الجمعة، 8 أبريل 2022

قيامة الجثث النقية

“فلنغلق أعيننا برهة

ليمكننا أن نسمع الأم وهي تغسل الأطباق في المطبخ

ليمكننا أن نسمع السكاكين والشوكات وهي تسقط في الدرج

ليمكننا أن نسمع حفيف ثوبها في الممر

وابتسامة السيدة العذراء تطوف بحاجز الأيقونات

في الغد لن نكون مرضى بعد. أنظر في الترمومتر

ما يزال دافئًا من إبطنا

أبانا الذي في السماء

فلتقل لابنة عمي الصغيرة أن تأتي غدًا

كي نستطيع أن نقوم بنزهة قصيرة في الغابة مع الأيل

سأجمع لوزًا طازجًا لها

أيل أزرق سيأتي يا أبانا

لنستطيع النوم

أيل أزرق أزرق

يا أبانا

الذي

في السماء”.

ليست استعادة متحسرة للذكريات فحسب، ولكنها استعادة ساخرة أيضًا .. محاولة – عبر الإنصات المرتكز على إغماض العينين – لاسترداد الماضي كما حدث للمرة الاولى (الأم والأطباق والسكاكين والشوكات والترمومتر والغابة والأيل الأزرق واللوز الطازج) بغرض الانتقام التهكمي من الوعود الغامضة التي كانت تنطوي عليها تلك اللحظات الطفولية القديمة .. الثأر من الأب الذي في السماوات أو ما يفترض أنه الاب الذي في السماوات .. من الألوهة التي يمثلها ذلك الأب وتتجاوز صورته المهيمنة في عقيدة ما .. الألوهة الغيبية المبهمة التي تمتلك الحياة والموت.

يقرن يانيس ريتسوس بين ضميري المتكلم للجمع والمخاطب للمفرد، حيث (نحن) ليسوا فقط أولئك الذين تخصهم تلك الذكريات وإنما كل الذين كانوا أطفالًا ذات يوم .. الذين جربوا الحياة والموت .. (نحن) هم الجميع .. يضعنا ريتسوس في تلك الوضعية الانتقامية الساخرة من الأب الذي يخاطبه بواسطة إنصات كل منا لأصوات الماضي وتأمل مشاهده المتبددة بعينين مغمضتين .. يجعلنا نواجهه بذلك الرجاء المتهكم بأن يعيد الحياة إلى إحدى جثثنا النقية (ابنة العم الميتة) من أجل مشاركتنا في نزهة أرضية (جنة واقعية) تزيح أرق الغياب في فردوس متوهم.

لننتبه إلى الوجهين المتلازمين لآلية التكرار عند ريتسوس في هذه القصيدة: يوثق تكرار (الأيل الأزرق) كونه متعينًا، مرئيًا وملموسًا، في مقابل تكرار (أبانا الذي في السماء) المتنكر في صيغة الدعاء والذي يلح على كونه متسمًا بالنقيض أي غير متجسد .. كأن ريتسوس بهذا التضاد الناجم عن التكرار يطالب غير المتعيّن بأن يثبت كينونته كما تقتضي الحواس البشرية .. أن يصير متجسدًا، غير مخفي، أو متجردًا من الحماية كمقدس.

لا يكمن التهكم في أن كلًا منا يؤكد لذلك الأب بأنه يعلم تمامًا باستحالة تلك الإعادة، وإنما في أننا نعلم بأن ذلك الاب في حاجة لحياتنا وموتنا لكي يكون إلهًا .. أن وجوده المفترض (الإعجازي) يتأسس على حكمة تدعي الخير الخالص لترعى الجحيم الأكثر وحشية على الإطلاق .. ريتسوس يجعل من أشياء البراءة المبكرة (الإيمانية) أدوات لتشييد قيامة غاضبة .. عقاب منطقي لمصدر الألم، وليس تعايشًا راضخًا مع الفقد أو تبريرًا استسلاميًا للعنة العالم .. كأن هذه القيامة هي النزهة الحقيقية التي ستخلّص جثثنا النقية من العتمة السماوية المخادعة .. كأن هذا العقاب هو الذي سيمنح الحياة مجددًا بالفعل لكل جسد طفولي، محصنًا من الأبوة المختبئة.