أتصوّر أن هناك سمة لافتة في سرد "جميل عطية ابراهيم" تقترن
بالفكرة التي ربما تبدو أساسية عن عالمه الروائي بشكل عام، وأقصد بها أن هذا
العالم يمثل تجربة ممتدة لواحد من أكثر الكتّاب المهمومين بالتاريخ المصري
وتحولاته، وبمدى التأثير الذي تفرضه الإرادات المتغيرة للعالم على هذه التحولات ..
هذه السمة تتعلق بالحرص الذي يتجلى عفويًا على عدم التورط في التحيّز الانفعالي
عند مقاربة هذا التاريخ .. في المقابل يمكن الشعور بضرورة مناقضة لتثبيت ما قد
يسمى بالطبيعة المثالية المفتقدة للتعايش كسياق حتمي عند التنقل من صراع لآخر ..
هذه الطبيعة لا يمكن ملامستها ـ نظرًا لغيابها ـ وإنما يمكن إدراك المحاولات
الدائمة للوصول إليها، للعثور عليها كحقيقة مختفية كانت مجسّدة في زمن ما، أو
لخلقها كأنما هناك دلائل وعلامات في الماضي تؤكد بصورة دامغة أنها كانت تمهيدًا
واقعيًا لها .. في نفس الوقت لا تُطالِب هذه الطبيعة بالتصديق أو الرفض بل
بالتفكير في كيفية العمل لبلوغها، في اختلاف الظواهر الساعية للكشف عنها، في صور
كفاحها لإثبات وجودها، في إشارات هدمها لنفسها .. من هذه النقطة يمكنني العبور إلى
رواية "أوراق سكندرية" الصادرة عن دار الهلال عام 1997، حيث أراقب كيف يعمّق "جميل عطية ابراهيم" ملامحه
السردية التي تكوّن ما يشبه ذاتًا أو هوية من خلال هذا العمل، أي عبر خصوصيته
الأدائية.
(قامت سيلفي معهم. الرفاعي أكثرهم قلقًا. تحركت سيلفي ناحية الباب،
أما الرفاعي فكان أسرعهم إلى الخروج. سار موكبهم، وضحك عجيب كفافي كما لم يضحك منذ
قدومه إلى القاهرة، هذه عي بلد العجائب، رفاعية وباشوات، وثعابين تهرب من موردين
في ظل حرية التجارة وتحرير الأسواق. تجارة الثعابين أصبحت مثل تجارة المخدرات
مربحة، هذا صباح لن ينساه).
يبدو "جميل عطية ابراهيم" في رواية "أوراق
سكندرية" كأنما يبحث في الفراغ، أي بين الحكايات والشخصيات والأماكن
والذكريات عن حياة لها أكثر من وجه أو أكثر من احتمال .. هذه الحياة قد تكون زمنًا
شخصيًا، وقد تكون زمنًا مفارقًا، وربما زمن انتقائي، ينتزع ما يليق به خارج الوحشية
الكرونولجية، وتعيّن كل شخصية موقعها الصحيح في علاقاته .. لكن "جميل عطية
ابراهيم" في الوقت نفسه يمرر انطباعًا بأن البحث عن هذه الحياة، وليس إيجادها،
هو ما يحوّل "التاريخ" إلى "تأريخ" بواسطة حركة الذات في
مواجهة قدرها، أو ما يظهر لها بوصفه "مواجهة"، مستثمرًا "الإسكندرية"
كفضاء يتجاوز فكرة المدينة باعتبارها مسرحًا تتناسل مشاهده المتتابعة.
(الإسكندرية مليئة بالأشباح، أشباح تتحدث مع الناس، وتقضي لهم
حوائجهم، في النهار والليل، وها أنا قد أسلمت حياتي، لهذه المرأة الشبح. كانت تبحث
عن أثر لها قبل أن تمد يدها إلى الطعام، قائلة: لن آكل من طبيخ العفاريت، فكنت
أطلعها على الأوراق الصغيرة التي تكتبها لي بخصوص الأسعار، وطلباتها، وأخبارها
أيضًا، فتطلب مني ميراندا ترجمتها قبل أن تأكل. هذه حيلة من حيل ميراندا لتعرف أخبار
البنت، وقد تقبلتها منها، كما أن حكاية الأشباح هذه راقتني، واستخدمتها من جانبي
في التخلص من مآزق ميراندا المحرجة التي تضعني فيها، بسبب طيشها ورعونتها).
يكتب "جميل عطية ابراهيم" عبارات قصيرة موجزة ومتباعدة،
كأنها تُنطق بأنفاس متقطعة لتعطي إيحاءًا بأنها نبرة شخص متعب .. كأن من يتحدث هي
شيخوخة الراوي نفسها مصحوبة بشيخوخة التفاصيل والأشياء التي يتكلم عنها تحت الثقل
المتراكم للفقدان .. هي في جانب منها تشبه الاستسلام لذات استنزفت كل طاقاتها في
حروب قديمة خاسرة، وأدركت اقترابها من النهاية .. كأنها تعبير أيضًا عن عدم تصديق
له إيقاع الاستعطاف أملا في غاية ملتبسة، بوسعها أن تنجم عن حقيقة مجهولة توجد في
بُعد ما.
(سرت في ممرات خالية، وجلست سنين في مكتبك تطل على البحيرة، تسود
الأوراق، نسيت عشرة الناس،، لا كلمة حلوة، ولا خبر يثلج الصدر، بل هي أخبار
الهزائم. حطت الكوارث عليك يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وسنة بعد سنة حتى ضاع العمر
ولم يطلع قمر أيامك، صباح الخير تنطق بها بعدة لغات حتى فقدت معناها ومللتها،
توحشت يا عجيب. تهز رأسك لمن تعرفه وقد توقفت عن الكلام، قبضة يدك
"مرزبة"، يا ليتك تفرغت لتقطيع الحجارة في جبل المقطم، وتركت الترجمة
لأصحابها، فهذه ليست مهنتك).
إذا كانت قراءة أعمال "جميل عطية ابراهيم" يمكنها أن تدفعنا
للتفكير في علاقة التوثيق السياسي والتاريخي بفن الرواية فهي ستضعنا بالتالي أمام
أسئة التخطي المفترض للتوثيق نحو الجماليات السردية .. كيف تتحوّل ثورة 1919 مثلا، أو تاريخ الطبقة العاملة المصرية، أو تاريخ الفكر الاشتراكي
في مصر، وهي الموضوعات التي استفاد "جميل عطية ابراهيم" من مصادر لها في
"أوراق سكندرية" بحسب التنويه في نهاية الرواية؛ كيف تتحوّل هذه
الموضوعات المتاحة كأحداث ومراجع إلى عمل روائي، لا يقدم نفسه كإعادة تدوير لما
سبقه، أي أن يستخدم نفس الأساليب ونفس الإجابات، ولا كنسخة تقريرية أخرى من مصادر
التوثيق، أي أن تضيع الحياة بغموضها وتمنّعها لصالح القضية؟.
(أدارت سيلفي محرك سيارتها. تنتظرني، قلت لها:
ـ هذه نظرة أخيرة يا سيلفي. ربما العمر لا يسمح.
نظرت إليّ فزعة، قالت من قلبها:
ـ بعد الشر يا أستاذ عجيب.
في الماضي سرت في جنازة أبي، حمل المشيعون النعش من البيت إلى الجامع،
وبعدها توجهنا إلى مقابر الأسرة في مدافن الإمام الشافعي. هذه المرة، شيعته
بمفردي).
أعتقد أن "جميل عطية ابراهيم" يقدم دائمًا النماذج التي
تبقى مرتبطة بالفن أكثر مما تسعى للوجود داخل حصار السياسة والتاريخ، وهو في هذا
يذكرني بحيثيات دفاع (سارتر) عن (الأدب الملتزم) من زاوية ارتباطه بالحرية واتخاذ
موقف من العالم، ولكن دون أن نرهن كتابة "جميل عطية ابراهيم" بأي من
المعايير والحدود التي تريد للوعي أن يتخذ أنساقًا أقرب إلى أحلام النبوة.
مجلة "عالم الكتاب" ـ يناير 2018