Cairo, March 2012. Credit: Bieke Depoorter/Magnum Photos
حدث بالفعل أنني استوقفت تاكسيًا ذات يوم، ونظرًا لوجود صبي صغير في
المقعد الأمامي تبين لي فيما بعد أنه ابن السائق فإنني جلست في الكنبة الخلفية ..
بعد لحظات من التحرّك سألني السائق عن الاتجاه الصحيح المؤدي للمكان الذي أرغب في
الذهاب إليه متعللًا بجهله للتغيرات التي طرأت على المسارات القديمة للشوارع حيث
أنه عائد منذ وقت بسيط من سفر غيّبه عن المدينة سنوات طويلة .. هنأته على سلامة
العودة ثم طمأنته على صواب الاتجاه الذي قصده، وقبل الانعطاف نحو شارع جانبي؛
ابتسم السائق موجّهًا حديثه إلى الصبي لينبهه إلى اقتراب عبورنا أمام الاستوديو
الذي سبق أن التُقطت لهما فيه صورة مع أمه حين كان طفلًا .. تبددت الابتسامة من
وجه السائق وهو يمر بنا أمام مساحة ترابية فارغة إلا من بعض مخلفات الهدم
المتناثرة، وحينما استفهم الصبي عن مكان الاستوديو أشار إلى هذه البقعة مجيبًا
بخيبة أمل بأنه كان موجودًا هنا، ولكن من الواضح أنه تم هدمه .. بعد تجاوز هذه القطعة
من الخلاء المُحبط سأل الأب ابنه إذا كان لا يزال يحتفظ بهذه الصورة فرد عليه الصبي
بالإيجاب ثم طلب منه أبوه أن يحرص عليها جيدًا كي لا تضيع، وبعد أن هز الصبي رأسه
بالموافقة وصل بي التاكسي إلى حيث أريد فغادرته وظللت واقفًا أراقبه حتى اختفى.
هذا يعني أن كل ما سبق العبارة الأخيرة في قصة "ثغرات
الخلود" من مجموعتي "مكان جيد لسلحفاة محنطة" قد تم في الواقع حقًا:
"مشيت ويدي المرتعشة تتحسس جيبي لتتأكد من وجود الصورة في مكانها".
لنتخيل كتابة أخرى لهذه القصة يكشف فيها السارد عن تماثله مع الصبي
الصغير في اللحظة التي يتحدث خلالها السائق عن الصورة القديمة التي تجمعهما مع
الأم .. أن يفكر السارد في وجود صورة اُلتُقطت له أيضًا مع أبويه في أحد
الاستديوهات حينما كان طفلًا .. هذا الكشف المبكر عن التماثل بين السارد والصبي
سوف يحتجز القصة داخل حدود واقعيتها حتى مع الإعلان عن وجود الصورة في جيب السارد
في نهاية القصة .. سيظل السائق وابنه والسارد شخصيات فعلية مستقلة عن بعضها، كما
أن الصورة ستظل صورة حقًا بدرجة ما رغم الغرابة المحتملة لوجودها في جيب السارد في
تلك اللحظة، وهو ما سيمكن تفسيره بالإحكام القهري للحرص عليها من الضياع .. لكن
عدم كشف السارد عن نفسه إلا في نهاية القصة، والإعلان عن أنه كان حاضرًا في حكاية
اللقطة الفوتوغرافية، والاستوديو الذي تم هدمه، وضرورة الحفاظ على هذه الصورة سيجعل
القصة تتجاوز التماثل بين الصبي والسارد إلى تطابقهما .. سيكون الصبي والسارد
شخصية واحدة، كأن السارد يشاهد نفسه أثناء جلوسه في الكنبة الخلفية للتاكسي وهو
يتحدث مع أبيه حينما كان صبيًا صغيرًا .. السارد لا يقول هنا: (هذا الصبي يشبهني،
وهذا السائق يشبه أبي، والصورة التي يتحدثان عنها لدي مثلها)، بل يقول بواسطة
الصمت الذي تتم إضاءته في نهاية القصة: (هذا الصبي أنا، وهذا السائق أبي، والصورة
التي يتحدثان عنها صورتي) .. حينئذ سيتوقف السائق عن أن يكون أبًا فقط، والصبي
ابنًا له، والسارد شخصية مشابهة للصبي، والصورة مجرد لقطة فوتوغرافية قديمة يمتلك
الأطفال الذين تقدّم بهم الزمن خطوات كبيرة نحو الموت نسخًا مختلفة لها؛ بل سيكون
السائق هو فكرة الأبوة نفسها، مثلما سيجسّد الصبي والسارد في تطابقهما فكرة البنوة
التي في سبيلها لأن تكون أبوة أيضًا، كما ستصبح الصورة هي الماضي الذي لا يمكن
مفارقته .. تتحوّل القصة إلى حلم عن "الخلود" الذي يمكن السخرية من استحالته
باعتبار أن الحفاظ على الصور التي خلّفها الفناء ـ كأنقاض الهدم ـ هو مجرد ثغرة من
ضمن ثغراته.
إذا كان من الممكن توقع أن يكون السارد الذي أخفى ارتباطه بحكاية
السائق وابنه هو نفسه الصبي؛ فإن هذا التوقع سيكون منفصلًا عن وجود الصورة في جيب
السارد .. كان يمكن للسارد بدلًا من أن يتحسس جيبه كي يطمئن على الصورة أن يفكر في
وجودها داخل مكان آخر يخصه ويتسم بالأمان مثلًا .. ولكن الصورة أشبه بسراب غامض،
يحتل الذات؛ وهذا ما يُسبب رعشة اليد عند ملامسته.
إن الكشف عن وجود الصورة في جيب السارد يعني أن هذا السارد لم يكن
حاضرًا فحسب عند التقاط الصورة بين الصبي الصغير وأبويه، بل كان موجودًا من قبل،
وسيمتد هذا الوجود بعد هذه اللحظة التي تحسس فيها هذا السارد جيبه ليتأكد من وجود
الصورة؛ أي أنه يكمن كشبح في جميع الحكايات الأبدية للفقدان بين الآباء والأبناء ..
الحكايات التي لا تعني حمايتها من الضياع أن يتحوّل الحنين إلى مجرد بديل تهكمي
للخلود؛ بل الإبقاء على احتمالات أن تُفهم .. أن تُعالج .. أن يُعاد بعث هذه الحكايات
على نحو مبهم دون ثغرات .. أن تُنقذ عبر تحويلها إلى لعبة قصصية كأنها خلاصها
الوحيد.
يرتبط سؤال "متى تعلن عن شبحيتك؟" بسؤال الكيفية؛ أي
الطريقة التي تعلن بواسطتها عن هذا الوجود الشبحي .. الأسلوب الذي تحدده اللحظة
الكاشفة عن أنك كنت حاضرًا طوال الوقت من وراء صمتك الظاهري .. فكر في الحكاية
الواقعية التي عثرت خلالها على نفسك داخل شخصية أخرى .. حاول أن تجعل القصة التي
ستستثمر هذه الحكاية أقرب إلى الحلم المنحاز لاستفهامات الوجود والزمن، التي لا
تتوقف عند الخطوط الواقعية التقليدية، وذلك عن طريق اختيار اللحظة المناسبة التي
تعلن فيها عن طبيعتك كشبح مخبوء داخلها .. اجعل القصة في نهايتها بواسطة هذا
الاختيار مفارقة للتوقع مهما اقتربت التكهنات من سرها.