ما هي العلاقة المحتملة التي يمكن أن تربط بين هذه القصص:
أحد الرعاة بالمغرب يشتري بندقية من راعٍ آخر مسن ويعطيها لولديه كي يقتلا بها الثعالب التي تهدد أغنامهم .. سائحة أمريكية تصاب بطلقة أثناء مرور الحافلة التي تستقلها برفقة زوجها وسياح آخرين .. فتاة يابانية صماء تعذبها بلادة الآخرين وتجاهلهم لمشاعرها الأمر الذي يدفعها لتسوّل الحب .. مربية مكسيكية ترعى طفلين أمريكيين تضطرها الظروف لاصطحابهما معها إلى المكسيك لحضور زفاف ابنها لكنها تتعرض لصدام مع حرس الحدود الأمريكيين عند عودتها؟.
هل يمكن تحديد العلاقة حقا في أن الذي أهدى البندقية للراعي المسن هو والد الفتاة اليابانية بعد أن عمل كمرافق له في رحلة صيد، وأن الطفلين اللذين كانت المربية المكسيكية ترعاهما هما طفلا السائحين الأمريكيين اللذين كانا يستقلان الحافلة أثناء رحلتهما داخل المغرب، وأن الطلقة التي أصابت الزوجة أطلقها أحد ولدي الراعي المغربي حينما قررا اختبار المدى الذي يمكن أن تصل إليه طلقات البندقية؟.
هل يمكن تحديد العلاقة حقا في أن الذي أهدى البندقية للراعي المسن هو والد الفتاة اليابانية بعد أن عمل كمرافق له في رحلة صيد، وأن الطفلين اللذين كانت المربية المكسيكية ترعاهما هما طفلا السائحين الأمريكيين اللذين كانا يستقلان الحافلة أثناء رحلتهما داخل المغرب، وأن الطلقة التي أصابت الزوجة أطلقها أحد ولدي الراعي المغربي حينما قررا اختبار المدى الذي يمكن أن تصل إليه طلقات البندقية؟.
من الممكن أن تكون هذه هي العلاقة بالفعل باعتبار أنه يمكننا تحديد الأسباب المنطقية التي تربط بين الأحداث ورصد المبررات الكامنة في كل قصة التي تسمح لقصة أخرى أن تخلق على أساسها .. لكننا نحتاج للاكتفاء بالعلاقة السببية المباشرة حينما نكون إزاء مجموعة من الشخصيات والأحداث التي تتفاعل لإنتاج قصة .. ماذا لو كان هذا التفاعل يتم بين قصص؟ .. حكايات تنتج قدرا أو مصيرا مشتركا؟ .. هنا الأسباب المنطقية لا تعد أسبابًا في حد ذاتها بقدر ما هي حيل سحرية غامضة ومرعبة .. الأسباب هنا تواطؤ خارق من المهارات الإعجازية للغيب .. الأسباب المنطقية التي تربط بين القصص ليست أسبابًا بقدر ما هي مفاجآت سيئة.
لكل قصة في فيلم (بابل) استقلاليتها وحبكتها الدرامية الخاصة وأيضا النهاية التي تفصلها عن النهايات الأخرى: الشرطة المغربية التي تعاملت مع حادث إطلاق النار باعتباره عملا إرهابيا تطارد الراعي وابنيه وتقتل الولد الأكبر .. السائحة الأمريكية (كيت بلانشيه) تعالج في قرية غاية في البؤس والفقر على يد طبيب بيطري قام بخياطة جرحها دون مخدر حتى نجح زوجها (براد بيت) في الحصول على مساعدة السفارة الأمريكية لنقلها إلى المستشفى .. الفتاة اليابانية الصماء يمنحها للحظات ضابط ياباني شاب التعاطف والاحتواء أثناء عمله المكلف به للتوصل إلى علاقة والدها بالبندقية التي استخدمت في الحادث .. المربية المكسيكية تجبرها السلطات على الرحيل من الولايات المتحدة الأمريكية بعد اكتشاف إقامتها غير الشرعية لسنوات طويلة.
مخرج الفيلم (إليخاندرو غونزاليس) يخبرنا إذن أنه مهما كانت قصتك مستقلة وتمتلك حبكتها الدرامية الخاصة ولها نهايتها المنفصلة عن النهايات الأخرى فهي تنتمي دائما إلى نفس القدر وتصل إلى نفس المصير .. أنت في جميع الأحوال غريب عن المكان وعن البشر وعن نفسك .. أنت دائما مرفوض على مستوى اللغة والثقافة والوعي .. عاجز عن التواصل، ويُساء فهمك مثلما تسيء فهم الآخرين .. لا يوجد أحد ولا يوجد شيء يضمن لك المساعدة أو الحماية من الأحكام المخبوءة التي اتخذت ضدك .. أنت أحد المحاصرين داخل أسطورة (بابل) الكونية التي تعيش حية في روحك .. أسطورة العهد القديم التي تحكي عن الرب الذي بلبل ألسنة البشر حينما كانوا شعبا واحدا يتكلم بلسان واحد، وقرروا تشييد برج يصل بهم إلى السماء فأصبحوا غير قادرين بعد هذه البلبلة على فهم بعضهم البعض، ومن ثم فقدوا القدرة على إكمال البرج .. إذن الجميع ليسوا إلا غرباء .. الغربة هي القوة الغليظة الخانقة التي تحرك حياتك بعنف داخل مسارات الوجود المعقدة دون أن تترك أي فرصة للهرب لأن القرار ببساطة ليس في يدك .. ليست الغربة فحسب .. أيضا العبث المراوغ، المبرمج بخبث على الأذى الوحشي والذي يجعل أي فعل في أي مكان من أي أحد مهما كان عاديا وعابرا وضئيلا للغاية يحدد ويقرر الحياة والموت لبشر آخرين في مكان بعيد آخر .. في (بابل) لا توجد أسباب ونتائج في حضورها التقليدي المباشر .. هنا أي سبب يصلح لأي نتيجة بل، وفي حقيقة الأمر فإن كافة الأسباب هي نتائج بالأساس، وكذلك النتائج هي أسباب لنتائج أخرى.
فيلم (بابل) أقرب لحزمة تساؤلات مشحونة بطاقات متجددة تريد أن تصل لأبعد مدى ممكن
داخل العتمة الأزلية المحكمة وراء كل الإجابات والحلول، والتي أراد مخرج الفيلم
تحويلها لحقل تجريبي كي يختبرها من خلال أرقه الخاص : الولد (يوسف) الذي أصابت
رصاصته الطائشة السائحة الأمريكية يمارس العادة السرية وهو الذي تعوّد على مشاهدة
أخته (زهرة) تتعرى من أجله .. الفتاة اليابانية الصماء تخبر الضابط الشاب أن أمها
انتحرت بالقفز من النافذة ثم يعرف من والدها أن الأم لم تنتحر بهذه الطريقة وإنما
أطلقت النار على رأسها وحينما يصعد الأب إلى البيت يجد ابنته تقف عارية في الشرفة
فتبكي في حضنه بعد أن بدا وكأنها كانت تفكر في إلقاء نفسها .. المربية المكسيكية
تقابل في حفل زفاف ابنها حبيبها القديم بعد وفاة زوجته وتعيش معه لحظات حميمية
مختلسة .. حسنا .. لماذا لا يطلق الولد المغربي رصاصة إذن؟ .. لماذا لا تفكر الفتاة
اليابانية الصماء في الانتحار؟ .. لماذا لا تتحسر المربية المكسيكية على زمن لن
يرجع للوراء ثانية لتحصل على ما لم تستطع تحقيقه وقد أصبحت عجوزا الآن؟ .. كان يجب
أن يحدث كل هذا لأننا جميعا عالقون ببراعة في مصيدة عنكبوتية من الكبت والحرمان
تربط بين آلامنا كافة، وبالتالي فإن مخرج الفيلم يضع إشكالية (المسئولية) في نطاق
التشريح والمحاكمة بناءً على وقوعنا في هذه المصيدة ؛ فما معنى المسئولية الفردية
طالما أن (الفردية) هنا يشكلها ويموضعها ويتحكم في قدرها ومصيرها (أفراد) آخرون،
وأحداث أخرى، وأزمنة أخرى لا تخص من يخضع لها وتؤثر في وجوده كليًا.
في أحد مشاهد الفيلم ترقص الفتاة اليابانية الصماء بفرح في صالة ديسكو بصحبة
صديقاتها ثم تشاهد الشاب الذي كانت تتمنى لو أحبها وهو يرقص ويقبّل فتاة أخرى .. هنا
كتم مخرج الفيلم جميع الأصوات: الإيقاعات الصاخبة وصياح الراقصين وضحكاتهم العالية
.. تحوّل الفيلم في تلك اللحظات إلى مشاهد صامتة متوالية لوجه الفتاة اليابانية
الصماء وهي تتأمل بمرارة ويأس الشاب والفتاة مع ومضات خاطفة لأضواء الصالة الأشبه
بصفعات برق قوية وعنيفة انتهت بخروج الفتاة اليابانية من المكان .. كتم الصوت في
هذه اللحظات يهدف بالأساس لتحويلك من مجرد متفرج يشاهد تعاسة هذه الفتاة إلى أن
تكون أنت الفتاة نفسها .. أن تصبح أصمًا ومجروحًا فجأة مثلها .. أن تكون الدنيا ساكتة
من حولك كقبر بارد وأنت مجبر على إبقاء عينيك مفتوحتين لتتطلع إلى أشياء العالم
وهي تتراقص وتومض كأشباح براقة سعيدة ومحتفلة بهزيمتك وليس في وسعك أن تتكلم أوتقول
أي شيء .. هذه الطريقة تذكرني بالمخرج البلجيكي (جاكو فان دورميل) حينما استخدمها
بنفس المهارة في فيلمه الساحر (اليوم الثامن) بأن جعل (جورج) صديقه (هاري)
يستلقي بجواره على العشب ويغمض عينيه مثله لمدة دقيقة واحدة من الصمت، ويخبره أنه
حين يتخيل نفسه يحتضن شجرة سيصبح شجرة، وحين يفكر في نحلة سيصبح نحلة، وحين يفكر
في أحبابه حتى الموتى منهم سيجدهم جالسين معه ويطبطبون عليه .. كانت دقيقة الصمت
كاملة فعلا من زمن الفيلم ومن زمن المشاهد الذي أصبح هكذا هو الصديق الثالث الذي
يشاركهما الاستلقاء على العشب وإغماض العينين والتخيل.