الأربعاء، 30 نوفمبر 2016

«النورس جوناثان ليفنغستون» لريتشارد باخ ... شجاعة الخيال

يقدّم ريتشارد باخ في روايته «النورس جوناثان ليفنغستون» (دار الكرمة - القاهرة) تأملاً رمزياً للطموح المعرفي، ولإغراءات التحرر من سلطة الأنماط الجماعية التي تُخضع الفرد كمجرد كائن على قيد الحياة. يُمثل هذا العمل المقسّم إلى أربعة أجزاء، والذي أعاد محمد عبدالنبي ترجمته إلى العربية، إحدى الكلاسيكيات الروحانية الشهيرة حيث اعتمد على شكل من المحاكاة لقصة المسيح في محاولته السردية لإنقاذ الإيمان من الخرافات، وتخليص الحرية من أوهام الطقوس. لم يقنع النورس «جوناثان» بأن يكون نسخة من النوارس الأخرى التي لا يعنيها أكثر من الوصول إلى الشاطئ للحصول على الطعام، بل أراد أن يكافح لاكتساب مهارات غير تقليدية في الطيران حتى لو كلّفه هذا التطلع من المشقة والمخاطرة ما يضعه في مواجهة المهانة والنبذ، بل وفقدان الحياة نفسها. كان خوض هذه التجربة يُعد سبيلاً متصاعداً للفهم، ولاكتشاف العالم بواسطة الاختبار التدريجي لقدرات الذات، وهو ما قد يعادل النظر إلى الصور التي يمكن أن تتحوّل إليها حياة كل فرد قرر الاستجابة لهذا النداء الباطني للانفلات من التشابه. الآلام المحتملة الناجمة عن اختلال التوازن، والعجز عن السيطرة، والفشل في التوجيه بينما تجاهد خطواتنا غير المألوفة للطيران بسرعات استثنائية وبارتفاعات لم يسبق لنا ملامستها. لكن إخفاق «جوناثان» المقترن باليأس الذي سيحاول إعادته الى الامتثال الآمن لما يُفترض أنها أحكام الطبيعة، هو ما سيضيء الإلهام في عقله، فالمقارنة المتحسّرة بين أجنحة النوارس وأجنحة الصقور ستقوده إلى طي الجزء الأكبر من جناحيه، والطيران معتمداً على طرفيهما فقط. نجاح النورس «جوناثان» في التحليق والانقضاض وفقاً لهذا الإدراك - والذي سيتحوّل إلى ارتقاءات متتابعة على مستوى السرعة والتحكم والتغيير البهلواني للاتجاهات - من شأنه أن ينقل الحسرة إلى صدور أخرى. إلى ظلام كل كائن يخلو ماضيه من هذا التحدي، ومن المكابدة التي ستفضي به إلى نشوة التفرد. كان الثمن الذي تحتّم على «جوناثان» دفعه هو الوصم بالعار من عائلة النوارس التي تمرّد على تقاليدها ثم نفيه إلى المنحدرات القصية. يعتبر هذا النفي تجسيداً للمصير المرعب الراسخ في أعماق الفرد الذي تنشط كوابيسه عند التفكير أو الرغبة في الخروج عن القانون العام نحو السمو الشخصي. الهاجس الأسود للجزاء الذي يتصدى في شكل استباقي للخيال الطامع في تجاوز الإمكانات المحدودة كي يقمع توهجه، ويمنعه من التحوّل إلى واقع عدائي. لكن النورس «جوناثان» لم يكن يبتغي لانتصاره أن يظل شخصياً، بل كان يتمنى لو أصبح هذا الإنجاز ممراً إلى آفاق جديدة تشاركه النوارس الأخرى السفر إليها. كان يدرك هذه الضرورة للخلاص الجماعي من عبودية القواعد والأطر العمياء، ولهذا سيعود إلى السرب بعد أن عاش بعيداً من النوارس عمراً مديداً في سعادة لم يتمكن أن يحظى بها نورس آخر بفضل مهاراته، وبعد أن ظل في السماء محتفظاً بروح النورس الشاب، وطار على نحو أفضل مما كان يطير بجسده القديم على الأرض. عاد «جوناثان» بعد أن عرف أن الحياة تعني بلوغ الكمال في ما يعشق كل كائن أن يقوم به، وأن الكمال بالنسبة إليه هو أن يطير كل مرة كما لم يفعل من قبل. كان هذا التعلّم يشبه حيازة الحكمة الروحية للأداء المادي، حيث أن الانتقال من عالم إلى آخر هو نتاج خبرات العالم السابق، وأن هذه الرحلة غير مرتبطة بسرعة الطيران، وإنما بالتخلص من قيود المكان والزمان (هنا والآن) أي بسرعة الأفكار، وهو ما يعني الثقة في أن محاولات التحرر قد بلغت مقاصدها بالفعل، فالجسد المكافح يمتلك طبيعة عاشت في ما وراء الحدود من قبل. أصبح (جوناثان) مرشداً للنوارس الأخرى نحو حقيقة الطيران، أي الطيران في الماضي والمستقبل، ولأعلى حيث الوصول إلى غاية الرأفة والمحبة.
«بعد أن تلاشى النورس جوناثان من شواطئ السرب، عاشت أغرب مجموعة من الطيور التي ظهرت على الأرض. بدأ كثير منهم يفهم بالفعل الرسالة التي حملها إليهم جوناثان، وصار من المألوف أن ترى نورساً شاباً يطير طيراناً مقلوباً ويتمرن على الدوران».
يريد ريتشارد باخ أن يخبرنا بأن أقبح ما يمكننا ارتكابه هو إساءة فهم «جوناثان»، وتحويله إلى كائن سماوي خارق. أن نستغني عن كسر قيود الأفكار، الذي بالتالي سيكسر قيود الجسد لمصلحة التعبّد القائم على الأساطير والطقوس. وهذا ما يدفعنا بالضرورة نحو استجواب الخلاص الذي بشّر بتعاليمه «جوناثان»، والانشغال باستفهامات الحكمة أكثر من تصديقنا قدرتها على إزالة الغموض، أو تفسير الأثمان (الإعجازية) التي ندفعها نتيجة لصلابته الأزلية. ربما يقف هذا التحريض من الشغف على الانفلات، الذي يتعدّى النطاق الديني وراء هذه الرحلة الروائية. التحريض الذي سيقودنا إلى محاكمة ذلك (الكليشيه) الذي يحتمي به الروائيون الروحانيون، أهل اليقين، والذي يضع الرغبة في التخلص من الحياة أو الإقدام على الانتحار كمرادف تلقائي وساذج للوعي بالحتمية غير المبررة للألم، ولإدراك العبث (الخارق) من المصادفات التعذيبية. يؤمن ريتشارد باخ بأن كل كائن في وسعه أن يكون «جوناثان» لو استجاب للنورس الذي يحيا بداخله كما يقول إهداء الرواية، أي أن يبقى وفياً للطموح والتحرر. أن يظل مخلصاً لشجاعة الخيال مهما كان العقاب.
«الخيال روح عتيقة. شخص ما يهمس في النفس، متحدثاً برقة عن عالم برَّاق وما يسكنه من كائنات، لها ما لها من مباهج وأحزان، من خيبات وانتصارات، حتى تتم الحكاية في غاية من الجمال، عدا أنها بلا كلمات بعد. يحرك الكُتاب الصور كأنها دوَّامة ليواكبوا الحركة التي يرونها، يتذكرون الحوار من بدايته إلى منتهاه».
لم تكن ترجمة محمد عبدالنبي مجرد إعادة كتابة في لغة أخرى، وإنما كانت طيراناً عفوياً بالكلمات، يتناغم مع الطبائع المتباينة لحركة النورس «جوناثان» المرتبطة بتبدلات أفكاره ومشاعره، بل ويماثل حالات الطيران الحقيقي التي عاشها، أي السفر في ما وراء حدود الزمان والمكان.
 جريدة (الحياة) اللندنية ـالثلاثاء، 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016