الأربعاء، 13 نوفمبر 2024

ليلة رائعة لقطار: تنويعات السقوط

ثمة رؤية نقدية تقارب مفهوم "العتبة" في القصة القصيرة بتمثله الواقعي أو المجازي أو الخيالي وفقًا للتفسير التقليدي من حيث كونها علامة للمرور، التخطي، الانتقال بين المدركات. لكن تفكيك مفهوم "العتبة" يتطلب استبصارًا مضادًا لتلك الرؤية، أي ما يكشف عن كونها لعبة تأملية في أشكال "الاستعمال" المراوغة التي تفترض حضورًا لمدركات حقيقية يتم العبور بينها، ويمكن نتيجة الإقرار بها الفصل بين الواقعي والمجازي والخيالي. هذا التقويض لمفهوم "العتبة" يحوّل القصة القصيرة إلى قرينة فاضحة لأوجه "السراب" التي يتوهم لكل منها وجود فعلي، أي قابليته لأن يكون شيئًا متعديًا لذاته، مخلّصًا لكل ما هو عالق بغموضه، مثلما يتوهم التحرك أو المراوحة بينه وبين خداع آخر. ثمة خلخلة تجرد "العتبة" من الثبات، فلا تصبح موضع اجتياز أو انتظار، وإنما احتجازًا غائمًا ومدوّخًا، بأصالة تطغى على حدوده المتصوّرة، كأنه الوعي بالسقوظ الأزلي في الدوامات المعتمة، عبر لحظة جرى استبدال مسارها من اليقظة الزائفة إلى العمى المتجذر. لحظة "قصصية" أيقنت تحجرها خارج "مكانها"، وقد حررها التحديق إلى غيابها من خضوعها الزمني كـ "ظاهرة" مؤقتة.

"أراه وحشاً يسد علي الشارع بكتفيه العريضتين. كان غريبًا أن يحمل الوحش ملامح جارنا مختلطة بملامح أبي، يتضخم جسده، حتى يغلق أي ثقب محتمل للهرب، تتسع عيناه وهو يوجه أشعتهما نحوي، يتحرك بتؤدة وثقل مسموع في اتجاهي، وأنا لا أعثر على مكان للهرب، ولا أستطيع العودة للخلف، نحو منزلي. أتضاءل ويتضخم، يتضخم وأتضاءل، ثم يضربني النوم فجأة".

في قصة "المتلصص" على سبيل المثال من مجموعة "ليلة رائعة لقطار" لأحمد ثروت، والصادرة عن دار الثقافة الجديدة، نجد العتبة / الخوف بين حياة الولد صاحب الأربعة عشر عامًا، والحياة الأخرى التي تمثل نجاته من الأربعيني المتلصص على جسده. تتخذ العتبة هنا شكلًا واقعيًا (سطح المنزل) الذي سيمر عبره من ماضيه كهدف شهواني إلى مستقبل متطهر من جاره المتربص أو "الثعبان الجائع" الذي يطارده. تتخذ العتبة أيضًا شكلًا مجازيًا؛ حيث تخطي عالم الولد المحكوم بالعجز الشخصي، والخاضع للقهر الأبوي بصوره المتعددة نحو عالم منفلت من سطوة القمع، تشيّده الإرادة الذاتية، ومحصّن من الرهبة والانكسار أمام الآخرين. أما الشكل الخيالي لهذه العتبة فهو التصوّرات الضبابية والمتغيّرة، غير المنضبطة للتحرر من كل ما يوجبه الواقع ويرسّخه الخوف؛ أي بما يتجاوز الامتزاج والتوحد بين الأربعيني المتلصص والأب. الخلاص من سلطة المطلق التي لا يمثل الأربعيني / الأب إلا نموذجًا بشريًا لها.

"أنا لا أقوى على مواجهته، ولا أجد مفراً للهرب منه، فصوّر لي عقلي أفكاراً كثيرة، كلها تؤدي غرضاً واحداً، الموت؛ موته أو موتي. لو مات هذا الرجل سيطمئن قلبي، ولو انتهيت من الوجود ستهدأ روحي. فلا طعم للقمة أذوقها بين أسرتي، ولا إحساس بسكينة أجده بين أصدقائي، لا أشعر بالبهجة ولا أحلم بمستقبل باهر ينتظرني. فقط الخوف. الرهبة هي ما تحاصر عقلي مع كل فكرة أو حركة".

لكن الخوف / العتبة لا يتحدد إلا بناءً على ما يتسم به الطرفان على جانبيه من مخاتلة ـ لكونهما وجهين للسراب ـ وهذا ما يجعل الخوف غير قابل للتحديد. فالولد في قصة "المتلصص" لا يكافح للانتقال جسديًا أو ذهنيًا أو خياليًا من مدرك لآخر، وإنما يحدس ضمنيًا بالإبهام الذي يكوّن ما يعتبره "ماضيًا حقيقيًا"، والذي يشكّل بالضرورة ما يفترضه "مستقبلًا ممكنًا"، وهذا الحدس ليس إلا إفاقة مضمرًة على أن الولد محض أداة وظيفية ملغزة في "قرار الوجود". مجرد حيلة أو حجة تتميز بالصفة الإنسانية، وتُستخدم في طبيعة الادعاء "الكونية" الشاملة، لإحكام التظاهر بأن ثمة مرورًا فعليًا من يقين إلى آخر، تحولًا من حالة إلى أخرى، بينما "لا شيء يتعدّى ذاته" أي يمتلك سلطة غيبية حاسمة، بما يُبقي شذرات العالم عالقة في غموضها. بما يُبقي كل فعل / تغيير محض توطيد مخادع لثبات عدمي من الأوهام التي تستعمل الولد أو بالأحرى تستعمل اعتقاده بكونه يجتاز عتبة الخوف أو ينتظر مرغمًا عندها.

"الصراخ الصادر من المنزل، أيقظ كل الكائنات الحية في الشارع، فاندفع الجميع فضولًا نحو البوابة المفتوحة، يتتبعون الصراخ الصادر من الأعلى، صاعدين الدرجات في هرولة وبريق أعين تبحث عن الكارثة. كان الجسد الصغير  مكوّماً على بسطة الدرج الأخيرة، تنبعث من عينيه نظرة ذهول ممتدة للأعلى بينما تقبض الكف الضئيلة على سكين ضخم ينز سائلًا أحمر لا يخص الفتى".

التلازم في نهاية القصة بين القتل (لو مات هذا الرجل سيطمئن قلبي)، والتخلص من النفس (لو انتهيت أنا من الوجود ستهدأ روحي) ينفي وجود العتبة، أو ما تم تصديق كونها عتبة، لصالح الاحتجاز "الغائم والمدوّخ" أو تفكيك مفهوم العتبة كلعبة تأملية. الرجل (رمزيًا وخياليًا) يستحوذ على روح الولد كمطلق "متلصص"، لن يستدرك قتله أو يمحو "سقوط الولد في الدوامات المعتمة". نظرة الذهول الممتدة لأعلى تقدم نفسها بديلًا عن الخطو الزائف من وجود معيّن إلى ما يتوهم أنه نقيضه مدخرًا احتمالاته المنقذة "طبيعة الادعاء الكونية الشاملة". الذهول هو الوعي باحتجاب المعرفة. لم يعد الولد جاهلًا، لأنه أدرك حينئذ بأنه لم يكن يرى حقًا. لم يفهم الجوهر التنكيلي غير المؤطر للخوف. أدرك أنه لا يمتلك بصرًا على الإطلاق. يصير العمى هو بنية القصة بعد تجريد "زاوية النظر" من "سرابيتها". تضع القصة بهذه الكيفية حدًا للإيمان بالحاجز الكاذب بين التماثلات المتنكرة في الاختلاف.

"عرضت عليه أن نذهب للدرس ونعود سوياً، لكنه كان خائفاً جداً من فكرة تحركه، فأصررت على إقناعه أننا سنذهب للدرس ثم نعود سريعاً، دون أن نحضر الحصة ـ فقط سنذهب ونعود ـ أخذت أقنعه أن يجرب شيئاً جديداً سريعاً، غير وقفته المملة هذه. تحرك "عمرو" بخطوات مترددة، لكنني جذبت يده، وأنا أحثه على الإسراع، حتى نعود قبل رجوع أخيه من العمل. لم أفكر فيما سيحدث بعد ذلك، فكل ما اهتممت به، أن يرافقني أحد في هذه الرحلة المزعجة".

تتكرر العتبة / الخوف في قصة "عمرو"؛ فصديق الراوي يبدو أنه يتخطى ـ مضطرًا ـ مكان وقوفه الدائم أمام بوابة بيته بتحريض من الراوي، وكأن الراوي لا يحتاج لرفيق حقًا في رحلته الشاقة إلى الدرس بقدر ما يريد أن يمارس فعلًا تحرريًا ولو من خلال طفل آخر طالما أنه لا يقوى على أن يمارس ذلك الفعل لنفسه. لكن هذا العبور للعتبة المكانية والنفسية سيتحوّل إلى مجرد إمعان في دفن وهم التحرر داخل المقبرة الزمنية؛ فالعقاب الجسدي ليس إلا مظهرًا شكليًا لطغيان "العقاب" في مشيئته الأكثر لؤمًا من "قرص الأذن" أو "تكسير العظام". العقاب قرار استباقي، لا يفصح عن كامل حتميته إلا في اللحظات "المستقبلية" أو "بعد أربعين سنة من التحولات" التي ربما يبدو خلالها الشعور بـ "الحرية" أمرًا بديهيًا. حينما يحاول ذلك الذي توهم اجتيازه عتبة الخوف أن يحوّل شعوره بـ "الحرية" إلى كلمات وسلوك. حينئذ تتجلى هذه "الحرية" عسيرة بما يفوق أي توقع. أكثر تلغيزًا من إشاراتها ووعودها "الطفولية" البسيطة التي تحتل غوايتها الروح المحاصرة بشكل مباشر فتظن أن المرور إلى "الخارج" هو "خطو فعلي" إلى أن يتم الانتباه أو التحديق في لانهائية الحصار وطبيعته الماكرة، المستقرة، كإرادة متعالية، لا يمكن تعطيلها.

"لعنة الطبقة الوسطى. منها وُلدت لعنتي الخاصة، لعنتي المركّبة. نَمَت وسط جيل اُعتصر بين جيلين، يمثلان تضاداً في كل أشكال الحياة، الأفكار، الأحداث، الواقع والخيال. لم يستطع جيلنا المحايد، الانضمام للسابقين أو اللحاق بالقادمين، لم يقبل كل التقاليد والأساطير البالية، ولم يقو على اللحاق في ذات الوقت بكل هذا التطور المتسارع، التكنولوجيا التي لا تتوقف أو تهمد. حتى طفولتي كانت نصف طفولة، ليست مبهجة وليست قاسية. أنا شخص متوسط الذكاء، من جيل واقع في المنتصف بين حياتين، جئت وسط أسرة تنتمي لطبقة تجاهد السقوط، وتحبو نحو الارتفاع. كل شيء حولي في المنتصف، في الوسط. ليس الوسط المركزي المهيمن، الوسط الحاكم المدبر، لكنه وسط وسط مائع، ومنتصف راكد".

في قصة "ليلة رائعة لقطار" تتحدد العتبة في تلك المسافة التي سيقطعها القطار بين حياتين. بين الغربة والنجاة كما يُتصوّر. كأنهما يقينان، ليس كلاهما سرابًا عصيًا، يمتنع عن الحيازة. تتجاوز الغربة العوامل والتفاصيل التي يبدو أنها تعرّفها أو تكسبها هوية صلبة، وذلك ما يجعل "النجاة" بدورها غير قابلة للتجسد كحقيقة، كواقع آمن، غير زائل، لا يمكن انتهاكه. المسافة التي سيقطعها القطار هي هاجس "العتبات" جميعها، بما يعادل الاشتباك مع الأطراف المبهمة كافة التي يبدو أن ثمة ما يفصل بينها ويوحي باختلافها وتناقضها. الأطراف التي يتوهم الانتقال بينها حيث "الوسط" ليس إلا حاجزًا كاذبًا بين كوابيس متصلة لا بين حقائق متنافرة.

"للحظات بسيطة، استعدت كل حياتي، مرّت أمام عيني مترابطة مسلسلة، كانت لوحة أمي تصطدم بوجهي، تغلق عيني، بينما كانت زجاجات أبي تنهمر فوق رأسي، وأخي يصرخ بلا حدود. كنت متمسكاً بحقيبتي فوق كتفي، متمسكاً بجسدي. لم أفكر كثيراً، فقد فكرت كثيراً طوال حياتي، كل شيء أخذ أكثر من وقته بكثير، أخذ حياتي، تلك حياة لا يجب أن أدافع عنها، ليس لي حق في النجاة. اندفعت جارياً بكل قوة، ملقياً نفسي وسط المطر الملتهب".

يلقي الراوي في نهاية القصة نفسه وسط "المطر الملتهب" ما يذكرنا بنظرة ذهول الولد الممتدة لأعلى في نهاية قصة "المتلصص"، "كل فعل / تغيير هو محض توطيد لثبات عدمي من الأوهام". الأوهام التي تستعمل الرواي أو بالأحرى تستعمل اعتقاده بكونه يجتاز عتبة أو ينتظر مرغمًا عندها.  الحياة التي لا يجب أن يدافع عنها ليست ما يعجز عن القبض عليها وفقًا لما تأسست عليه وحسب، وإنما لأن "النجاة" ليست إلا امتدادًا خبيثًا لهذه الحياة. ليس هناك اختيار لأنه لا توجد خيارات. هناك بدائل مصطنعة تدعي الحياد بينما يكمن في طياتها التاريخ نفسه: "لوحة الأم، زجاجات الأب، صراخ الأخ". "المنتصف" إذن مكيدة لا باعتباره شركًا في حد ذاته، أو ورطة شخصية أو أسرية أو مجتمعية "أخذت أكثر من وقتها بكثير"،  ولكن لأن هذا "الوسط" يدعي كونه "ما بين" حقًا. لأنه يؤكد زيفًا بكونه يتموضع بين حقيقتين أو أكثر. لأنه يشوّش على كون "المتنقل" من نقطة لأخرى ليس "مستعملًا" في ترسيخ الأكاذيب والأوهام التي يتخيّل مروره بينها كحقائق. في الفصل بين الاحتمالات، كأن هذه الاحتمالات ليست إلا تنويعات ـ متفحمة ـ للسقوط نفسه.

أخبار الأدب

3 نوفمبر 2024