الأحد، 10 يناير 2021

هامش الرجل الذي ربما يكون طبيباً نفسياً، أو مونولجست في كازينوهات عماد الدين

لم أعد واثقاً هل من الصواب استفزازه بكلمات كالتي قالها القديس (أوغسطين) أن الإنسان يتذكر ذاته، ويعقل ذاته، ويحب ذاته، وأن هذه هي صورة الثالوث في الطبيعة الإنسانية، كأن الإنسان يحتوي صورة الله .. ربما يؤدي هذا إلى نتائج عكسية غير متوقعة؛ فيطلب مني ـ مثلاً ـ تخيّل الحياة الزوجية بين الطالب الجامعي الذي اشتعلت النار في حجرة نومه فـ (مشى) نحو مطفأة الحريق، والمرأة التي فقدت قلمها المفضّل فظلت في حالة عصبية شديدة لأيام متواصلة.

يعقد صلات بين أشياء غريبة، وأنا أحاول مجاراته في ذلك .. يقول أن لوحات مراكب الصيد في القرون الوسطى تزيد من كراهيتك لكل العوامل التي منعت تحوّلك إلى بحّار يوثّق يومياته مع الأساطير، لكنها في نفس الوقت تحميك من الغرق، ومن ضياع اليوميات قبل أن يقرأها أحد .. أرد عليه بأنني ظللت أتحاشى مشاهدة فيلم ( eAmeli) لأن شيئا غامضاً، يبعث على القلق في الملامح الطفولية، والنظرة البريئة لـ (أودري تاتو) إلى أن أجبرت نفسي على الجلوس أمامه؛ فعرفت أنني كنت محقاً في التخوّف مما سيصيبني في النهاية .. ما حلمت أن أكونه، وما تمنيت أن أفعله في الخيال، وفي الكتابة أيضاً كانت هي عليه، وفعلته في الفيلم، حتى أنني جرّبت ـ ولا أتذكر تحديداً كيف ـ أن أكون (نينو)، وأجمع الصور الممزقة من الشوارع بشكل أو بآخر لكنني فشلت.

لاشك أنه مريض ابن كلب جداً لأنه رد عليّ بأن كل كتابة مثلما تُقدم تعويضاً، وأكثر، فإنها أيضاً تثبّت في نفس الوقت استحالته، بل وعدم إمكانية حيازة ما امتلكه غيرك من تعويض على نفس خسارتك ، لذا فأنا ـ بحسب كلامه ـ لم أحصل على التجربة، وكذلك على كافة التوابع المعزّية لفقداني لها .. لكنني أقول له أن (Amelie) خسرت أن تكون عادية أيضاً، ولو أنني لا أعرف ما هي المعايير الجازمة للعادي، وما هي الفروق الراسخة التي تجعله نقيضاً لغرابة الأطوار.

هناك ملاحظات، وأفكار أحرص تماماً على تدوينها، حتى لو تأخر التدوين، وتم إرجاؤه إلى وقت قادم .. تظل في ذهني، أحاول حمايتها من النسيان، ولا أهدأ إلا بعد استعادتها لو سقطت في ظلامه .. لكن هناك ملاحظات، وأفكار أخرى لا أهتم بتدوينها، وأعتمد على قوة ذاكرتي ـ حتى مع الشك في تلك القوة ـ لاسترجاعها ..  ليس الأمر راجعاً للتعمد، وإنما بسبب الكسل، لكن في حقيقة الأمر فطبيعة الملاحظات، والأفكار هي التي تفرض ـ ضمنياً، ودون مبرر واضح ـ هل يجب الحرص على تدوينها، أم ترك مصيرها لحالة الذاكرة .. ملاحظات، وأفكار تعرف وحدها الطريقة التي تلائمها في الوجود داخلك .. ثم أن هناك ملاحظات، وأفكار عليها أن تُنسى .. تقول لنفسك: سأدوّنها فيما بعد، لكنك ستعجز عن تذكرها، وستضيع، لأن هذا ما ينبغي أن تلاقيه وفقاً لجوهر خفي يخصها .. ربما لأنها تمتلك مشيئة للعودة إليك في صورة أخرى، وربما لأن كل الملاحظات، والأفكار تتلبس بعضها، وربما لأنه لا يوجد اختلاف بين فكرة قديمة تضيع، وفكرة جديدة تطرأ، ويتم تدوينها.

هنا ـ مثلما تعوّد دون أي تمهيد ـ يبدأ في الكلام عن الفن الإغريقي، والهمجية، والقوطية، والأديرة، والكاتدرائيات، والقصور الملكية، والحكايات الشعبية، والشائعات.

أنظر إليه، وهو مستغرق بفرحٍ، وفزعٍ في حديثه فأرى أمامي ساحرة، عارية تماماً، يتخد شعرها، ومكياجها، وطلاء أظافرها الأسود رهبة السنوات الأولى من القرن العشرين في فرنسا .. أمامها بلّورة ترى فيها ثلجاً يتساقط فوق بيت ريفي، به مدفأة، يجلس على مائدة طعام بجوارها امرأة، ورجل .. يتناولان العشاء، ويشربان النبيذ الأحمر، ويستمعان إلى أغان قديمة، ويرقصان، بينما التاريخ على الحائط يشير إلى بداية القرن الواحد والعشرين.

أسمعه يسألني فجأة إذا كنت قد جربت من قبل الاستماع إلى (فاجنر) لحظة هبوب الأذان من ميكروفونات الجوامع الملاصقة للعيادة.

من رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” ـ دار الحضارة 2014