الاثنين، 4 أبريل 2022

بين السابعة والتاسعة مساءً

ذات يوم فرد أبي سجادة الصلاة داخل حجرته ووقف عليها .. لكنه بدلًا من أن يصلي ظل واقفًا في صمت .. انتبهت إليه أمي فسألته لماذا لا يصلي .. رد عليها بصوت خافت ونظرة تائهة بأنه لا يعرف كيف يفعل ذلك .. حينئذ أيقنت أمي أن الزهايمر قد أحكم قبضته الباردة على رأس أبي فأعادت طوي السجادة وأخذته من يده ثم أجلسته في حجرة المعيشة .. منذ تلك اللحظة لم يغادر أبي البيت إلا إلى قبره.

خلال السنوات القليلة السابقة لذلك اليوم كانت حالته تتدهور بشكل متسارع .. تجسّد ذلك في تصرفات غريبة تكفلت بحمايتها صرامته المألوفة وحدة الطباع التي اتسم بها طوال حياته، وإن لم يكن محصنًا بالطبع ضد السخرية خاصة من الغرباء .. كان يقطّع الجبن الأبيض إلى شذرات ضئيلة ويوزعها بترتيب خاص في عِلب الثلاجة ولا يسمح لأحد بالإخلال بنظامه في الانتهاء من محتويات علبة قبل الأخرى .. كذلك الخبز؛ كان يشتري كميات كبيرة من الأرغفة ويضعها في أكياس بلاستيكية داخل الثلاجة بأعداد متساوية لكل كيس، ويشرف بنفسه على منحها لنا وقت الوجبات كي يضمن ألا يتناول فرد منا خبزًا من الكيس الخاطئ .. حتمًا كان اكتشافه لنقص في أحد الأكياس التي لم يأت عليها الدور بعد عند مراجعته اليومية لها فور عودته إلى المنزل؛ كان ذلك يثير غضبه بشدة ويدفعه للصياح بالشتائم التوبيخية تجاه ذلك الذي أخذ رغيفًا أو أكثر في غيابه من كيس مكتمل قبل انتهاء الكيس ذي المحتويات الناقصة .. يفعل ذلك أثناء انهماكه في معالجة الخلل بإعادة توزيع الأرغفة ثانية لتعود الأكياس الممتلئة كما كانت، وإخراج الكيس الذي مازال متبقيًا فيه بعض الخبز للاستعمال لاحقًا .. كان يُخزّن أيضًا أطباق البيض وكراتين الصابون وعلب مسحوق الغسيل تحت سريره ويتولى تنظيمها وتمريرها إلى خارج ذلك الظلام السفلي بحسب الحاجة لاستخدامها وهو ما كان يقرره شخصيًا وبالقدر الذي يراه مناسبًا .. بدا كأنه بواسطة تلك الممارسات الانضباطية تجاه الأشياء البسيطة كان يريد ـ كفرصة أخيرة ـ أن يثبت لنفسه واقعيًا ما ظل يتضاعف في يقينه على مدار العمر كوهم: التحكم في قدَره الذاتي.

خلال تلك السنوات اقتصر مسار خطواته خارج المنزل تدريجيًا على المسافة الصغيرة التي كان يقطعها ذهابًا إلى المسجد والعودة منه في أوقات الصلاة حيث كان يشير بالتحيات الحارة للعابرين الذين لا يعرفهم ولا يعرفونه أو يستوقف ساكنًا في الشارع أو جارًا لنا في العمارة ويسأله عن أشياء غير مفهومة، أحيانًا بما يبدو صيغة مداعبة تُظهِر رجاءً حقيقيًا .. كانت هذه الصيغة تمعن في إرباك ذلك الشخص الذي كان يتخلص من الموقف بعبارات مجاملة روتينية ثم استئذان في المغادرة سريعًا بضحكات مكتومة .. بدا كأن تلك التساؤلات هي نفسها التي كان يلاحقنا بها طوال الوقت داخل البيت لكن بأساليب أخرى ولم نكن قادرين على استيعابها .. كان ذلك في بداية الأمر قبل أن يتحوّل أبي إلى بطل لفقرة كوميدية شهيرة تبدأ عند ظهوره في الشارع أو فوق سلالم العمارة .. كنت أحيانًا أشاهد تلك الفقرة بالصدفة وأسمع بعضًا من كلماتها بعد خروجي من المنزل أو أثناء عودتي له فأسرع بالهروب خجلًا وغضبًا وقبل أي تورط .. وصل الأمر إلى حد أنه كان هناك من هؤلاء الجيران مَن كان يستوقف أبي ويبادر معه بالحديث عن تلك الأشياء غير المفهومة التي تعوّد الاستفهام عنها فيخلق ذلك الشخص حوارًا استهزائيًا لا يفطن أبي طبعًا إلى أنه يستهدف التهكم على ما صار إليه.

في ذلك الوقت كان أبي قد بدأ يفقد الكلمات .. أسماءنا وأسماء الأشياء وأسماء المشاعر التي تتملكه .. ثم بدأ يفقد السياق؛ الصلات التي تربط بين ما تشير إليه الكلمات الضائعة والمعنى الناتج عن تجاورها في ترتيب معين .. ثم بدأ يفقد وعيه بالأشخاص والأشياء والمشاعر؛ إذ لم يعد قادرًا على تذكر هويات البشر الذين يراهم ووظائف الموجودات المحيطة به والأفكار التي تلائم أحاسيسه .. لذا أصبح أبي صامتًا .. صامتًا تمامًا لسنوات كثيرة .. توقف أبي عن أن يسأل أحدًا وأصبح يحدّق فيما حوله وحسب .. كأنه لا يرى أي شيء .. لم تعد في عينيه نظرة الذهن الشارد، وإنما نظرة الشارد في غياب ذهنه.

كانت أمي تخرجه من السرير في الثانية بعد الظهر حيث ربما يكون مستيقظًا قبل هذا الموعد بمدة طويلة .. كانت تأخذه إلى الحمام في طقس يومي لا يتعطل لتنظف جسده الثقيل المتيبس من البول والخراء وتبدّل ملابسه ثم تقود خطواته البطيئة المهتزة إلى حجرة المعيشة لتجلسه وتبدأ في إطعامه من طبق طُحنت محتوياته جيدًا في الخلاط فتحولت إلى ما يشبه سائل يقدر على بلعه دون مشقة وبلا احتياج لمساعدة كبيرة من فمه الفارغ تقريبًا من الأسنان .. تعطيه الدواء وتتركه جالسًا حتى التاسعة مساءً تقريبًا وأحيانًا كثيرة قبل ذلك ثم تعيده ثانية إلى سريره .. لا يعني دخوله الفراش أنه سينام .. ربما يواصل التحديق في ظلام الحجرة دون أن يعرف في ماذا يجب أن يفكر .. كيف يكسب شعوره لغة .. دون علم بكيفية الاستجابة لمشاهد وصور الماضي التي قد يتأرجح ظهورها واختفاؤها داخل رأسه … كأنه دمية رجل عجوز تحلق في ضباب كثيف، وتداعبها أشلاء أجساد وأماكن ولحظات، تطفو من حولها وتتبدد على نحو فوري قبل أن تبوح بأسرار انتمائها لها .. قبل أن تستدعي هذه الدمية الدافع القديم لبلوغ الأواصر التي تمتد بينها وبين تلك الأشلاء المخاتلة بما يتجاوز الشعور المجهول بالوحشة.

بالنسبة لإنسان آخر فإن التوجه للنوم في هذا التوقيت بين السابعة والتاسعة مساءً ربما يعني أنك في وضعية النبذ خارج الحفل الصاخب للعالم .. الحفل الذي لا يقام أو يبدأ إلا في هذا الحيز الزمني من الليل، ويشارك فيه كل الأحياء على الكوكب عدا أنت .. لو أن أبي كان يشعر بذلك وهو مستيقظ في سريره فإنه حتمًا لن يستطيع أن يصف الأمر بهذه الطريقة داخل عقله .. ليس هناك عالم أو حفل أو بشر في دماغ أبي .. لكنه يدرك نقصانه، عجزه، وحدته، بالضبط مثلما يدرك الطفل كل هذا قبل أن يتعلم اللغة .. الفرق أن البكاء هو التعبير التلقائي للطفل عن إحساسه الغامض بالنبذ .. كأنه يطالب الحياة دون قصد بأن تسمح لعمره البادئ التكوين بالمرور دون ألم .. لكن أبي تجرّد من تلك القدرة العفوية على تحويل جروحه المبهمة إلى دموع .. اُنتزعت من روحه الإرادة الغريزية لاكتشاف اللغز .. كأن جسده يعرف بأن ما تبقى له من عُمر لم يعد يستدعي ذلك.

خلال تلك السنوات أيضًا كنت شابًا في بداية العشرينيات يقوم بأشياء طبيعية: أدرس في الجامعة .. أجلس مع أصدقائي في المقهى .. أمارس الجنس مع حبيبتي .. أقرأ .. أكتب .. أحضر ندوات .. أسافر للعمل والتنزه .. أسأل كل من أعرفه بصيغ مختلفة: متى يخرج القناع من الصندوق الزجاجي؟ .. لماذا لا تظهر الأجنحة في المرآة؟ .. كيف يتلصص الرماد على البحر؟ .. ما الذي تخفيه الصرخة عن النعش؟ .. متى تشنق الغيوم نفسها؟ .. أين يختبئ الظلام؟ .. هل يمكن لقلب أن يحرق السماء؟ .. لم يكن هناك أحد يستطيع إجابتي .. كانوا جميعًا يردون بعدم المعرفة أو بالإجابات غير المقنعة أو بالتجاهل .. كانوا يسخرون من أسئلتي في كل الأحوال.

مات أبي في الرابعة والسبعين من عمره .. ذات يوم دخلت حجرته شقيقتي الكبرى ـ التي تولت رعايته بعد موت أمي ـ في تلك الفترة بين السابعة والتاسعة مساءً كالعادة لتطمئن عليه .. وجدته مستلقيًا في السرير على ظهره بعينين مفتوحتين، فارغًا من الحياة .. كان مستيقظًا ويحدق في الظلام حين وصل الموت إلى الأورجازم داخل قلبه .. اتصلت بي شقيقتي فحضرت سريعًا من بيتي وظللت جالسًا وراء باب حجرته أراوغ الذكريات التي تطارد ذهني .. كان الجميع يدخلون إليه لإلقاء النظرة الأخيرة، أما بالنسبة لي فقد كان ذلك أمرًا مستحيلًا .. كان النظر إلى وجه أبي الميت بمثابة تقديم تهنئة لمنتصر وضيع في حرب غير عادلة.

عمري الآن خمسة وأربعون عامًا .. ما زالت ذاكرتي جيدة، وربما أكثر مما يجب .. ما زلت أتعامل مع الجبن والخبز والبيض والصابون ومسحوق الغسيل كما يتعامل الشخص العادي .. لكنني توقفت عن الخروج من البيت منذ سنوات بإرادتي .. كان هذا منطقيًا أيضًا .. احتفظت بالأسئلة التي لم يستطع أحد الإجابة عنها لنفسي، وأصبحت راضخًا لمتعة تقليدية بأن أتوجه للسرير فيما بين السابعة والتاسعة مساءً.

موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 1 إبريل 2022
اللوحة: Edvard Munch