تمثل مجموعة "أخبار الرازي" واحدة من الكتابات القليلة
والنادرة، المنفصلة فعليًا عن الطغيان المتواصل من التراكمات المتشابهة في القصة
العربية .. مجموعة لا تقدم نفسها فحسب ككتابة معادية للسياقات السردية السائدة بل
وتكشف بالضرورة أيضًا عما تعنيه هيمنة التكدسات المسالمة التي تكاد تكون نسخًا من
بعضها داخل المنجز القصصي بشكل عام .. هي تفضح بصورة بديهية كيف تُستخدم صفات مثل
"مختلف" و"مفارق" على نحو مجاني وباستسهال عفوي لتمييز كتابات
نمطية وأليفة بالمقارنة بمجموعة مثل "أخبار الرازي" الصادرة عن منشورات
الجمل.
"لست مجنونًا، وإن كنت أود أن أكون كذلك. كنت المعتوه الوحيد
الذي درس علم النفس ظنًا منه أنه سيصبح مجنونًا. وها أنا اليوم، نفساني، أي على
النقيض تمامًا من حلمي".
في هذه القصص القصيرة سيحاول "أيمن الدبوسي" أن يحقق حلمه
المهدر .. أن يدخل إلى الجنون من بابه الهزلي؛ أي من باب الكفاح لمعالجته .. أن
تكون الكتابة هي الواقع السري الجنوني البديل الذي يُحتمل أن يكون تعويضيًا بطريقة
ما .. ليس الحلم أن يتحوّل إلى مجنون فقط، بل أن يكون هذا الجنون هو العالم نفسه
.. الجنون الذي يصبح ما قبل البداية وما بعد النهاية، وبالتالي يصير باعتباره
الحياة والموت شيئًا آخر، بلا تعريف أو هوية، أو حتى احتمال للخلاص .. يصير غريزة
هازئة أصلية لا تنفلت منها التفاصيل كافة.. جريمة موازية شاملة، تخلق الوجود،
وتنهيه ثم تكرر ذلك طوال الوقت، كل مرة بصورة مختلفة لا تنطوي سوى على ما هو أكبر
من الرجاء واليأس .. السخرية .. لعبة الهدم والبناء .. إعادة التبادل والتركيب
والحفر المستمر للممرات المقموعة بين جميع العناصر، وداخل كل فكرة عن الكينونة ..
إنه اقتفاء أثر "الضراط" كجوهر للكون.
"كلما قابلت محمد إلا وكان يُسر لي بحكمة، وكنت أدفع له لقاء
ذلك، فيشكرني وينصرف إلى الكافيتيريا. في المرة السابقة حكي لي أنه رأى الله تحت
الغطاء ساعة الفجر. فسألته عن رد فعله: قال إنه لم يتمالك عن الضراط، فاختفى
الله".
إذا لاحظنا الدلالة "الرسولية" لاسم الشخصية المنسجمة مع
"الحكمة" و"رؤية الله" و"ساعة الفجر" فإن الضراط
سيكون وسيلة إخفاء باعتباره مرآة حيث لاشيء ينظر إلى لاشيء .. لاوجود يشاهد نفسه
.. هذه المواجهة "الكاشفة" التي ربما لا تتحقق إلا لنبي حقيقي .. نبي
مضاد للنبوة .. نبي يتقدم في الاتجاه المناقض للألوهة حيث يستخدم إمكاناته وسماته
الخارقة ـ كفصامي ـ لجعل نفسه ابنًا متفردًا للعدم .. كمخلّص عظيم من الإيمان بأي
مما يُعد حقيقة .. كمنقذ خرافي من النور المتوهم، ومرشد إلى الظلمة الفارغة من
الاحتيال المقدس، حيث لا يوجد ما يتحتم تصديقه كسبب للنجاة .. كان الضراط احتفالا
تهكميًا ـ لأيمن الدبوسي ـ بهذه الرؤية التي قرأناها جميعًا.
في قصة "الرجل الأخضر" يجدر بنا الانتباه إلى هذا المجاز:
"وقف في معطفه الرث وحذائه الغارق في الوحل، يقطر ماءً، وكأنما
جيء به للتو من قبر كان يحفره في يوم هطل".
ثم نقارن بين هذا المجاز ونهاية القصة:
"الرجل الأخضر كان فقيرًا فقرًا فاحشًا. الفحش، لا يمكن أن يكون
إلا الفقر، ولونه أخضر. كان أزرق من البرد والهمّ، وأصفر من الجوع والوهن، وهذان
الوغدان، إذا التقيا على رجل، يصيّرانه أخضر اللون"
لن يكون المجاز فاعلا حقًا، وكاشفًا عن براعته إلا بفضل كلمات
النهاية؛ فالرجل كأنما يحفر قبره أو قبر ابنته المرتجفة التي تعاني من تأخر عقلي
عميق، وصرع مزمن، حيث ينفق أبوها كل ما لديه من مال ليصل من قريته النائية إلى
مستشفى الرازي كي لا يفوّت على ابنته موعدها الشهري الذي يُحضرها فيه لتجديد وصفة
الدواء .. كأنما يحفر قبرهما المشترك .. لننتبه أيضًا إلى هذه العبارة "الفحش
لا يمكن أن يكون إلا الفقر" .. هي لا تعرّف الفحش وحسب، بل تعرّف أيضًا ما تم
الاعتياد على وصفه ـ زيفًا ـ بالفحش .. بذلك لا تكون هذه "الحكمة" تلفيقًا
سماويًا، بل لعنة أرضية عارية .. إنها كلمات كان ليقولها محمد "الآخر"
وهو يطلق ضراطه في الفجر مثلما أزاح الجنة من مكانها في قصة "مرفوع
القلم":
"أضاء وجه محمد بتلك الابتسامة الفريدة، ثم قال لي وأنا أهمّ
بالانصراف:
(أخشى ألا يدخل الجنة غير المجانين يا دكتور).
(أخشى أن نكون في الجنة في هذه الحالة ونحن لا ندري) قلت وانفجرت
ضاحكًا. إلا أن محمد علي لاحقني بالكلام وأنا أغادر الموقف:
(دكتور، دكتور، أنا منحبش نكون مجنون. قُتلو يا ربي أعطيني الفكر
والمال والجنة نجيبها بذراعي)".
سنلاحظ أن البعوض الذي كان يحوم حول رأس محمد في بداية القصة سينقشع
مع عبارته الأخيرة .. كأن البعوض هو إشارة للجنون الذي أثبت محمد بهذه الكلمات في
نهاية القصة أنه مجرد منه .. هي حكمة أيضًا تستعمل "الإيمان التقليدي"
لتسخر من القيم التي يفرضها: المجانين لا يحاسبون .. مرفوعو القلم .. يدخلون الجنة
مباشرة .. الجنة التي لا ينبغي أن تكون مضجرة، مسكونة بالحملان، ولا يستطيع المرء
داخلها أن يكون آثمًا وشريرًا، وتستحق الولوج من الخلف لإفسادها كما في قصة
"آخر يوم على الأرض" .. حسنًا، لا يريد محمد / أيمن الدبوسي أن يكون هذا
هو الثمن إذا كان المقابل "الجنة" موجودًا حقًا .. هذا النوع من الجنون
الذي يتجاوز بلاهة العقل وحساباته ومعادلاته الخرقاء المتبجحة .. لو كان الأمر
صحيحًا لعاش المجنون منعزلا في الجنة بعيدًا عن أحبابه "العقلاء" الذين
قد لا يشاركونه النعيم .. لهذا كان يتمنى لو كان الجنون مُعديًا ليعدي به من يحبهم
ويضمن لهم دخول الجنة التي يُحتمل ـ وهو هاجس آخر ـ ألا يدخلها إلا المجانين .. الهاجس
الذي يمحو فكرة لا تمنح ـ دون مبرر منطقي وبكيفية تعذيبية ـ يقينًا حاسمًا عن
نفسها.
في قصة "استمناء قهري" نقرأ:
"لكن لا شيء عنده يضاهي الاستمناء! فهو لا يرضى أن يكون (فرحه)
معقودًا (بيد) غيره، فلا أحد (يفهمه) مثلما (تفهمه) يده".
وهو ما يذكرني بهذا المقطع من روايتي "الفشل في النوم مع السيدة
نون" الصادرة في 2014:
"يدي هي أعز أصدقائي .. هي صديقتي الوحيدة، لأنها الوحيدة التي
تفهمني أما الباقين فأولاد شرموطة .. وجودي لا يتمثل في شيء إلا فيها، وهي الشئ
الوحيد الذي لا يمكنني تعويضه .. أتحدث عن يدي اليمنى التي تعرف الحقيقة، وتظل
ساكتة .. هي علامة إذلالي للعالم، وإشارة كفايتي كإله .. حمايتي من رغبة نرجسيتي
بالتحقق عبر الانخراط الجمعي .. التي تُنهك أحياناً كعاشقة أتعبها طول المدة التي
استغرقها حبيبها في الوصول إلى الأورجازم .. ربما تتضايق قليلاً ـ ولا أعرف لماذا
ـ إذا ما تبللت أصابعها .. هذا ليس دماً يا عزيزتي".
هذا الاستمناء على كل شيء من الشاب ابن السابعة عشرة الذي أتت به
"أمه" إلى المستشفى، والتي كان يُطل عليها من فرجة الباب وهي تستحم،
واستنفدت معه كل السبل؛ هذا الاستمناء المفرط كأنه مضاجعة الضراط
"الشخصي" للسراب "العام" الذي يقدم نفسه كحقيقة غير قابلة
للشك .. للكذب المكوّن لكل موجود بوصفه حكمة .. للخيانة الكامنة في كل حضور حسي
باعتبارها وعدًا بالإشباع .. كأنه يطهّر أشياء العالم مما أرغمت أن تكونه .. كأنه
يفنيها ثم يبعثها من جديد مجرّدة من الأوهام بواسطة الشيء الوحيد محل ثقته أي يده
.. ألا يترك هذا الشاب شيئًا إلا وجعله موضوعًا للاستمناء ـ حتى الطبيب النفسي ـ
فهذا نوع من التماهي مع الجنون الخاص "العادل"، كمجابهة لمحاولات تدجينه
داخل التمثلات القاتلة لأب مطلق، رمزي، أكثر ربوبية من أبيه الواقعي، يهدده
بالخصاء، كما يليق بذهان كوني .. إن هذا الشاب بطريقة ما هو ذكر السحلية الذي يعمل
محللا نفسيًا في قصة "Lazer":
"لقد توصل بمعيّة المحلل النفسي، الذي كان لاكانيًا هو الآخر،
إلى أن يتذكر أنه لما كان طفلا، في أسبوعه الثالث، شهد حادثة عنيفة تتمثل في
انطباق باب غرفة استحمام، بسبب نسمة قوية، على إصبع ولد صغير كان يقف متلصصًا
مستندًا بيده إلى شق الباب الموارب".
ثم نقرأ في القصة ذاتها:
"رجح المحلل النفسي أن ما كان يشاهده الولد الصغير وقتها قبل أن
ينطبق الباب على إصبعه، كان أمه واقفة في البانيو تغتسل عارية. كان يعتقد كذلك أن
مفاجأة اكتشاف الولد الصغير أن والدته لا تملك قضيبًا مثله، تزامنت مع انطباق
الباب على إصبعه. ليعيش لحظة بتر إصبعه، بمقتضى ذلك، كعقوبة أو ضرب من الخصاء
الناتج عن شغفه الزائد وتلصصه الآثم.
(وأين هو الأب في كل هذا؟) أذكر أني هتفت بليزر متهكمًا، وهو يبلغ هذا
المستوى من التحليل. (الأب هو الباب)، كان قد أجاب، مستطردًا: أنت تعلم أن بابا
وباب يعنيان تقريبًا نفس الشيء. الباب هو الحد: القانون والممنوع، أي كل ما يمثله
الأب).
في مقال سابق لي بعنوان "تحطيم المرآة" عن قصة
"الأفعى" لـ "جون شتاينبك" كتبت هذه السطور:
"لم يعد هناك مجال للحيل الدفاعية بعد التهام الثعبان للفأر وهو ما جعل (شتاينبك) يكشف بواسطة (فيلييس) عن صلة (رموز الجنس السيكولوجية) بالطقس الشبقي الذي تم بينه وبين المرأة .. سيتطور هذا الانهيار للحيل الدفاعية مع بحث الطبيب عن المرأة مما سيعيدنا إلى كافة المحاولات التي أراد (فيليبس) أن يتحاشى من خلالها (المضاجعة) التي حدثت لتتجلى حقيقة هذه المحاولات بوضوح كوسائل فاشلة للهروب من رغبة الطبيب في المرأة .. من تواطؤه مع شهوتها، ومن استمتاعه بالخضوع لأوامرها الشبقية .. هذا ما جعله يبحث عنها ـ كنتيجة مناقضة (ظاهرياً) لنفوره منها ـ بعد أن اختفت بانتهاء الحلم العصابي .. هذا الاختفاء النهائي هو تمثيل للانفصال الحتمي بين الابن (الطبيب فيليبس) عن أمه (المرأة صاحبة الثعبان الذكر) الذي يرفضه الابن؛ إذ يحاول استرداد ذاته من (مرحلة المرآة) بحسب (جاك لاكان) أي مقاومة إدراك أنه موضوع مستقل عن أمه، ومجابهة العبور من (الخيالي) إلى (الرمزي) حيث التعرف على الفراغ في الآخر".
"لم يعد هناك مجال للحيل الدفاعية بعد التهام الثعبان للفأر وهو ما جعل (شتاينبك) يكشف بواسطة (فيلييس) عن صلة (رموز الجنس السيكولوجية) بالطقس الشبقي الذي تم بينه وبين المرأة .. سيتطور هذا الانهيار للحيل الدفاعية مع بحث الطبيب عن المرأة مما سيعيدنا إلى كافة المحاولات التي أراد (فيليبس) أن يتحاشى من خلالها (المضاجعة) التي حدثت لتتجلى حقيقة هذه المحاولات بوضوح كوسائل فاشلة للهروب من رغبة الطبيب في المرأة .. من تواطؤه مع شهوتها، ومن استمتاعه بالخضوع لأوامرها الشبقية .. هذا ما جعله يبحث عنها ـ كنتيجة مناقضة (ظاهرياً) لنفوره منها ـ بعد أن اختفت بانتهاء الحلم العصابي .. هذا الاختفاء النهائي هو تمثيل للانفصال الحتمي بين الابن (الطبيب فيليبس) عن أمه (المرأة صاحبة الثعبان الذكر) الذي يرفضه الابن؛ إذ يحاول استرداد ذاته من (مرحلة المرآة) بحسب (جاك لاكان) أي مقاومة إدراك أنه موضوع مستقل عن أمه، ومجابهة العبور من (الخيالي) إلى (الرمزي) حيث التعرف على الفراغ في الآخر".
نحن ندعي التلصص كأنما هناك ما يمكن رؤيته خلسة على الأقل .. كأنما
هناك أم فقدت شيئًا ما ينبغي تعويضه من خلال أجسادنا .. ومع ذلك يُغلق الباب على
ما هو أكبر من أصابعنا .. لكن أي باب؟ أو بالأحرى أي "بابا"؟ .. ثمة
خصاء استباقي تم بالفعل، أما الجنون / الاستمناء فهو المقاومة التي تلتهم نفسها
ذلك لأن ما تقاومه هو الذي شكّلها من الأساس .. التي في سبيل فنائها تتعمد أن
ترتكب كل ما تستطيعه من الجنون والذي قد يكون المتعة الساخرة من "الباب"
المغلق فوق أريكة المحلل النفسي، أو بالإخصاء الخيالي لفكرة الإخصاء ذاتها عند
كتابة مجموعة من الشذرات الشتائية التي تقامر على كتابة نص ديستوفيسكي في أقل من
صفحة أو صفحتين بهذه الروعة كما حدث في "أخبار الرازي".
أنطولوجيا السرد العربي ـ 6 يونيو 2018
أنطولوجيا السرد العربي ـ 6 يونيو 2018