزمن وتحفر شعريتها الخاصة فى أفق غائم مجابهًا الاحتيال الأبوى. 

«لم تكن چويس منصور ذلك النموذج للفتاة الأرستقراطية الغنية، عاشت فى القاهرة مراهقة صغيرة ثم زوجة وشاعرة شابة، بعد ذلك لم تكن مدللة من السورياليين فقط لإعجاب أندريه بريتون بها، لكنها قبل كل ذلك أحدثت ثورة إيروتيكية وفلسفية وشعرية وسوريالية لها ملامحها الخاصة وطريقها الخاص، منذ فترة مراهقتها المبكرة التى عاشتها فى مصر حيث عانت من تمزقات وجودية واجتماعية أرقت راحتها كسليلة لعائلة غنية ومستقرة».

دائمًا كنت أفكر فى أن جويس منصور شخصية روائية بكل ما تشمله حياتها وكتاباتها من ثراء انعزالى، وتحولات معاندة، واستراقات غاضبة أشبه بالاجتياح الثورى من أسر الاعتياد والتدجين والمسايرة دون تنكر فى رداء نضالى منسوج من عمومية مبتذلة.

أتصوّر بشكل شخصى جدًا أن كل رواية تتضمن صوتًا أنثويًا فإنها بطريقة ما تبحث عن جسد جويس منصور، عن روحها وكلماتها وعفويتها الحسية الماجنة، تبحث عن ذلك الطيش التدميرى بالغ الرقة والشراسة معًا، الذى يحلق فى السماء بقدر ما ينبش فى القبور.

«أرادت چويس باستمرار تكثيف اللغز الذى يحيط بها، فمزجت الحديث عن حياتها الأولى فى مصر بسير ذاتية كاذبة كثيرًا ما كانت تتحدث بها بفكاهة شعرية، كانت تحب أن تبث الارتباك مع الفكاهة، لتصنع أسطورتها الخاصة التى انتهت بأسطورة الشابة غريبة الأطوار، وكانت دائما تتحدث عن قرينة لها سترسلها لمن يريدون مقابلتها! مجدت الموت والصدمة الجسدية بتمزقاتها الوجودية التى تشعبت لثورة شعرية منذ رحلت والدتها وهى فى الخامسة عشرة من عمرها».

هذا العصيان هو فن جويس منصور، المسكوت عنه فى الصوت العابر المختنق بقهر أزلى، متفاخر بأبديته المحتومة. موسيقى الجموح التى تتلاعب بالخرس المُكره تحت سطوة المحظور، تلهو باليأس الصدئ الذى يكمم الجنون.

ذلك العصيان يحوّل الحياة إلى لعبة إيروسية تتحطم ويُعاد تكوينها بالشغف الماكر نفسه الذى تُرتكب به الجرائم فى أحلام الأطفال، لعبة تتفكك ويُعاد تركيبها بالحدة والخبث اللازمين للسخرية من الفناء، فن جويس منصور الذى يقتل الأمل فى الصباحات المشمسة الواعدة بالأوهام، ليبقيه حيًا فى الدماء الفاتنة المتدفقة عبر ليل الكتابة الحالك.

«نحن الذين ننتظر قفزتك الأخيرة 
لتمزيق إرادتك.
امرأة تقف فى منظر طبيعى خال من العيوب
الضوء القاسى على بطنها المنتفخ
امرأة غنية وحيدة بدون رذيلة أو صدر
امرأة تصرخ بازدرائها فى أحلام مضطربة
سيكون السرير جحيمها».

إنه خيال الزهرة النادرة أو رائحة هذيانها التى ترتكب البطش السيريالى كما لو أنه ليس إلهامًا فنيًا فحسب وإنما قرار شيطانى مقموع للحياة نفسها مثلما وصف أندريه بريتون «صرخات» جويس منصور فى رسالته إليها عام 1954:

«لقد تأثرت بهذه الكلمات، بكتاباتك التى منحتنى النعمة لمرافقتها. أنا أعشق الشيطان فقط وأنت تعيدينه للحياة».

الإثنين، 06 يناير 2025 - 04:25 م