الأحد، 11 أغسطس 2024

المنسيون بين ماءين: ما لا يرويه الغرق

للفقد أسطورته التي تتطلب مقاومة مضنية للنسيان. الأسطورة لا تعني الانغماس في ما "فُقد" وإنما في ما كان يبطنه. في أطيافه الخفية حين كان متعيّنًا. تعني الاستغراق في ما كان يتعمّد تغييبه، وأصبح عند الفقد حاضرًا بالكيفية التي ندركها عن "حضور الموت". هكذا يصبح الفقد بأثر رجعي جوهرًا لما كنا نعتقد امتلاكه. يصبح النسيان حافزًا جماليًا لـ "خلق الماضي"، أي إكسابه ديمومة خيالية تراوغ الاستقرار.

"حمارها المحمّل بالسلال يتبعها، يكاد يلتصق بظهرها، والحبل متروك يبتل بالطين. بعينيها تبحث عن شيء، تشعر بتوترها، بل بجزعها، وبالتصاق الشفتين المبيضّتين، تلعقهما محاولة ترطيبهما. شعرها مطويّ أسفل عمامة قماشية لفّتها على عجل، وجهها المخفيّ بوشاح شفاف، نحو الجنوب الشرقي، تديره لتتأكد أن لا أحد في إثرها".

في رواية "المنسيون بين ماءين" للكاتبة البحرينية ليلى المطوّع والصادرة مؤخرًا عن دار رشم يمكننا التمعن في ماء البحر وماء الينابيع ضمن تنويعات الفقد التي تصبح خلالها "الماهية" احتمالات متناثرة، في مجابهة النسيان يدبّر كل احتمال خلاصًا ويقوّضه، بحيث لا يمكن مخاطبة الحياة بوصفها "موضوعًا للتأمل" إلا من خلال صيرورة التجاوز هذه. بواسطة تخطي ما كان يبدو يقينًا عن الأصل والمصير. الماء إذن هو تعددية معرفية وذلك لا يوطد سوى قابليتها للتفكك، بالطريقة نفسها التي تنطوي تحيزاتنا ومحاذيرنا وتصوراتنا عن "النجاة" على دوافع هدمها.

"ولكن لم يستبشروا حتى سمعوا خريره وهو ينساب. تدفق الماء، فهلل الناس فرحًا. عاد يضخ من النبع، فتراكضت العذراوات يغنين للماء خائفات من توهانه. يسترشد بصوتهن، فيلحقهن، ويعبر الممرات المائية. كل صبية تجري على حافة الساب، تقوده إلى حقل قبيلتها، فيرويها".

تبدو "العلاقات التراجيدية" في رواية "المنسيون بين ماءين" كأنها مبررات متباينة لا لعرض الوقائع أو إعادة صياغتها وإنما لتحفيز استفهاماتها اعتمادًا على ما تتسم به لغة ليلى المطوّع من تكثيف وخفوت وحدة، ما يتسق بعفوية مع الأحوال المتبدلة لحركة الماء في الرواية ـ لننتبه إلى تكنيك "المد والجزر" سواء بالتلاحق أو التمهل في المراوحة المتبعثرة بين كتابة اللحظة واستدعاء ذاكرتها ـ وكأن الماء يسرد نفسه عبر إيماءات الكاتبة، وذلك تحديدًا ما يمنح أسلوبها نبرات شرود مختلفة، كأنما لكل كلمة وعبارة وفراغ عزلة مختلسة، يتم تفحص الأرق بالفقد من داخلها. تجتاح هذه الاستفهامات أقنعة التاريخ والخلود والسلطة والأمومة والقتل والجمال والانتقام والشهوة والكراهية والتيه والخداع. ذلك ما ينتج الصراع بين الخطابات السردية في الرواية، بما يتعدّى فكرة "اقتفاء الأثر" أو رصد التداخل بين أصوات الماضي والحاضر، إلى مجادلة ذلك الأثر، ومن ثمّ تجريده من هويته المترفعة.

"تعاود الخرنق الجلوس قرب طرفة، وتشرب من الكأس الفضية شرابًا باردًا لا يطفئ غضبها. تسمع من خلفها حفيف سعف النخيل التي تحركها الرياح الشمالية بهدوء. تتأمله، وهو في ظل الأشجار، جميل الملامح، ذا كبرياء. الرجل الذي لم تُجّز ناصية رأسه قط، ولم يُذل عند قوم، وفي الترحال يرسل الرجال زوجاتهم إليه آملين الولد منه".

يمثل "المكان" في الرواية متاهة للحقيقة، فهو لا يخضع للضديات المروّضة، وإنما ينتج أشباحًا للمعاني التي لم تتوقف عن تعريفه على مدار الزمن. تحرضه الرواية على كشف النزاعات المضمرة بين الأطر المرجعية التي شيّدت أبعاده ودعائمه الأسطورية والواقعية، وكأن الذاكرة تتحوّل إلى قرين متسلط، أكثر دهاءً من موضوع "الهوية" التي تبدو كمحور للخطابات المتصارعة، ذلك لأن هذه الذاكرة أشبه بلاهوت يجري تحطيمه روائيًا استنادًا إلى كونه شبقًا فرديًا بالأساس، يكتسب "جماعيته" بفضل التغاضي المتواصل عن الثغرات العالقة في عمق تلك الفردية التي تسعى لحمايته من الشك.

"حين رأى الناس فرحتها، تركوا ما يشغلهم، وتبعوها لعلمهم أن اللحظة حانت. ساروا خلف المرتزق المستعرض سيفه ودرعه، المعلق على رقبة حصانه جدائل من أطاح بهم، واجتز نواصي رؤوسهم. سار بين الأحياء، ليشيع الخير، فيستعد طرفة له، ولا يباغته، فيلصق به العار".

لا ينفصل الانشغال التوثيقي عن السردي في الرواية بل تحوّلهما ليلى المطوّع إلى مزيج رمزي يعارض ثبات الدلالة، توحد خاص يستنطق الشاعرية المستترة في تاريخ المحكي لا باعتبارها نمطًا شكليًا وإنما كسيرة للماء، أي اللعبة الجامحة لما تحاول "السيرة" أن تصمت عنه حيث "اليابسة" ليست "الأمان" وإنما تعطيلًا للعب الذي يمارسه الماء.

"تحدّق إلى الموج المرتطم بساحل الجزيرة الرملية. ستتجه نحو الشمال، مثلما عبر صفوان البحر مع القوافل قادمًا من الصحراء الكبرى في الغرب. الموج يرتفع ويهبط. تعلمت قراءة الموج من زاويته المرتفعة. تتأكد من زوايا القمم، إن كانت مسننة، حادة، فالبحر عميق، ولكنها كانت كالتلال الصغيرة المندفعة. لابد أن البحر ضحل هنا، والأرض قريبة من السطح".

يحضر "الصرع" في الرواية كإشارة مبكرة إلى "الأطياف الخفية" للفقد. عينا البصيرة الطفولية في تحديقها إلى الوجوه الغائمة والمحتجبة عن واقع يتم تمزيق أقنعته من خلال "النوبة"، حيث لا يعيد الماء هذا الواقع كما كان، وإنما يحفر بصمة "الخيال" في طفولة الذات لتبقيها منذورة لمقاومة النسيان، أي الاجتياح المنفلت لأغواره.

"في تلك الليلة عاودتني نوبة الصرع، لأول مرة، بعد غيابها عن حياتي مع آخر مراحل الطفولة، سقطت على أرض المطبخ، أنتفض. دس زوجي أيوب منشفة المطبخ في فمي. لم أفق إلا وأنا في المستشفى".

تزيح الكتابة تلك الحدود التي يبدو أن الماء يتوقف عندها، ومن هنا يبدو "الغوص" مخاتلة للزمن، مناوشة لأعراف وتقاليد الحكايات القديمة، توظيفًا للفجوات بوصفها "أرواحًا ضالة" تكمن في مفترق الطرق الذي يؤلف الموروثات. هنا لا تٌطرح الإجابات المتجذرة إلا كـ "استعمال للمرويات"، تضليل البداهة التأويلية وإن تدثرت بالتحريم، حيث لا يُقارب أي "نص تأسيسي" إلا من حيث كونه بنية انتهاك، موضعًا للاشتباك بين المتناقضات، أو بمعنى آخر "فضاءً لإغراق العالم في ما يطمسه المجاز".  

"تشعر بشيء يفلت منها غائصًا، تشرع مرتعبة تبحث بيديها عنه، تراه معلقًا بالحبل السري، يطفو، فيبكي شاهقًا لافطًا الماء المالح. يسمع البحر صوته، يهدأ الموج، ويرق له. وهي كالمجنونة تبحث عنه، تشعر بصدرها الخاوي، وبالشوق لتعانق جنينها، وباتصاله بجسدها وهو يسبح في البحر مرتبطًا بها بحبل سري وبالموج هو يحركه فيحرك منطقة في داخلها، في أحشائها. يحمله برفق، يدفعه إلى ذراعيها المفتوحتين، وشفتاها تحدثانه، فتهمس ولا في المكان سواهما: "هاته يا بحر .. هاته".

هل يمكن ـ تحت وطأة القهر الناجم عن مراقبة "الانقراض" ـ أن تُقرأ "المنسيون بين ماءين" كتقرير ـ يعتمد بشكل أخاذ على تمرير السرديات كل منها عبر الأخرى ـ هل يمكن أن تُقرأ كتقرير عن تعويض أو استدراك ما يتجلى كوعي بالحسرة إزاء النهايات الحزينة لكل ما أصبح وعدًا ـ رغم حميميته البدائية ـ مقبضًا ومخيفًا؟. قربان تقدمه ليلى المطوّع تجاه المخيلة لتصبح هناك "حكاية أصلية" لا تراهن على البناء وإنما على الخلخلة، ومن ثمّ تصبح الرواية في حد ذاتها حلمًا مناقضًا للفقد، أكثر واقعية مما "حدث بالفعل"؟

"أقاوم، أصرخ متوجعة، جلدي ينسلخ من الماء حين أحاول رفع جسدي، يأتيني رجل أمن سمع صوت صراخي، أدهش من وجودي داخل العين. صرخ غاضبًا وطردني من الموقع، عند ابتعادي سمعته يقول لزميله: "هذا ما كان ينقصنا، مشعوذة". حين وصلت إلى سيارتي، انهرت من البكاء، إحساسي بأني أمسكتها حيّ، واقعي. انتبهت. كنت أغلق قبضتي بقوة. فتحتها، عثرت على خصلة من شعر بنيّ فاتح، إنها خصلة من شعر صغيرتي. قربتها من أنفي أشتمّها، أقبّلها".

إن ذلك هو طقس "الأسطورة الذاتية" التي تجابه النسيان بطريقتها، بإدراك صارم أن الأمر لا يتعلق بصورة قاصرة بما هو متعيّن، حتى وإن كانت الشخصيات من لحم ودم، ذلك لأن المحسوس هو الفقد نفسه، وما الكفاح سرديًا ضد الأطياف الخفية لهذا الفقد "القبض على اللاتجانس في الحكايات" هو "الامتلاك" بكيفية أو بأخرى. اصطياد السحر الذي تتنكر بأوهامه المآسي. يتعلق الأمر بالموت الشخصي الذي يفرض على العابر ـ حين يقرر ذلك ـ ألا تٌدفن رسائله إلى الماضي مع جسده. أن تطعم جنيات البحر بكل التوتر الذي يسكن تلويحاتك إلى الفناء حيث لا شيء يبقى وافيًا لما أراد أن يكونه، ولا شيء يبقى محصنًا من الاستبدال والمحو.

أخبار الأدب

4 أغسطس 2024