الأحد، 5 فبراير 2017

حكاية مطولة عن تمساح نائم‮: ‬العـود الأبـدي للشــعر‮

كأن إبراهيم البجلاتي قد قرر في ديوانه (حكاية مطولة عن تمساح نائم) الصادر حديثاً عن دار (ميريت) أن يسرد شعرياً حكاية التمساح التي لم يحكها الحكيم (رويان) للملك (يونان) في قصة ألف ليلة وليلة حين أمر الملك بقتله فقال له الحكيم: (أيكون هذا جزائي منك، فتجازيني مجازاة التمساح)، قال الملك: (وما حكاية التمساح)، فقال الحكيم: (لا يمكنني أن أقولها وأنا في هذا الحال فبالله عليك أبقني يبقيك الله).. هي حكاية معروفة بأنها لم تروَ قط، لكن يبدو أنها ظلت كذلك حتي كتب (إبراهيم البجلاتي) هذه السيرة الشعرية لذلك التمساح المتحوّل إلي حيوات متعاقبة بقوة التهديدات والمصادفات المميتة، والاستعادات المتتالية للوجود في تجسيدات مختلفة..عالم مشيّد بالكوابيس العجائبية المتلاحقة، وبالمتاهات الأسطورية التي تبدو كأنها تنتمي لعتمة مسكوت عنها في ألف ليلة وليلة،ويمكن أن يُعد هذا المقطع اختزالاً لها:
(جئت من أماكن كثيرة/ فوق هذه الأرض/ تحت هذه الأرض/ أعود/ إلي أين؟/ أعود/ كما كنت؟/ منبوذا/ صيادا كسولا/رسام أقنعة/ تمساحا/ قطا يأكل الأحلام/ تمساحا صامتا/ رأسا بلا ذيل/ لصا/ طائرا بلا حرية الطيران).
لا تقضي فكرة (العود الأبدي) عند (نيتشه) علي الحرية بل تخلصها من الحاجز الذي كان يحد منها حتي الآن، حاجز ثبات الماضي. فلما كان الماضي هو المستقبل ـ بحسب العود الأبدي ـ فإن النفس حرة فيما خُلق وفيما لم يُخلق. ومن يعرف العود الأبدي يشعر أنه فوق كل استعباد للزمان. إن (الآن) ليس هو اللحظة الهاربة، بل هو التصادم بين المستقبل والماضي. وفي هذا التصادم يستيقظ الآن علي نفسه ويعي ذاته "1".. تتسم هذه الحرية النتشوية للعود الأبدي عند (إبراهيم البجلاتي) في كونها لا تعيّن قطيعة بين الحيوات المتتابعة التي يتم التحوّل إليها، بل يبدو الأمر أقرب إلي الامتزاج والتداخل، كأنه مشهد واحد لدائرة تعيد خلق نفسها بصور متباينة.. يجعل (البجلاتي) أيضاً من تفاصيل كل حياة شروطا جمالية للحياة التي تعقبها..كأن التهديدات والمصادفات أو (ما خُلق وما لم يُخلق) في كل وجود، يصير مكونات تأسيسية للوجود اللاحق، التي تحاول أن تقاوم جحيمها السابق.. هنا ينشأ الصراع الذي لا ينتج تراكما في طريق تعرّف (النفس) علي ذاتها عبر الأجساد المتوالية، وإنما الصراع الذي يواصل بناء الحلم المجازي لهذه النفس.. كأن العود الأبدي لا يسعي إلا لتحقيق هذه الغاية باعتبارها الظل الوحيد الذي يمكن امتلاكه، داخل هذه السيرة الممتدة من التحولات العابرة.. هذا الظل هوالغموض الذي ينبغي أن نتحرك بداخله لنتأمل الأم التي تبكي طفلها، والعاشقة التي تبكي حبيبها المفقود.. أن نبني هوية من الأداءات المتحسرة دون أن نصل.
(وبيد راجفة فتحت فمها الموارب/ وشهقت مثلها شهقة عظيمة/ الجوهرة كانت مرشوقة في حلقها بالفعل/ الجوهرة/ لم تكن غير واحدة من رصاصاتي الطائشة).
هذا ما يحكم الصراع.. الجوهرة التي كان يُفترض أن يُبني من ثمنها أكبر كوخ في الجزيرة، وأن يتعلم الأطفال العرايا الرقص ودق الطبول وأسماء النجوم والمشي بالليل ستكون هي الرصاصة الطائشة.. المستقبل المقتول سلفاً بإرادة الماضي.. تفاصيل الأمس التي تصبح شروط اليوم دون معرفة بأن الخطوة أكثر من مجرد أثر.. الكابوس هو ما يعطي المشهد هذه الطاقة الرمزية..الطبيعة الإيحائية الناصعة، أو ما يمكن اعتباره الحكمة البلاغية المضادة..هذه الكيفية يمكن القياس عليها كل خطوة للتحوّل.. كل وعي لإعادة التقمص، التي تؤكد التكرار عن طريق اللعب بالصور المتغيرة.. كأن هناك جوهرا خفيا يتم تشكيله بواسطة هذا التلاحم بين المرايا،والتي تتواجه في أبدية خاصة.. وجود قهري من حيل التبادل والمحو.
(بعضهم يترك جسده هناك/ ويبيت عندي/ نشرب أنخابا كثيرة/ غالبا كانوا مخابيل في العالم الأول/ ولهم حكايات كثيرة/ حكايات لا تنتهي/ حتي بعد أن نسكر تماما/ ونحطم أكواب الفخار/ أو نجرح بعضنا بالسكاكين/ يظل بعضهم يحكي/ وأنا أسمعهم وأضحك/ وأنا أسمعهم وأبكي).
إذا كان الحلم المجازي هو بديل المعرفة، فإنه سعي جمالي في نفس الوقت لتشريح عدم القدرة علي الحسم أو التوقع بما يمكن أن تتخذه العلاقة مع الآخر.. (إبراهيم البجلاتي) يوسّع هذا الحضور للآخر ليس فقط بجعله أشكالا متعددة للذات، وإنما بجعل هذه الأشكال ممتلئة أيضاً بكافة الأرواح التي لم تتجسد علي نحو مباشر.. تتحدث (جوديث بتلر) في كتابها "الذات تصف نفسها" عن الجرح الذي يشهد علي حقيقة سرعة التأثر، الذي يجعلها (ممنوحة إلي الآخر بطرق لا تستطيع أن تتنبأ بها أو تسيطر عليها تماما) "2"..كأن هناك في هذه السيرة الشعرية ما يدفع بالحلم نحو تجاوز الذات.. أن تكون سيرة لكل (الآخرين)، ولكن بأن يكون (الجرح) هو المركز (المبهم) الذي ينطلق ويعود إليه هذا التجاوز.. هنا يمكننا التفكير في أن عدم القدرة علي الحسم أو التوقع يمكنه أن يتحوّل إلي شكل للتناغم بين الذات ونفسها بواسطة الآخر.. لكن هذا التناغم يتعيّن عليه أن يستمر في إثبات نفسه بواسطة الاستمرار في (العود الأبدي)، والذي سيحافظ أيضا علي انتماء الآخرين للحلم المجازي الذي تكفلت الذات ببنائه.
(طوال الليل لم أقل كلمة واحدة/ وليس لي حكاية مثلهم/ كأنني الوحيد الذي عاش دون أن يقصد).
ما أتصوره دائما هو أن الآخر لابد أن يبدو بالنسبة للذات قادرا علي أن يثبت امتلاكه لحكاية، وأن لديه القدرة علي سردها.. هكذا تفكر الذات التي تظن أنها الوحيدة الملعونة بهذا العجز، حتي لو لم يكن هذا صحيحا بالفعل في وعي الآخر الذي يستوعب فقدانه للحكاية.. لكن ما المقصود بالحكاية؟.. نحن نتحدث عن نسق من البديهيات المرتبة والمنسجمة التي ينبغي أن تصل إلي نتيجة.. هذا النسق يتخذ دائما صيغة فردية، عاطفية ربما، ولكنها لن تصير شيئا في اليقظة بقدر ما ستكون جوهرا للعالم عندما يتم تفتيتها عبر الحيوات المتعاقبة..تجسيدات التمساح النائم التي تأخذ التهديدات والمصادفات من هيمنة(المعني) إلي غواية (الأداء).
(كأني ابتلعت "سفينة الحمقي" وعلي متنها ألف راكب/ كأني ابتلعت البحر/ موجة تشيل وموجة تحط/ بين الجشع والجنون نمت كتمساح حقيقي/ يضرب الكهف بذيله/ يعض مخدات الريش بأنيابه المائلة/ يزحف نحو الكهف الأول/ يأكل قطيع البقر المرسوم علي الحائط/ ويلغ في الدماء).
في كتابه (جماليات العجيب والغريب)، أشار (علي الشدوي) إلي أن (ألف ليلة وليلة) عودتنا علي ألا تروي إلا الحكايات الجديرة بالإنقاذ من الموت، وعلي امتداد حكاياتها العجيبة والغريبة تغمد السيوف وتطوي النطوع، وهذا يعني أن هناك حكايات لم ترو لأنها لم تنقذ حياة أحد، ومن ضمنها حكاية (التمساح) "3".. أتصور أن (إبراهيم البجلاتي) بقدر ما خرج عن ما يشبه مبدأً تم تحديده في هذا الرصد، بقدر ما التزم به..إنه يدرك أن حكاية التمساح النائم لن تنقذه من الموت ومع ذلك أراد أن يجعلها احتمالا لهذا الإنقاذ..الحكاية تجعل من الألم شيئا كونيا، منطويا علي ما هو أكثر مما تدعيه حدوده في الواقع.. تعطي الحكاية الدلائل المؤكدة علي إمكانية ابتلاع السفن والبحار وقطعان البقر..لهذا فالعود الأبدي ليس حركة انتقال خارجي بل هو في المقام الأول ـ ومازلنا نتحدث عن الحلم ـ تبدلات لحظية داخل الجسد.. تحولات تتم طوال الوقت لأرواح مختلفة، وما كان علي الشعر إلا أن يقبض علي تلك التجسيدات غير المرئية..إن الطائر الذي يأكله التمساح بعد أن يخلّص أسنانه من اللحم العالق كما اعتاد البشر علي شرح المقصود بـ (مجازاة التمساح) ليس إلا ـ بحسب ما أخبرنا (إبراهيم البجلاتي) بشكل ضمني ـ ليس إلا نسخة من التمساح نفسه.. كأن كل حياة للذات تعيش علي حياة أخري لها، وكأن هذه الذات لا تحلم وإنما هي الحلم ذاته، الذي يعيد تكوين نفسه في نوم الآخرين..العود الأبدي إذن ليس رحلة مستقلة، منفصلة، ومتباعدة، وإنما هي تلازم بين ميتات مستمرة.. رعب واحد يمر عبر أجساد متباينة، ومؤقتة، بحيث يمكن لأي منا أن ينظر إلي روحه (الشعرية) ـ مثل كل التماسيح الأخري ـ كعلامة تجارية علي قميص.
1
ـ فريدريش نيتشه (1844 ـ 1900) ـ منقذة العلان/ معابر ـ سوريا.
2
ـ الذات تصف نفسها/ جوديث بتلر ـ ترجمة: فلاح رحيم/ دار التنوير 2014 .
3
ـ جماليات العجيب والغريب، مدخل إلي ألف ليلة وليلة/ علي الشدي ـ نادي جدة الأدبي 2004 .
جريدة (أخبار الأدب) 2/4/2017