الأربعاء، 28 أغسطس 2024

سماء بضفيرتين: الأنسنة الأنثوية للغيب

بدءًا من عنوان مجموعته الشعرية "سماء بضفيرتين" يخبرنا الشاعر المغربي عبد الجواد العوفير بأن قصائد هذه المجموعة الصادرة عن دار راية لا تعتمد "أنسنة الأشياء" بالتعبير الدارج فحسب، وإنما "أنسنة الغيبي" تحديدًا، بل و"الأنسنة الأنثوية" بتحديد أدق. الأنسنة التي لا تتماهى مع الغيبي، وإنما التي تعيّن نفسها بديلًا "صادقًا" له، الأنسنة التي تجرّد الغيبي من صورته المترفعة، ومن ثمّ تزيحه عن الحياة والموت.

"ألف الرفاق

في لفافة واحدة

وأدخنهم ببطء".

ثمة حس "ثأري" يبدو دافعًا أساسيًا في قصائد هذه المجموعة وبالأخص في قصيدة مثل "وهمي عال". حس يتناغم مع "الأنسنة الأنثوية" حيث "الموسيقى" هي الجسر الأكثر ملاءمة لإنزال الغيب من عليائه. هنا تبرز الغاية من استبدال الغيبي بالأنثوي. يتحوّل الغيب إلى هدف شبقي للشاعر. هدف يكمن وراء "تخيلاته الثأرية" ويقودها. يتحوّل "الوهم" إلى "ممارسة" مشحونة بالعنف اللائق.

"الموسيقى تهبط الأدراج

مثل امرأة غنوج

لكن بيتي سفلي

فكيف تخيلتُ أن الموسيقى

تهبط الأدراج الداخلية".

لكن هذا العنف لا يكشف عن احتدامه بصورة مباشرة، وإنما يتقمص سكون الغيب وغموضه، يكثّف العنف لغته إلى أقصى حد، بما يعادل الصمت الخبيث لذلك الغيب، يرد "الرعب" بالحدة الخفية نفسها. حتى أننا قد نشعر بـ "العتمة" المنزلية التي تواري هذا العنف، بعد أن حلت موضع العتمة السماوية بكل ما تضمره لانهائيتها. هذا ما يجعل "الثأر" تهكميًا بشكل جوهري.

"أنا وكافكا وحيدين في غابة

ندفع باب بيت قديم

نجد امرأة مخنوقة بالبكاء

نضاجعها الليل كله".

لنفكر في "المرأة" من خلال قصيدة "وحيدان في غابة" باعتبارها الحياة ذاتها، لا كما عاشتها "الأنا" في وحدتها المشتركة مع "كافكا"، وإنما كما قُدّر لها أن تكون رغمًا عنها. كما أُجبرت أن تكون إشارة للسر "الكوني" الذي لا يمكن تفسير "كابوسيته". الحياة هنا لا تقدم نفسها كشيء منطقي، وإنما ككيان موصوم بهوية قهرية، تطبق على أنفاسه، ومن ثمّ يكافح للتبروء من ثقلها. كقناع يقاوم الوجه المستتر للمطلق. يقاوم أن يكون ملامح ناجمة عن هذا الوجه. وكأن مضاجعة القناع هي مضاجعة الوجه المستتر. كأنها طمس متعمّد للوجه المستتر. وحيدان يخوضان متاهة الألم، نحو "فكرة" الحياة العالقة في الأزل، يخلقان من تعاستها أبديتهما الهازئة كما في قصيدة "نرفع أنخابنا لذكريات عالية":

"نخبئ ذكرياتنا في الجيوب

كمحاربين قدامى

ونقدمها للعاهرات كأجر

من يريد سماواتنا الصغيرة

من يريد هذه الأبدية

التي تنمو في قلوبنا كشجيرات عليق".

هذا خطاب "إلهي"، ولكنه خطاب "مضاد"، أي أنه يدرك مناوئة "السماوات الصغيرة" لـ "السماء"، يُشكّل أبدية خاصة تناقض "الأبدية" الكونية. الذكريات إذن هي سيرة المجابهة بين البشري والغيبي. تاريخ امتلاك البشري لغيبية ذاتية، تستعمل الفناء لكي تكتسب خلودًا "ينمو كشجيرات عليق".

"السحب التي أحببناها كنساء بعيدات

نرفع أنخابنا نحوها

...

فلتأت أيها الموت بملاكك الصغير

وأقتل هاته الأبدية

التي تتجمل مثل امرأة خجول".

يُنظر للسحب أحيانًا خارج طبيعتها الأصلية، شعريًا بالأخص، أي ككائنات حية تنتمي للمطلق لا إلى العالم، واتساقًا مع "الأنسنة الأنثوية" للغيبي التي تعتمدها المجموعة، وتحويل تفاصيله إلى أهداف شبقية؛ تصبح السحب نساءً تستجيب للأنخاب المرفوعة، وبما أن "الموت"، كناتج عن الأنسنة السابقة للغيبي، قد صار خاضعًا لـ "المحارب القديم"؛ فإنه من الممكن توجيه هذا الموت إلى المسار العكسي، نحو الأبدية التي طالما ظلت محصنة من بداهته، لكنها الآن لم تعد كذلك؛ أصبحت "تتجمل مثل امرأة خجول". ذلك ما يوطد "الثأر" كدافع أساسي. يوسّع تعريف "الشبق" ليصبح أكثر شمولية في استهدافه للغيب.         

"امرأة بوشاح أخضر

تلقي ابتسامة

وجهانا كإلهين هاربين

من سماء ضيقة".

تتضح الأنسنة الأنثوية المعتادة بدرجة ناصعة في قصيدة "في صحة الغائب". اكتسبت الألوهة سمة امرأة، لا تتسع لها "سماء المطلق". تصبح ابتسامتها عناقًا مع "وجه" لإله يُدار المشهد بمشيئته. الغائب ـ الذي كانت تتسع له السماء من قبل ـ تحوّل لامرأة بوشاح أخضر "هدف شبقي" فصارت سماؤه ضيقة، لذا كان عليه الاستجابة لإرادة الإله الذي خلق هذا التحوّل ـ هروبًا من السماء نفسها ـ بواسطة الابتسامة التي تعلن حيازة سماء أكثر اتساعًا. سماء جديرة بالمطلق الذي جرى استبداله.

"معلّمة الانشاء كانت ترتجف بين يديها الشمس

تنورتها الصغيرة علمتنا اللغة

وأنا الآن أنظر للشمس

تغيب اللغة".

اللغة ليست "تفصيلة غيبية" وحسب، ولكنها في قصيدة "لغة" هي "جوهر الغيب". الجوهر الذي يتحوّل بفعل "الأنسنة الأنثوية" إلى "إزاحة للغة". يجعلها موضع غياب. معلمة الإنشاء هي الإله الذي أصبح ينتج اللغة بدلًا من مصدرها الغائم. تحوّل "الغيم" إلى "ضوء" مشبعًا بشهوانيته / شمس مرتجفة. ذلك ما يجعل الضوء مجردًا من لغة المطلق. يصير خارج اللغة التي يستقر الغيب في أغوارها.

"المرأة التي تجلس وحيدة في البار

وترتدي شالا أحمر

تشبه الله الذي تركناه في المنزل

ألم نغلق الباب جيدا؟!".

كأن عنوان هذه القصيدة "ربما تشابه" يمثل إمعانًا في السخرية التي تدعم الاستبدال المعهود للغيبي بالأنسنة الأنثوية. لا يبدو هذا تشابهًا وإنما وجودًا يأخذ محل وجود آخر. مكانُا بديلًا للامكان. زمنًا بديلًا للازمن. هنا إعادة تسمية "الوحدة". لم تعد وحدة "إلهية"، وإنما وحدة "امرأة ترتدي شالًا أحمر". وحدة تناسب تحويل الغيب إلى هدف شبقي. تناسب الثأر الذي يقوم عليه هذا التحوّل.

هذه الأنثى التي تعيّن نفسها بديلًا للغيبي يمكنها أن تحمل روح "فرجينيا وولف" أو "مدام بوفاري"، لذلك فاكتسابها سمة الألوهة لا يجعلها "مخلّصة" بالمعنى "الديني" وإنما على العكس تجعلها منتهكة للخلاص، تكمن "أبديتها" في تقويض "النجاة"، في الانفصال عن "الحكمة"، أي خلخلة اللغة التي كان الغيب يستعملها في ترسيخ إكراهاته. لذا نجد عبد الجواد العوفير يستخدم ما يُعرف بـ "قلب المنطق اللغوي" حين يتحدث عن تلك المرأة التي أصبحت بديلًا للغيب "حين أضاجعك / أصعد إلى أسفل"؛ فالألوهة هنا لم تعد "ترفعًا" وإنما انغماسًا في المسار العكسي، المفكك لذلك التعالي المجهول الذي يتسم به المطلق. وكأن أثر هذا الاستبدال يمتد بالضرورة إلى حركة الموجودات امتثالًا للتحوّل الشبقي، فنصبح إزاء "عالم بديل" يستند إلى هذا التخيّل الثأري الذي يستخدمه الشعر تجاه الغيب؛ فنجد مثلًا في قصيدة "في بيتي مدام بوفاري" هذا التلازم بين "الفعل الشهواني" تجاه مدام بوفاري وأداء كائن آخر:

"ها أنت تدخلين بيتي

الذي لم يدخله الأنبياء

منذ أن علقت وردة في روحك العالية،

إذا انحنيت لتقبيل يديك الصغيرتين

ينقر عصفور نافذتي".

نلاحظ هنا التناغم الذي يلخص الاستبدال: البيت الفارغ من "الخلاص" والمرأة التي أصبحت بديلًا لذلك الخلاص. مدام بوفاري التي أزاحت "الحكمة" والممارسة التي يخلق بها الشاعر أبديته المناقضة. تقبيل يدي مدام بوفاري ونقر العصفور للنافذة. هذا التناغم هو إعادة اختراع ضدية للعالم. إعادة تفسير لعلاقة فرجينيا وولف بالنهر كما في قصيدة "سماء بضفيرتين":

"أيكون لي شكل الله الآن؟

تقول المرأة وقد غادرها الجسد القديم.

النهر يحب فرجينيا وولف

وقد أحست بذلك

وهي تطوي أوراقها في مكتبها الوحيد".

كأن الشاعر يبعث فرجينيا وولف مجددًا إلى الحياة وفقًا للألوهة الكامنة في انتحارها. كأنه يسبق لحظة انتحارها بخطوة ليجعلها تكشف العلاقة الحميمية بينها والنهر، والذي حين انتزع منها "جسدها القديم" فإنه قد قام بتطهيرها من "سطوة المطلق". هذا ما يجعل انتحارها تدميرًا لما أرغمها الغيب أن تكونه، يجعله حصولًا على ولادة جديدة، إلهية، يقتنصها الشاعر؛ فيحوّل فرجينيا وولف إلى "أنسنة أنثوية للموت" تقوم على أشلاء الموت نفسه.

"المرأة التي تكلّم جدارها كل ليلة

هي ذاتها التي تعرف أسرار الغيمة وأحوال النجوم

لكن الجدار لا يعرف شيئًا عن الحنين

الحنين الذي ينبت كعشب سيء".         

هل تمثل هذه الأنسنة الأنثوية توطؤًا مراوغًا من الشاعر مع الجانب الأنثوي المضمر في ذاته؟ التواطؤ الذي يمارس من خلاله تلك الشبقية الانتقامية مع الغيب الذي يكوّن هذه الذات؟ الذكوري يستبدل المطلق بأنثويته المتوارية والتي تجسدها نساء القصائد، ليتمكن من قتله / امتلاكه خياليًا. ربما تلك الكيفية الوحيدة لإدراك "الروح"، لبلوغ التجانس العسير بين الجسد وفنائه.  

 موقع "الكتابة" الثقافي

21 أغسطس 2024

 

 

الأربعاء، 21 أغسطس 2024

تحميل المجموعة الشعرية "كل ما خفي عنك"


قدم وحيدة


 

أحمد عاكف كاتبًا لرواية «خان الخليلي»

اقترح الناقد الأمريكي واين بوث  (1921-2005) تمييزًا بين ما يسميه الكاتب الضمني implied auther والسارد، وكذلك بين الساردين المؤهلين للثقة reliable والذين ليسوا كذلك unreliable.

“نلاحظ أن بوث بتمييزه الواضح بين الكاتب الضمني والسارد (المشخص أو غير المشخص، الكلي المعرفة أو الذي ليس كذلك، الأهل للثقة أو غير الأهل للثقة .. إلخ) وبابتكاره لمفهوم، أو بتعبير أدق لمصطلح الكاتب الضمني لكي يميزه عن الكاتب الحقيقي قد وضع حدًا للغموض الأبدي بين السارد المنتج للكتاب، المنظم للمحكي في كليته، والسارد الذي يبدو أنه يحكي (يدرك) الأحداث داخل الرواية”.”1″

كُتبت رواية “خان الخليلي” لنجيب محفوظ ـ ظاهريًا ـ بمشيئة من يُعرف بـ “الراوي العليم” .. سارد مهيمن، غير مشخص، أي ليس له حضور ضمن شخصيات الرواية، كلي المعرفة، يدعي بأنه يعلم عن كل شخصية ما لا تعرفه هي عن نفسها .. لكن بكل ما يتسم به هذا الراوي من استعلاء وانحياز وتسلّط؛ هل هو أهل للثقة؟

“حينما نتحدث عن وجهة النظر في التخييل، فإن أكثر المسافات تعرضًا للإهمال بشكل خطير هي تلك التي توجد بين السارد الذي يمكن أن يخطئ، أو غير الجدير بالثقة، والكاتب الضمني، حيث يجر هذا الأخير القارئ معه، وضد السارد بنفس الدرجة. إذا كان ما يدفعنا إلى مناقشة وجهة النظر هو معرفة كيفية اتصال هذه الأخيرة ببعض الآثار الأدبية، فإن الخصال الأخلاقية والثقافية للسارد تهمنا حينئذ أكثر مما تهمنا الإشارة إليه بضمير المتكلم أو الغائب، أو كوننا نمنح أو لا نمنح لرؤيته الامتياز. فإذا اكتشفنا أنه غير جدير بالثقة، فإن تأثير العمل الأدبي الذي يرويه يتغير”. “2”

ماذا لو أن ثمة “ساردًا ضمنيًا” قد تنكر في صورة ذلك “الراوي العليم” ـ المناوئ له ـ وتقمص دوره في رواية “خان الخليلي” لغرض خفي؟

“ولكن هذا الغموض يحدث بكثرة حينما لا يكون السارد مشخصًا ويبقى مع ذلك حاضرًا (هكذا الأمر في روايات فيلديغ، بلزاك، ستندال .. إلخ). ألا يتحدث الناس عن “تدخل الكاتب”؟ في حين ليس مؤكدًا حتى ما إذا كان السارد العالم بكل شيء في رواية بلزاك مثلًا مطابقًا للكاتب الضمني”. “3”

ماذا لو أن هذا السارد الضمني في رواية “خان الخليلي” هو “أحمد عاكف” بطل الرواية نفسه، وأن ذلك الغرض الخفي هو الانتقام؟

ماذا لو أن “خان الخليلي” تجسّد الأنظمة الفرويدية للشخصية: الأنا / الكاتب ـ الأنا الأعلى / الراوي العليم ـ الهو / السارد الضمني؟

“ولا شك أن الأرق الذي مرض به نصف عام من حياته كان من جملة الأسباب التي عقم به عقله، وقد أشفى به على الجنون والموت، وسهر الليالي ذاهلا أو هاذيا، ثم أدركته رحمة الله فتعافى بعد يأس. ويرجع السبب المباشر لمرضه إلى تجربة خطيرة خاض غمارها غير حافل بعواقبها، ذلك أنه كان يؤمن بالسحر ولا يشك فيما يلقى على سمعه من أساطير، وعثر يوما بموظف قديم راسخ الاعتقاد في السحر والشياطين فأقبل عليه بشغف واهتمام، وبعد أن توطدت الصداقة بين الاثنين أعاره الرجل بعض كتب قديمة عن السحر وتحضير الشياطين ككتاب خاتم سليمان، والقمقم، ويا أسيادي. وطار بها الشاب سرورا وعدَّها أجل ما بلغته يداه من زبد العلم والحقيقة، وعكف عليها بحماس ويقين يحل رموزها ويفقه أسرارها، ويتحرق شوقا إلى وقت يتاح له فيه السيطرة على القوى الكونية والاستئثار بمفاتيح المعرفة والقوة والسلطان!. أوشك أن يجن لهفة وأن يذوب هياما. متى يدين له عرش النفوذ اللانهائي فيأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء، ويعبث بمن يشاء، فيرفع ويخفض ويغني ويفقر ويحيي ويميت؟ ولكن لم تحتمل أعصابه الجهاد طويلا ولا قدر على قضاء الليالي الطوال مختليا بأرواح الشياطين فاضطرب حبل أمنه وأرهقت أعصابه وصرعه الخوف والوهم فتلقفه المرض وأوشك أن يسلمه للجنون أو الموت!”.”4″

بقدر ما تثبت هذه الفقرة بالغة الأهمية وتوطد ما ذكرته من قبل عن أن أحمد عاكف ينشد اكتساب “القوة” التي تكمن وراء “كل الأفكار”، وأن الأفكار نفسها ليست مبتغاه، وإنما “السيادة الكونية”  التي يُحتمل أن تؤدي إليها، وأن لجوءه إلى “السحر” يؤكد أنه ليس مجرد شخص يسعى لأن يكون “مثقفا” مرموقًا، معتنيًا بالمعارف المختلفة أو مرددًا لها فحسب، وإنما شخص يطارد ألوهته المفقودة؛ بقدر ما تثبت هذه الفقرة ذلك، بقدر ما تثبت أيضًا دور النبرة الإيمانية الحكمية للراوي العليم في حديثه عن “مرض” أحمد عاكف، والتي تتيح له أن يكشف عن طبيعة السارد الضمني أو جوهره الخفي، محتميًا بالاستعلاء الشكلي المنتقد والساخر وربما “المشفق” تجاه معاناته و”ضلاله” .. لنقارن بين استعمال الراوي العليم لتعبير مثل “أدركته رحمة الله”، وبين وصفه لشعور أحمد عاكف حين كان “يتحرق شوقا إلى وقت يتاح له فيه السيطرة على القوى الكونية والاستئثار بمفاتيح المعرفة والقوة والسلطان” .. الراوي العليم “بلغة التقوى” يتحدث عن أحمد عاكف “الضال” الذي ـ بالرغم من ذلك ـ أدركته “رحمة الله” .. الراوي العليم يشير إلى أن “إيمانه” قادر على رصد “رحمة الله” حين تدرك “عبدًا ضالًا”، أراد أن يحصل على ما لا يملكه سوى “الله” .. أن يقبض على صفة “الإله” .. أراد أن يسلك مسار “الشياطين التي كان يختلي بأرواحها” .. هذه ليست عداوة منطقية بين الراوي العليم والسارد الضمني، وإنما تكاتفًا عفويًا على إبداء العداوة .. كأن الراوي العليم يقول: “سأحدثكم بمستويات إدانة وتهكم متباينة عن أحمد عاكف كي أسمح له بكتابة “خان الخليلي” سرًا، وسأمرر أثناء ذلك من العلامات والإشارات والقرائن ما يدل على هذا التواطؤ بيننا في تلك اللعبة السردية التي تستغل “التخاصم الشكلي” من أجل الإعلان الماكر عن نفسها”.

“وأوردته أفكاره المحمومة ـ في صمته ـ مناهل سامة استقى منها خياله المحزون، فاستسلم لأماني شيطانية مرعبة، تمنى في صمته غارة جنونية تقذف القاهرة بالحمم فتدك مبانيها وتهلك بنيها فلا يبقى منها إلا خرائب وآثار، وشخصان حيَّان لا غير، هو وهي!! هناك تصفو له بلا خوف ولا يأس ولا غيرة ولا جهد! .. وتمثلت لعينيه المظلمتين القاهرة المهدمة المحطمة، والشخصان الشريدان، يفزع أحدهما إلى الآخر لائذا بجناحه ساكنا إلى ذراعيه، والآخر سعيد ـ على ما يكتنفه من الخراب ـ بصاحبه متلذذا بانفراده به، انبعثت هذه الأمنية الغريبة من صدره وهو يفور بشعور طاغ بالاضطهاد والقهر والعذاب”. “5”

تبرز هذه الفقرة “أمنية الانتقام” عند أحمد عاكف .. “أمنية شيطانية” بتعبير الراوي العليم .. خيال الإله المناقض يواصل اكتشاف / كتابة سردية الشيطان ثأرًا من “الألوهة الكونية” .. كأنه يخلق لنفسه مع نوال أسطورة مضادة لـ “آدم وحواء” .. أسطورة تقوم على أنقاض العالم الذي فُرض عليهما الوجود في جحيمه .. كأنهما يستردان “جنة” بديلة تعيدهما “إلهين” هذه المرة، لا مخلوقين، انتقامًا من “الطرد” خارج “سمائهما” .. كأن أحمد عاكف يقيم قيامة للغيب .. نلاحظ أن أحمد عاكف لم يتخيل هروبه مع نوال إلى “عالم آخر”، ولم يتخيل اختفاء القاهرة بما يسمح للعاشقين أن يتحررا من الحواجز التي تفصل بينهما، ولم يتخيل أن يتحوّل “خان الخليلي” إلى مكان فردوسي مغلق على سعادتهما، وذلك كأمثلة رومانسية شائعة، وإنما كان عليه أن يتخيل “دمارًا شاملًا” يقوم عليه “عرشه” المفقود .. يتخلص من “لعنة” إنسانيته: “الخوف واليأس والغيرة والجهد” .. يستعيد لذته المحصنة كإله .. نلاحظ أيضًا هذه الكلمات: “فلا يبقى منها إلا خرائب وآثار، وشخصان حيَّان لا غير، هو وهي!!” .. أين الأب والأم في تخيّل أحمد عاكف؟ .. لماذا لم يضمهما إلى الناجين من ذلك الهلاك القاهري العام؟ .. لأن آدم وحواء بلا آباء .. لأن إعادة خلق العالم وفقًا لألوهتهما المستردة هي البداية التي لا يسبقها أحد أو شيء .. لذا فالدمار يجب أن يكون “كونيًا” انطلاقًا من الحدود المكانية والبشرية التي تُطبق على أحمد عاكف، وليس مجرد انفلات مشروط من الواقع.

“وعند عودته ظهرا وجد خطابا في انتظاره، عرف خط صاحبه من أول نظرة ألقاها على الظرف ـ وهو خط صغير جميل يشبه خطه من جميع الوجوه، فابتسمت أساريره، وفض الخطاب ثم قرأه حتى فرغ منه وقال:

ـ سيأتي رشدي أخي صباح نهار الوقفة”. “6”

“وأحبه لأنه صنعه بيديه. غذاه بروحه ورباه بماله فكان الشقيق الأكبر وكان الوالد الحنون”. “7”

“كان الشاب ذا شخصية خليقة بأن تحب، كان لطيفا خفيفا مرحا، ورث عن أمه تلك المقدرة التي تفتح له القلوب بغير جهد ولا تكلف، لما طبع عليه ـ كلاهما ـ من الجمال والصفاء والوفاء وحب العشرة والألفة. ولكن واأسفاه أخطأه الاعتدال والرزانة والحكمة، وجرت الحياة في أعصابه زاخرة جامحة، فاستأدته غرائزه الجهد الجهيد، ودفعته قفزا ووثبا بغير رادع، وقد كان منذ البدء جسورا مقتحما متمرسا بالحياة. ذلك أن الذي وكل برعايته، أخاه ـ ظل دائما مفصدا بأغلال التدلل والخوف، فمال إلى الاعتماد على الطفل الذي يربيه ـ فيمن يعتمد عليه ـ في قضاء حاجته، واتباع لوازمه واستعارة كتبه، فاكتسب الصبي خبرة بالدنيا واعتمادا على النفس وجسارة ورجولة، وصارت حاجة راعيه إليه لا تقل عن حاجته هو إلى راعيه. ولكنه عرف الدنيا وجال فيها بغير المبادئ الحقيقة بأن تعصمه من زلاتها، فمنذ أن أحيل عاكف أفندي على المعاش إنطوى على نفسه تاركا أمر أسرته لابنه وزوجه، ولم يجد رشدي في هذين العزيزين الحزم الذي يرشده ويعصمه، فضل السبيل وتخبط على غير هدى، ولولا دماثة خلقه، ورقة طبعه، لربما جاوز مفاسد الشهوات إلى مهالك الجرائم”. “8”

“ونفد صبر أحمد عاكف فأنذره بالكف عن الإنفاق عليه إذا لم يمسك عما هو آخذ فيه من المجون والاستهتار، وبلغ منه الغضب أحيانا أن شعر بأنه يمقته مقتا، بل حقد عليه أخذه بأسباب حياة يعجز هو عن الأخذ بأسبابها، ويتلهف حسرة على ألوان منها!”. “9”

“ثم انتهت تلك الحياة بمعجزة والبكالوريوس، مما دعا أحمد على أن يقول متهكما: “هكذا يحصل الطالب على الشهادة التي تفضل الحكومة حامليها على أمثالي؟!”. “10”

“بل رفعت الكلفة بينهما فربما قص الفتى على شقيقه المحبوب ما يلقى من تجارب الهوى والحب. وكانت له في الهوى أهواء، وفي العشق فنون فعرف الحب الآثم والحب الطاهر! وتقلب في مظان السوء كما جرى وراء الحسان في السبل والميدان”. “11”

“فلم تعرف حياته الهدوء ولا السكينة ولا الراحة، وباتت مرعى خصيبا للشهوات والملاذ، فنالت منه حتى أعيته ونهكته، فنحف وهزل وصار ـ على حد تعبير والدته ـ كالعود. وكان أحمد ـ الذي يحبه ويشفق عليه ـ يرمقه بعينين قلقتين ويقول له: “إرحم نفسك” فيجيبه بمرحه المألوف “يرحمنا وأياكم!”. “12”

ثمة معطيات أساسية تبرزها وتؤكدها الفقرات السابقة في الرواية:

ـ التماثل بين خطي أحمد عاكف وأخيه الأصغر رشدي يشير إلى دور أحمد عاكف الأبوي في “تكوين” رشدي، وهو ما يوطده تعبير الراوي العليم “صنعه بيديه”، أي كأنه يتحدث عن “خلق” أحمد عاكف لشخصية ناجمة عن ذاته “غذاه بروحه” اسمها رشدي عاكف .. كأنه يتحدث عن أن أحمد عاكف قد خلق رشدي عاكف على صورته.

ـ تحولت هذه الشخصية إلى صورة خائنة للذات التي خُلقت منها، أي مناقضة لشخصية أحمد عاكف؛ حيث أصبح رشدي عاكف جسورًا، مقتحمًا، متمرسًا بالحياة، في حين ظل أحمد عاكف “مفصدا بأغلال التدلل والخوف”، وهو ما جعله يشعر بـ “المقت” و”الحقد” تجاه أخيه كما ذكر الراوي العليم .. أصبح رشدي عاكف يمثل الصورة التي عجز أحمد عاكف أن يكونها.

ـ يثبّت الراوي العليم سمات طبيعته المألوفة على مدار الرواية: “الكتابة بنبرة إلهية (إسلامية) ـ المعرفة الكلية ـ الأحكام الأخلاقية المتعالية” .. كأن السارد الضمني قد عيّن راويًا عليمًا يحمل نفس صفاته “الإلهية”، يراقب ويهدد بالقصاص ولكن بشكل مخادع .. إله يخفي إلهًا آخر، متنكرًا في عداوة مترفعة، مختبئة في بلاغة الدين والأخلاق والتقاليد، وذلك لكي يستطيع الإله المتواري الانتقام من “الألوهة” نفسها.

ـ يحاول الراوي العليم أن يُحكم إخفاء نيّة أحمد عاكف في الانتقام من أخيه رشدي بواسطة جملة اعتراضية “فاضحة”، غير مبررة في ما تحاول تأكيده: “وكان أحمد ـ الذي يحبه ويشفق عليه ـ يرمقه بعينين قلقتين ويقول له: “إرحم نفسك” .. لو لم يذكر الراوي العليم أن أحمد عاكف “يحب ويشفق” على رشدي عاكف لما كان هناك أي تأثير، ذلك لأنه من الطبيعي ووفقًا لما تحدث به الراوي العليم نفسه من قبل عن علاقة أحمد عاكف بأخيه الأصغر أن يشعر تجاهه بالحب والإشفاق حتى مع تلك “المشاعر الأخرى”، ولهذا تبدو هذه الجملة لا أهمية لوجودها .. لكن هذه الجملة الاعتراضية مبررة للراوي العليم لأنها بمثابة تبرئة لأحمد عاكف مما سيحدث لرشدي عاكف لاحقًا .. لأن الراوي العليم حريص تمامًا على توطيد الادعاء بأنه هو من يكتب الراوية وليس أحمد عاكف .. لأن الراوي العليم / الأنا الأعلى حريص تمامًا على إخفاء وظيفته كمجرد “قناع” استعاره أحمد عاكف السارد الضمني / الهو “الذي نشأ عنه الأنا الأعلى بحسب فرويد” لكي يتمكن من تنفيذ انتقامه .. لكن ذلك ليس المبرر الوحيد .. لنتذكر أن الراوي العليم يحرص أيضًا على تمرير العلامات والإشارات والقرائن في بعض الأحيان التي تدل على هذا التواطؤ مع السارد الضمني؛ وهو ما يجعل لهذه الجملة غرض مناقض لظاهرها، أي أن يتكفل وجودها “الفاضح” الذي لا لزوم له، ولا يمثل إضافة، بإثارة الشك ـ على الأقل ـ في أن الأمر ليس كما يبدو عليه .. نحن نعلم أن أحمد عاكف يشعر بالحب والإشفاق تجاه رشدي عاكف، لماذا يعيد الراوي العليم التأكيد على ذلك فجأة؟، إلا إذا كان أحمد عاكف يدبر شيئًا ما غير معلن .. لن يثبت هذا الفعل المستتر أن أحمد عاكف مجرد من هذه المشاعر تجاه أخيه، وإنما سيكون هذا الفعل مناقضًا لما يشعر به أحمد عاكف تجاه أخيه.

لدينا هنا امتزاج وتقاطع بين أساطير “تأسيسية” عدة: أسطورة الإله الذي يخلق إنسانًا على صورته .. أسطورة الشيطان الذي ينتقم من الألوهة ـ بما أنه إله مضاد ـ من خلال الكائن المخلوق .. أسطورة قابيل الذي يقتل شقيقه هابيل والتي يتم التمهيد لحدوثها عبر الصفحات اللاحقة من الرواية .. لدينا هنا إعادة التكوين البدائي للعالم ولكن بطريقة “عقابية” لما أقرته تلك الأساطير .. أحمد عاكف هو الخالق، الإله المضاد الذي لم يتمكن من استرداد ألوهته الغيبية، وفشل في الحصول حتى على “المباهج الأرضية” التي يستمتع بها الكائن الذي خلقه “رشدي عاكف”، وبالتالي كان عليه أن يكتب سرديته كـ “شيطان” انتقامًا من الألوهة في شخص أخيه الأصغر .. سيجعل أحمد عاكف “السارد الضمني وفي حماية الراوي العليم” أخاه يدفع تدريجيًا من صحته الجسدية ثمن ما لم يقدر هو على امتلاكه.

لماذا وجدت في هذه الدنيا؟ .. أما من نهاية لهذا الألم الممض وذاك الملل المسقم؟ .. ثم ماذا أجدى عليك هذا العقل؟ .. وماذا أفدت من المعرفة؟ .. حلّفتك بهذه الآلام جميعا إلا ما أغلقت الكتاب إلى الأبد وحرقت هذه المكتبة العاتية، ولخير لك أن تدمن على مخدر يذهل العقل عن الوجود حتى يتداركك الذهول الأكبر. الحياة مأساة والدنيا مسرح ممل، وما من عجب أن الرواية مفجعة ولكن الممثلين مهرجون، ومن عجب أن المغزى محزن ـ لا لأنه محزن في ذاته، ولكن لأنه أريد به الجد فأحدث الهزل، ولما كنا لا نستطيع في الغالب أن نضحك من إخفاق آمالنا فإننا نبكي عليها فتخدعنا الدموع عن الحقيقة، ونتوهم أن الرواية مأساة والحقيقة أنها مهزلة كبرى!”. وصمت قليلا متفكرا، متجهم الوجه، منقبض الصدر، ثم نهض قائما في وثبة عنيفة وقال بشيء من الحدة: “إلى الكهف المظلم، كهف الوحدة والوحشة، إلى القبر البارد، قبر اليأس والقنوط، لقد ركلتني الدنيا وهي الدنيّة ولأركلنها وأنا المتعالي”. “13”

كأن الراوي العليم لا يعرف أن طغيان “الحزن واليأس” على “الغضب والسخط والعجرفة” هو إشارة بتحويل هذه المشاعر إلى “كتابة” .. أن “الغضب والسخط والعجرفة” قد أنشأوا فضاء حريتهم المخبوء، مملكتهم الانتقامية السرية في “الكهف المظلم”، “كهف الوحدة والوحشة”، “القبر البارد” حيث تُخط “خان الخليلي” .. أن الحزن واليأس هما قمة “جبل الجليد” الصلبة، لا يلخصان ما لاقاه “أحمد عاكف” في حياته وحسب، وإنما ينبئان بما يواريه وما يقوم به خفية أيضًا .. يلخصان التوحد بين الإنسان الذي “خُلق في كبد”، و”الشيطان” المنبوذ من الملكوت الغيبي، الذي ينتقم سرًا .. يلخصان الإنسان الذي ينسب جحيمه ـ كالعادة ـ إلى قوة “شيطانية” مجهولة لكي يتمكن من الاستجابة سرًا إلى طبيعته كـ “شيطان” يأبى الاستسلام إلى قدره .. أحمد عاكف لا يعتبر نفسه أكثر البشر ابتلاءً بسوء الحظ، مقارنة بكل “السعداء” من حوله نتيجة “البلاء” نفسه، وإنما نتيجة وعيه بالبلاء .. نتيجة إدراكه بمدى فداحة أن تكون “إلهًا” معطلًا، ولا تخضع لك حتى المقاصد الدنيوية البسيطة .. نتيجة إدراكه أنه يجسد “الإنسانية” ذاتها كألوهة معطوبة قهرًا، حتى لو بدا الإنسان قانعًا في الظاهر بسعادته المحدودة بما يعيشه على الأرض .. يتحدث أحمد عاكف إلى نفسه، وكأن الراوي العليم قد انسحب كليًا مؤقتًا ولم يعد له أثر في كتابة هذا المونولوج الداخلي .. كأن السارد الضمني هو الذي يكتب هذا المونولج بالفعل دون قناع .. يكتب عصيانه على الوجود في الدنيا .. تمرده على قبول الألم والملل .. الصوت الواحد للإنسان والشيطان .. الصوت الذي يحاكم الغيب .. يحاكم المطلق الذي أراد للحياة أن تكون مأساة والدنيا مسرح ممل .. الذي أراد أن تكون الرواية مفجعة .. ما المغزى “غير المحزن في ذاته”؟ .. المغزى أن تعيش .. لكن ذلك لا يمكن أن يكون بالأمر الجاد طالما أنك ستعيش حياة مناقضة للألوهة .. لا يمكن أن يكون بالأمر الجاد طالما أنك ستكون “أحمد عاكف”، وهذا ما يجعل سؤاله “لماذا وجدت في هذه الدنيا؟ أكثر منطقية من وجود الكون نفسه .. هذا ما يجعل المأساة “مهزلة” .. لأنه لا يوجد منطق .. لأن الآمال الدنيوية لا ينبغي أن تكون غاياتنا أصلًا سواء نجحت أو أخفقت لأنها في كل الأحوال تفتقر إلى الحصانة من الألم والملل التي يتمتع بها الغيب .. لأن فكرة الألوهة المحمية في احتجابها وتفرض “الحياة والموت” قسرًا على “المخلوقات” هي الهزل في ذاته .. لذا توجب على الإله المناقض / أحمد عاكف / السارد الضمني أن يقابل هذه الألوهة بالتعالي المضاد .. أن يكتب روايته المناوئة في “احتجابه” الخاص.

“ولكن كيف يغفل عما يثور بنفسه أحيانا من الغضب والثورة؟ .. وكيف ينسى أنه تمنى لحظة لو تخلو الدنيا من الناس والشاب فيها طبعا؟! .. فهذه الخواطر وغيرها كانت ترهقه بالحزن وترديه في الوساوس. وفي آخر ليلة من ليالي اشتداد الحمى على الشاب، حلم أحمد حلما غريبا. وكان نام بعد جهد ناصب من عذاب الفكر، فرأى فيما يرى النائم أنه جالس على فراشه مرسلا الطرف إلى شرفة نوال في إشفاق ورجاء، فما يدري إلا ورشدي يقعد على كرسي بينه وبين النافذة مبتسما ابتسامته اللطيفة، فشعر باستحياء وحوّل ناظريه عن الشرفة إلى وجه أخيه، وأراد رشدي أن يسرِّي عنه بتظاهره بأنه لم يفطن لشيء فلم يفلح، ثم رآه ينتفخ رويدا رويدا حتى صار ككرة ضخمة فأنسته الدهشة ما كان فيه من استحياء، ثم أخذ منه العجب كل مأخذ حتى لم يتمالك نفسه من الصراخ إذ رأى شقيقه ـ وهو كالكرة الضخمة ـ يرتفع ببطء طائرا كأنما يتلمس سبيلا إلى الفضاء خلال النافذة، ولكن النافذة ضاقت عنه فانحشر بين جانبيها وحجب عن عينيه النور، وزايلته الدهشة وحل محلها الرعب، ولكن الفتى، جعل يضحك منه كالساخر بصوت مزعج أثار أعصابه فتولاه الغضب، وظن الشاب يسخر منه بخدعة فنهره ولكنه لم يعبأ به واستمر في ضحكه الساخر، ففزع أحمد إلى مكتبه وأتى بريشته وغرسها في بطنه فانقصفت فيها، واندفع من البطن بخار ملأ الحجرة بالغبار فأخذ جسم الفتى يتقلص بسرعة حتى عاد إلى حجمه الطبيعي ثم سقط عند قدميه، وجعل يتلوى كالسليم، ويعض من الألم قوائم الكرسي ويصرخ صراخا موجعا ويسعل حتى تجحظ عيناه ويسيل من محجريهما الدم، وهلع فؤاد أحمد وأطبق عليه رعب يضني ويميت، ثم .. ثم استيقظ عند ذاك، وأدرك أنه كان يحلم، رباه، تبا للأحلام، وما كاد يفيق من هول الرؤيا حتى بلغ مسمعيه صوت كالأنين يأتيه من عقب بابه المغلق، فأرهف السمع فتبين له أنه صوت أخيه وأنه حقا يتأوّه ويتوجع”. “14”

لعلها أكثر الصفحات أهمية  في إثبات قتل أحمد عاكف لأخيه الأصغر انتقامًا من الألوهة الغيبية التي يمثلها رشدي عاكف .. كأنها ذروة التصاعد التدريجي للاعتراف بأن السارد الضمني يكتب سرديته كشيطان يثأر من تجسيدات الألوهة المستعصية في صورة “متع ومكاسب دنيوية” يمتلكها هذا الأخ الأصغر .. كأنها فضح فعلي لما فعله أحمد عاكف برشدي عاكف في صورة “حلم” .. لماذا الآن؟ .. لأنها اللحظات التمهيدية لمرض رشدي عاكف .. لأن أحمد عاكف أراد أن يخبرنا لماذا سينتهي مرض رشدي عاكف بموته .. رسم السارد الضمني في هذا الحلم وبواسطة الراوي العليم ما يشبه لوحة تلخيصية لـ “خان الخليلي”: رشدي عاكف يجلس على “عرشه” بسمات الخالق الكوني حائلًا بين أحمد عاكف وشرفة نوال .. بين “المخلوق” الفاني، وبهجته الأرضية البديلة لألوهته المفقودة .. يجلس رشدي عاكف على العرش كـ “نموذج” للإله الغيبي، متسمًا بصفاته “الدينية” الشائعة: العلم بالأسرار، العطف، المكر، التكبر، السمو “ككرة ضخمة تلتمس سبيلًا إلى الفضاء” .. نلاحظ هنا الدلالة الأنثوية / الأمومية للشكل الكروي وارتباطها بالثأر من الأب كما من المهم للغاية أيضًا أن نتذكر الآن الصفات المشتركة بين رشدي عاكف وأمه كما وصفها “الراوي العليم” .. الكرة التي “يخترقها” سن الريشة / القضيب الكتابي .. وكأن الثأر ينطوي أيضًا على رغبة مثلية تمتهن الهدف الجنسي “رشدي عاكف” وبما يحمله من خواص الألوهة الكونية عقابًا له على علاقته بنوال التي تتحوّل في تلك اللحظات إلى أمٍ غائبة ..  يكتسب رشدي عاكف في هذه اللحظة أبوة مضاعفة .. “أبوة رمزية” تتضمن بالضرورة “الأب الواقعي” لأحمد عاكف والذي كان عاملًا أساسيًا في إفساد حياته وقتل آماله ..  كأن الحلم يصوّر استمناءً خجولًا لأحمد عاكف أمام أبيه الذي يُغيّب نوال، يمنعها من الحضور في الحلم، يمتلكها مهددًا ابنه بالخصاء، لكن ذلك الخصاء / انقصاف الريشة يصبح ثمنًا للذة، لترويض الألم، لقتل الأب الذي يتم التماهي معه بواسطة “الهلع والرعب” .. يتخذ الأب هنا ذلك الشكل الأمومي من أجل انتهاكه بينما “يحلق عاليًا”.. صورة الخالق ترتفع نحو غيبيتها .. نحو “عرش الخالق الأصلي المحتجب” لكي ينكشف ذلك التوحد الذي يتأسس عليه غضب أحمد عاكف .. التوحد بين النموذج العسير وخالقه .. النموذج الذي بالرغم من كونه عالقًا في إنسانيته؛ إلا أنه ـ كصورة للألوهة الكونية ـ يمنع الأمل عن السارد الضمني في “ملامسة” ألوهته على الأقل “حجب عن عينيه النور” .. التحوّل من الاستحياء إلى الدهشة إلى الرعب هنا هو التحوّل من الترفع إلى عدم الفهم إلى التيقن بالمصير .. من إدراك أحمد عاكف بأن رغباته أقل مما يليق به إلى عدم تصديقه لبشريته المهزومة إلى التأكد من أن الألوهة التي يمثل رشدي عاكف صورتها قد أقرت فنائه بخلودها .. الصورة التي تسخر من فنائه .. نلاحظ أمرًا هامًا في وصف الراوي العليم لحلم أحمد عاكف .. “جعل يضحك منه كالساخر بصوت مزعج”، “وظن الشاب يسخر منه بخدعة فنهره”، “لكنه لم يعبأ به واستمر في ضحكه الساخر” .. نلاحظ التغيّر في طبيعة “السخرية” من “كالساخر” إلى “ظنه يسخر” إلى “ضحكه الساخر” .. هذا التحوّل من الإنكار إلى الشك إلى التأكيد ليس فقط تعبيرًا فقط عن التحوّل من “الترفع إلى عدم الفهم إلى التيقن بالمصير”، ولكنها أيضًا المسافة المصطنعة بين الراوي العليم والسارد الضمني التي يتم تقليصها بالتدريج للكشف غير المباشر عن التطابق بينهما .. ينتقم أحمد عاكف من النموذج الإلهي لأخيه بغرس “ريشة” في جسده .. يعلن السارد الضمني أنه ينتقم بالكتابة .. أن “خان الخليلي” هي روايته، وأنه هو من جعل رشدي عاكف يموت .. أنه بهذا الانتقام يحاول تحرير رشدي عاكف من عدائيته “كنموذج للألوهة الغيبية” بإعادته كإنسان / أخ أصغر، لكنه أخ مريض، محتضر (يحجب عنه الضوء ـ يثبّت ظلامه) .. ريشة الكتابة التي انقصفت، لأنها بالرغم من كونها قد أثبتت إنسانية هذه الصورة الإلهية بأن جعلتها تتألم وتحتضر وتموت، إلا أنها لم تضع حدًا لخلود “الألوهة” الغيبية نفسها .. أثبتت أن الثأر من “نماذج” الألوهة يؤكد خلودها بقدر ما يوطد العصيان على قدرها والسخرية من اختبائها .. يعيد أحمد عاكف أخاه إلى بشريته “الناقصة”، مجردًا من ألوهته الكونية .. يعيده إلى حقيقته: ضئيلًا، مصنوعًا من “الغبار” و”الدم”، ويصرخ ألمًا كإنسان عادي، كإله معطل، كشيطان منبوذ من الملكوت الغيبي .. كأحمد عاكف .. أحمد عاكف الذي أصابه الهلع وأضناه الرعب المميت لأنه اضطر لفعل ذلك في أخيه الذي “يحبه ويشفق عليه” .. لأن ما فعله في رشدي عاكف لن يعيد إليه ألوهته المفقودة .. لأن “المقتول” ليس صورة “القاتل” البشرية فحسب، ولكنه يمثل الأبوة الكونية أيضًا .. لأن القاتل “أحمد عاكف” عليه أن يحافظ على طيف هذه الأبوة الكونية ـ مع بداهة الانتقام ـ لأنها مازالت تشمل احتمالًا ـ ولو ميئوسًا من تحققه ـ لبلوغه أبوته المفقودة المستقرة في غموضها (استرداد قاتل الأب لألوهته الغيبية) وهو ما ينجم عنه الشعور بالذنب والرغبة في تلقي الجزاء: “الهلع والرعب” كما سبق وأشرت .. ينطوي الأب الكوني على تلك الألوهة الفردية المفقودة أي الأصل الإلهي الغيبي المقموع والمؤجل للإنسان، المتنكر قسرًا في المهادنة البشرية المتربصة والراجية لاسترداد ألوهتها، لكي يواري عصيانه وانتقامه كشيطان .. لننتبه إلى استخدام الراوي العليم فعل “غرس” بدلًا من “غرز” في وصف اختراق ريشة أحمد عاكف لأخيه رشدي .. نحن إزاء “توطيد” وليس مجرد “إثقاب” .. الغرس ليس ترسيخًا للانتقام فحسب، ولكنه ترسيخًا للألوهة المعطلة التي يفتقدها أحمد عاكف في قلب الألوهة الكونية .. ترسيخًا للشيطان في عمق ما نُبذ منه، أي مما ينتمي إليه ويكوّنه .. الندم ليس فضيلة في حد ذاته إذن، ولكنه اتساق وإيمان وتسامح مع الفكرة الألوهية المجهولة الكامنة في إنسانية المريض، والقتل هنا يُعد تسوية (أحمي وجود ألوهتي الغائبة وفي الوقت نفسه أنتقم من عدم تحققها) .. كأن أحمد عاكف يقتل / يثأر بالكتابة من ذلك الذي يُسبب له الشعور بالذنب، أي ما يتجاوز مصدر الشعور بالذنب ويشمله في نفس الوقت “الألوهة الكونية” .. أحمد عاكف الذي كان استيقاظه من الحلم على تأوهات أخيه الأصغر، كأنه استمرار للحلم .. كأنه هكذا يستبعد الفاصل بين الحلم والواقع .. كانت تأوهات رشدي عاكف في الواقع مواصلة لتأوهاته الناجمة عن ما فعله به أحمد عاكف في الحلم.

*مقاطع من كتاب “حيلة السارد الضمني” / يصدر قريبًا.

الهوامش:

1ـ نظرية السرد، من وجهة النظر إلى التبئير / جيرار جينيت ـ واين بوث ـ بوريس أوسبنسكي ـ فرانسواز ف ـ روسوم غيون ـ كريستيان أنجلي ـ جان إيرمان / ترجمة: ناجي مصطفى / منشورات الحوار الأكاديمي والجامعي، الطبعة الأولى 1989 ص16.

2ـ السابق ص49.

3ـ السابق ص17.

4 ـ خان الخليلي / نجيب محفوظ ـ دار الشروق، الطبعة السادسة 2014 ص20،21

5ـ السابق ص98

6ـ السابق ص106

7ـ السابق ص107

8ـ السابق ص108

9ـ السابق ص108،109

10ـ السابق ص109

11ـ السابق ص109

12ـ السابق ص109، 110

13ـ السابق ص148

14ـ السابق ص174، 175

مجلة “الناقد” ـ العدد الثالث / يوليو 2024

تحميل العدد

الناقد 3.pdf - Google Drive

الأحد، 11 أغسطس 2024

المنسيون بين ماءين: ما لا يرويه الغرق

للفقد أسطورته التي تتطلب مقاومة مضنية للنسيان. الأسطورة لا تعني الانغماس في ما "فُقد" وإنما في ما كان يبطنه. في أطيافه الخفية حين كان متعيّنًا. تعني الاستغراق في ما كان يتعمّد تغييبه، وأصبح عند الفقد حاضرًا بالكيفية التي ندركها عن "حضور الموت". هكذا يصبح الفقد بأثر رجعي جوهرًا لما كنا نعتقد امتلاكه. يصبح النسيان حافزًا جماليًا لـ "خلق الماضي"، أي إكسابه ديمومة خيالية تراوغ الاستقرار.

"حمارها المحمّل بالسلال يتبعها، يكاد يلتصق بظهرها، والحبل متروك يبتل بالطين. بعينيها تبحث عن شيء، تشعر بتوترها، بل بجزعها، وبالتصاق الشفتين المبيضّتين، تلعقهما محاولة ترطيبهما. شعرها مطويّ أسفل عمامة قماشية لفّتها على عجل، وجهها المخفيّ بوشاح شفاف، نحو الجنوب الشرقي، تديره لتتأكد أن لا أحد في إثرها".

في رواية "المنسيون بين ماءين" للكاتبة البحرينية ليلى المطوّع والصادرة مؤخرًا عن دار رشم يمكننا التمعن في ماء البحر وماء الينابيع ضمن تنويعات الفقد التي تصبح خلالها "الماهية" احتمالات متناثرة، في مجابهة النسيان يدبّر كل احتمال خلاصًا ويقوّضه، بحيث لا يمكن مخاطبة الحياة بوصفها "موضوعًا للتأمل" إلا من خلال صيرورة التجاوز هذه. بواسطة تخطي ما كان يبدو يقينًا عن الأصل والمصير. الماء إذن هو تعددية معرفية وذلك لا يوطد سوى قابليتها للتفكك، بالطريقة نفسها التي تنطوي تحيزاتنا ومحاذيرنا وتصوراتنا عن "النجاة" على دوافع هدمها.

"ولكن لم يستبشروا حتى سمعوا خريره وهو ينساب. تدفق الماء، فهلل الناس فرحًا. عاد يضخ من النبع، فتراكضت العذراوات يغنين للماء خائفات من توهانه. يسترشد بصوتهن، فيلحقهن، ويعبر الممرات المائية. كل صبية تجري على حافة الساب، تقوده إلى حقل قبيلتها، فيرويها".

تبدو "العلاقات التراجيدية" في رواية "المنسيون بين ماءين" كأنها مبررات متباينة لا لعرض الوقائع أو إعادة صياغتها وإنما لتحفيز استفهاماتها اعتمادًا على ما تتسم به لغة ليلى المطوّع من تكثيف وخفوت وحدة، ما يتسق بعفوية مع الأحوال المتبدلة لحركة الماء في الرواية ـ لننتبه إلى تكنيك "المد والجزر" سواء بالتلاحق أو التمهل في المراوحة المتبعثرة بين كتابة اللحظة واستدعاء ذاكرتها ـ وكأن الماء يسرد نفسه عبر إيماءات الكاتبة، وذلك تحديدًا ما يمنح أسلوبها نبرات شرود مختلفة، كأنما لكل كلمة وعبارة وفراغ عزلة مختلسة، يتم تفحص الأرق بالفقد من داخلها. تجتاح هذه الاستفهامات أقنعة التاريخ والخلود والسلطة والأمومة والقتل والجمال والانتقام والشهوة والكراهية والتيه والخداع. ذلك ما ينتج الصراع بين الخطابات السردية في الرواية، بما يتعدّى فكرة "اقتفاء الأثر" أو رصد التداخل بين أصوات الماضي والحاضر، إلى مجادلة ذلك الأثر، ومن ثمّ تجريده من هويته المترفعة.

"تعاود الخرنق الجلوس قرب طرفة، وتشرب من الكأس الفضية شرابًا باردًا لا يطفئ غضبها. تسمع من خلفها حفيف سعف النخيل التي تحركها الرياح الشمالية بهدوء. تتأمله، وهو في ظل الأشجار، جميل الملامح، ذا كبرياء. الرجل الذي لم تُجّز ناصية رأسه قط، ولم يُذل عند قوم، وفي الترحال يرسل الرجال زوجاتهم إليه آملين الولد منه".

يمثل "المكان" في الرواية متاهة للحقيقة، فهو لا يخضع للضديات المروّضة، وإنما ينتج أشباحًا للمعاني التي لم تتوقف عن تعريفه على مدار الزمن. تحرضه الرواية على كشف النزاعات المضمرة بين الأطر المرجعية التي شيّدت أبعاده ودعائمه الأسطورية والواقعية، وكأن الذاكرة تتحوّل إلى قرين متسلط، أكثر دهاءً من موضوع "الهوية" التي تبدو كمحور للخطابات المتصارعة، ذلك لأن هذه الذاكرة أشبه بلاهوت يجري تحطيمه روائيًا استنادًا إلى كونه شبقًا فرديًا بالأساس، يكتسب "جماعيته" بفضل التغاضي المتواصل عن الثغرات العالقة في عمق تلك الفردية التي تسعى لحمايته من الشك.

"حين رأى الناس فرحتها، تركوا ما يشغلهم، وتبعوها لعلمهم أن اللحظة حانت. ساروا خلف المرتزق المستعرض سيفه ودرعه، المعلق على رقبة حصانه جدائل من أطاح بهم، واجتز نواصي رؤوسهم. سار بين الأحياء، ليشيع الخير، فيستعد طرفة له، ولا يباغته، فيلصق به العار".

لا ينفصل الانشغال التوثيقي عن السردي في الرواية بل تحوّلهما ليلى المطوّع إلى مزيج رمزي يعارض ثبات الدلالة، توحد خاص يستنطق الشاعرية المستترة في تاريخ المحكي لا باعتبارها نمطًا شكليًا وإنما كسيرة للماء، أي اللعبة الجامحة لما تحاول "السيرة" أن تصمت عنه حيث "اليابسة" ليست "الأمان" وإنما تعطيلًا للعب الذي يمارسه الماء.

"تحدّق إلى الموج المرتطم بساحل الجزيرة الرملية. ستتجه نحو الشمال، مثلما عبر صفوان البحر مع القوافل قادمًا من الصحراء الكبرى في الغرب. الموج يرتفع ويهبط. تعلمت قراءة الموج من زاويته المرتفعة. تتأكد من زوايا القمم، إن كانت مسننة، حادة، فالبحر عميق، ولكنها كانت كالتلال الصغيرة المندفعة. لابد أن البحر ضحل هنا، والأرض قريبة من السطح".

يحضر "الصرع" في الرواية كإشارة مبكرة إلى "الأطياف الخفية" للفقد. عينا البصيرة الطفولية في تحديقها إلى الوجوه الغائمة والمحتجبة عن واقع يتم تمزيق أقنعته من خلال "النوبة"، حيث لا يعيد الماء هذا الواقع كما كان، وإنما يحفر بصمة "الخيال" في طفولة الذات لتبقيها منذورة لمقاومة النسيان، أي الاجتياح المنفلت لأغواره.

"في تلك الليلة عاودتني نوبة الصرع، لأول مرة، بعد غيابها عن حياتي مع آخر مراحل الطفولة، سقطت على أرض المطبخ، أنتفض. دس زوجي أيوب منشفة المطبخ في فمي. لم أفق إلا وأنا في المستشفى".

تزيح الكتابة تلك الحدود التي يبدو أن الماء يتوقف عندها، ومن هنا يبدو "الغوص" مخاتلة للزمن، مناوشة لأعراف وتقاليد الحكايات القديمة، توظيفًا للفجوات بوصفها "أرواحًا ضالة" تكمن في مفترق الطرق الذي يؤلف الموروثات. هنا لا تٌطرح الإجابات المتجذرة إلا كـ "استعمال للمرويات"، تضليل البداهة التأويلية وإن تدثرت بالتحريم، حيث لا يُقارب أي "نص تأسيسي" إلا من حيث كونه بنية انتهاك، موضعًا للاشتباك بين المتناقضات، أو بمعنى آخر "فضاءً لإغراق العالم في ما يطمسه المجاز".  

"تشعر بشيء يفلت منها غائصًا، تشرع مرتعبة تبحث بيديها عنه، تراه معلقًا بالحبل السري، يطفو، فيبكي شاهقًا لافطًا الماء المالح. يسمع البحر صوته، يهدأ الموج، ويرق له. وهي كالمجنونة تبحث عنه، تشعر بصدرها الخاوي، وبالشوق لتعانق جنينها، وباتصاله بجسدها وهو يسبح في البحر مرتبطًا بها بحبل سري وبالموج هو يحركه فيحرك منطقة في داخلها، في أحشائها. يحمله برفق، يدفعه إلى ذراعيها المفتوحتين، وشفتاها تحدثانه، فتهمس ولا في المكان سواهما: "هاته يا بحر .. هاته".

هل يمكن ـ تحت وطأة القهر الناجم عن مراقبة "الانقراض" ـ أن تُقرأ "المنسيون بين ماءين" كتقرير ـ يعتمد بشكل أخاذ على تمرير السرديات كل منها عبر الأخرى ـ هل يمكن أن تُقرأ كتقرير عن تعويض أو استدراك ما يتجلى كوعي بالحسرة إزاء النهايات الحزينة لكل ما أصبح وعدًا ـ رغم حميميته البدائية ـ مقبضًا ومخيفًا؟. قربان تقدمه ليلى المطوّع تجاه المخيلة لتصبح هناك "حكاية أصلية" لا تراهن على البناء وإنما على الخلخلة، ومن ثمّ تصبح الرواية في حد ذاتها حلمًا مناقضًا للفقد، أكثر واقعية مما "حدث بالفعل"؟

"أقاوم، أصرخ متوجعة، جلدي ينسلخ من الماء حين أحاول رفع جسدي، يأتيني رجل أمن سمع صوت صراخي، أدهش من وجودي داخل العين. صرخ غاضبًا وطردني من الموقع، عند ابتعادي سمعته يقول لزميله: "هذا ما كان ينقصنا، مشعوذة". حين وصلت إلى سيارتي، انهرت من البكاء، إحساسي بأني أمسكتها حيّ، واقعي. انتبهت. كنت أغلق قبضتي بقوة. فتحتها، عثرت على خصلة من شعر بنيّ فاتح، إنها خصلة من شعر صغيرتي. قربتها من أنفي أشتمّها، أقبّلها".

إن ذلك هو طقس "الأسطورة الذاتية" التي تجابه النسيان بطريقتها، بإدراك صارم أن الأمر لا يتعلق بصورة قاصرة بما هو متعيّن، حتى وإن كانت الشخصيات من لحم ودم، ذلك لأن المحسوس هو الفقد نفسه، وما الكفاح سرديًا ضد الأطياف الخفية لهذا الفقد "القبض على اللاتجانس في الحكايات" هو "الامتلاك" بكيفية أو بأخرى. اصطياد السحر الذي تتنكر بأوهامه المآسي. يتعلق الأمر بالموت الشخصي الذي يفرض على العابر ـ حين يقرر ذلك ـ ألا تٌدفن رسائله إلى الماضي مع جسده. أن تطعم جنيات البحر بكل التوتر الذي يسكن تلويحاتك إلى الفناء حيث لا شيء يبقى وافيًا لما أراد أن يكونه، ولا شيء يبقى محصنًا من الاستبدال والمحو.

أخبار الأدب

4 أغسطس 2024

افتتاحية العدد الثالث من مجلة "الناقد"

يمثل كتاب "القصة القصيرة" للناقد الإنجليزي آيان رايد النموذج المناقض لكتاب "الصوت المنفرد" للكاتب والناقد الإيرلندي فرانك أوكونور والذي تناولته في المقال السابق .. كنت قد حصلت على الكتابين في نفس المساء ـ كما سبق وذكرت ـ من معرض الكتاب بالمنصورة عام 1993، وحين انتهيت من قراءتهما أدركت الفرق بين "النصية الحميمية" للنقد الأدبي كما عند أوكونور، و"العلمية الجافة" كما لدى آيان رايد، مع أهمية التعريفات والمصطلحات الدقيقة التي تضمنها كتابه خصوصًا بالنسبة لكاتب يخطو خطواته الأولى في كتابة القصة القصيرة ونقدها.

صدر كتاب "القصة القصيرة" لآيان رايد عام 1990 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بترجمة د. منى مؤنس واشتملت فصوله على مناقشة لتعريف القصة القصيرة، وعرض لتاريخ القصة القصيرة من العصر القديم إلى العصر الحديث، وتناول لأشكال أدبية تابعة للقصة القصيرة، ومقارنة بين القصة القصيرة والأنواع الأخرى من الكتابات النثرية وكذلك شرح لخصائص القصة القصيرة .. من ضمن ما لفت انتباهي في الكتاب أن "الصوت المنفرد" لفرانك أكونور كان من المصادر التي اعتمد عليها آيان رايد، وبالرغم من أن "الصوت المنفرد" كان يجسّد ـ وبشكل ساحر ـ ماهية عمل الناقد بالنسبة لي إلا أنني أدركت أن "اللعب الشاعري" ليس ضامنًا للتخلص من غريزة "الحكم الأبوي" على النصوص الأدبية، والدليل على ذلك أنني مع الاستغراق التام في الحديث الفاتن لفرانك أوكونور عن تاريخ القصة القصيرة كنت متيقظًا برفض عفوي "للانتقادات الإلهية" التي كان يطلقها أوكونور تجاه بعض النصوص التي يحللها ـ كما فعل مع موباسان وهمنجواي وكاثرين مانسفيلد مثلًا ـ حتى وإن لم أكن قد قرأتها من قبل، ولكنني كنت أمتلك في تلك الفترة المبكرة ما يمكن اعتباره وعيًا شاحبًا وأصيلًا، بأن "الحميمية النقدية" لا تعطيك الحق في أن تعيّن نفسك "شرطي القصة القصيرة".
في المقابل فإن الرصانة النقدية التي يمثلها آيان رايد لا تعني مطلقًا حتمية "الحضور الأبوي" بكل ما يتسم به من تحيزات عقابية مطلقة، ولهذا فإن جوهر "الناقد" كما تشكّل في بصيرتي منذ البداية ـ ومثلما أشرت في مقالي السابق ـ يمزج بين اللعب الحميمي وتفكيك "الحكم الإلهي" على النصوص، أي أنه أبعد ما يكون عن "الوصاية" التي لا تقوى سوى على محاولة إخضاع "الكتابة" / الحياة والموت إلى مجرد "وجهة نظر"، أو "زاوية رؤية" يتوهم صاحبها أنها "الصواب المطلق للعالم" وبالتالي لا يمكنه تحمّل وجود ما يناوئها.
تحميل العدد

شذرات الألوهة المضادة (1)


 (1)

لا تنقاد كلمة “معجزة”، خصوصًا في سياقها الغيبي المحكوم بالرجاء واليأس، إلا نحو تلك الرعشة الشاحبة، الكامنة في عمق “الإيمان” .. الجرح الطفولي الذي أخفاه اليقين، وبدونه لن يمكن “للمعجزة” ـ وإن تحققت صورتها فجأة كقناع مقدس ـ أن تقوّض “سرابها اللغوي” في لحظة مؤجلة .. أن تحصد نشوة موتها .. كأن هذا الجرح المعاند ليس إلا يقينًا أصليًا مناقضًا، أكثر ولاءً وتنكيلًا من أي سر آخر، يمور في جوف شيطان أعزل.

(2)

يتأمل المرء “الموت” فقط من كون “الحياة” في ذاتها معضلة بلا حل؛ على الأقل لا تضع حدًا لنهايتها! .. الفناء ـ بالضرورة ـ ذلك الشبح الذي شكّلت بداهته تأمل الموت .. العطب المستقر في خبيئة كل وعد حاسم ومثالي لما بعد الموت .. يتأمل المرء “الموت” فقط من كونه وحيدًا؛ لا يدفع أحد غيره ثمن محاولاته الفاشلة لسرقة “الخلود” .. وحده تتبادله المصائد، حزنه غير قابل للقسمة، وعمائه لا يتسع لضرير آخر .. لكنها ليست محاولات فاشلة وحسب .. هي تمارين مهلكة على التحلي الكامل بالشجاعة .. الإدراك المُرجأ الذي يتجاوز تمضية الوقت قسرًا تحت مُسمّى “العيش” .. إدراك أن الأمر لا يتعلق بـ “الخلود” بقدر التحديق إلى “اللص الكوني” الذي سرق ألوهتك .. من يتعيّن عليه حقًا أن يدفع ثمن فنائك، وكيف ستجعله يقوم بذلك.

(3)

في نظرتك للمرآة تكمن كل السماوات التي لم تنجح عيون البشر كافة في إسقاطها .. تنطوي كل الليالي التي بقي صمتها الأزلي حارسًا للحكمة وهي تزيّن الأرض بأشلاء الولادة .. لكنها مع ذلك لابد أن تكون نظرتك وحدك .. اللحظة المصلوبة في العدم، التي لا تخص أحدًا غيرك .. ليس لأن ما تراه هو جثتك فحسب، بل لأن هذا الخرس الذي يعتني بها يواري كلماتك التي استعملتها في إسقاط السماوات .. في التمثيل بطمأنينة الليالي .. الكلمات التي راوغت مرآتك لنتزع بواسطتها كل الوجوه التي شكلت ملامحك وتخلق من هزالها وجه انتقامك من الحياة والموت .. وجه غير مرئي، ولا يطابق ملامح رجيم آخر.

(4)

لا تسأل الآخرين سؤالُا لا تعرف إجابته  .. ذلك لأن إجاباتهم ـ وإن بدت صحيحة ـ فهي لا تعدو جذورًا للزمن .. إجاباتك وحدها على ما لا تعلمه، ما لا تستوعبه، وما لا تصدقه هي ما يقتلع تلك الجذور ليشيّد بها متاهة عقابية للزمن .. إجابتك ـ بالطبع ـ لا يجب أن تكون إجابة، وإنما نضالًا ضد “الصواب” الذي يبرر العالم .. كفاح يسبق الوقت ويسابقه .. كأنها ذخيرة عصيان لزم عليها أن تخلق بأثر رجعي تفاصيل الأورجازم الأول.

(5)

جسدك ليس إلا حجة دامغة لكي تحدّق إلى التعاسة .. ربما ستفهم هذه الوظيفة بالغة الأهمية للجسد متأخرًا، لكنك ستدرك أيضًا أنه لا شيء يحدث مبكرًا ولا بعد فوات الأوان .. هناك شيء يحدث فقط، قد يتمادى في الإيلام حين يخبرك أحدهم فجأة أنه يحب الحياة ـ رغم ما هي عليه ـ ولا يريد أن يموت “ما سيحدث حتمًا” .. قد يتمادى هذا الشيء في الإيلام حين يبتسم أحدهم وهو يحدّثك عن فُحش الأمل .. ما أهمية أن يكون للجسد هذه الوظيفة؟ .. التحديق إلى التعاسة ثأر من يطارد أصلها .. من لا تخدعه أكباش فداء الغيب .. من قرر ألا يكون عابرًا فحسب، بل أن يرد مهانة وجوده بأحسن منها ..  ما يشكّل التحديق إلى التعاسة: الذهول .. الرجفة .. الخوف؛ يصبح ـ رفقة موسيقى التهكم الملائِمة ـ قنصًا للصنم الذي يجهله الجميع.

(6)

لو أتاح لك الحلم أن تُكمِم كل الأفواه، وتُقيِّد كل الأيدي والأقدام، أي أن تبطل عدوانية “الآخر” فقط لكي تتمكن ـ للمرة الأولى دون تهديد ـ أن تخبره بأسرار الأذى جميعها الذي أصابك به، وعن اللحظات كافة التي أهدرتها من عمرك وكنت مرغمًا خلالها على رفقته لمجرد أن الوحدة وقتئذ كانت أصعب مما يمكنك تحمّله؛ لو أتاح لك الحلم ذلك فإنه لن يُجدي نفعًا، بالعكس، سيكون الأمر أكثر قسوة حين تبصر عينيه تضحكان في صمت .. نعم؛ ستترك عينيه مفتوحتين وأنت تعمل على تعطيل “إنسانيته” مؤقتًا، لأنك ـ بالطبع ـ ستريد أن ترى أثر ما تحكيه في نظرة الدوبلير .. لا مفر إذن ـ لو أتاح لك الحلم ذلك ـ من أن تعصب عينيه أولًا، ولتوقن أكثر بأن أسرار الأذى واللحظات المهدرة ليست إلا بصمات قاتل لن يُعثر عليه أبدًا.  

(7)

ربما الأشد مرارة من اليأس هو عدم الثقة في أن ما تستعمله من صمت لم يجرّبه متسول آخر .. تريد صمتًا لم يخطر في ذهن العالم من قبل ومن ثمّ لا يُفضي إلى هزيمة كلاسيكية .. رغم أنك تعلم جيدًا بأن عظامك المحترقة هي من ترثي الشتاء .. أن النجوم الصغيرة التي انطفأت في قلبك هي من تحوم حول قبر البرودة القديمة .. لماذا تظن دائمًا أن اللغة ـ مهما فعلت ـ لا تفرّق بين الشرفات التي تبددت رائحة المطر من فوق أبوابها المغلقة؟ .. لأن كلماتك ـ كالعادة ـ لم تنقذ أولئك الذين كانت الغفلة تطوي أجسادهم وراء تلك الشرفات .. لم تعوّض الرجاء الذي كان يثقل ابتساماتهم قبل أن تخطفها “الرحمة”! .. لكن ذلك تحديدًا ما يجعلها مأساتك أنت .. لأنك لا تنتظر شيئًا من اللغة .. تسخر من توقعاتها .. الانتقام الذي لا يتكرر بنفس الطريقة.   

اللوحة: سقوط إبليس – جوستاف دوريه