الثلاثاء، 14 فبراير 2017

الفن والتفكيك وما بعد الثقافة

(إذا كانت الثقافة قد تشكلت عبر مجموعة من الروايات التي كانت تحكي التاريخ، فمعنى هذا أن ثقافتنا مبنية على مجموعة من الاستعارات التي تعمل على بقاء الحكاية في سياق محدد بالنسبة للمتلقي مهما تعددت الروايات. التفاحة في حكاية الخروج من الجنة تنتقل ـ بوصفها استعارة ـ إلى حكايات أخرى لتعيد إلى الأذهان حكاية الخطيئة الأولى).
في كتابه (عملية تذويب العالم) الصادر عن دار (روافد) ينزع الكاتب الكبير (سيد الوكيل) اليقين عن المعرفة التي سادت عصور الحداثة، وأسست بواسطة علاقات القوة صورًا نمطية عن الفرد، وحددت المفاهيم النظرية لهويته. لقد تحوّلت الذات من قرار أيديولوجي إلى احتمالات متحررة، خارج السياقات العقلية، وهو ما أنتج بالضروة مواجهات بين الماضي الفلسفي كمكوّن للوعي، والأنقاض الناجمة عن هدم المراكز المثالية التي احتكرت (القيمة) سواء على المستوى الوجودي، أو فيما يتعلق بالثقافة كإرث من الحقائق الأخلاقية المهيمنة. يناقش (سيد الوكيل) بإحاطة ملهمة أثر هذه التغيرات، وطبيعة التبدّل في تفاصيل الواقع اليومي لما بعد الحداثة، مثبتا (التشريح) كفضيلة أساسية، أو هاجس جوهري لمراقبة آثار السلطة، وتتبع البصمات المتعددة لتقويضها. كأن الوهم يتم الانتقال به من كونه حصيلة ناجمة عن التفكيك، إلى جعله شأنًا جماليًا يمكن من خلاله مراقبة (التذويب)، وإعادة تجسيده في أشكال مختلفة. تحويل عوامل الصراع إلى عناصر للخيال الفردي ليس للاستمرار في تشكيل وجود الذات فحسب، وإنما لجعل الفعل الثقافي أداءً فنيا لا يخضع لخطاب السلطة، ولا يقصد الانحياز سوى لعدم الاستقرار على أي من القواعد التي سبق أن تكفلت الهوامش بإزاحتها.
(تاريخ التطور البشري هكذا، تدريبات على الإدراك، إدراك العلاقة بين الحركة والسكون، وبين الليل والنهار، بين العادي والمقدس. هذه أشياء قد تبدو متناقضة، لكن هناك علاقات أخرى، ليست على هذا القدر من التناقض الواضح، مثلا: العصا، ليست هي الشجرة، لكن ثم درجة من التماثل بينهما، ومع ذلك فكل منهما يحتفظ بتفرده وتميزه).
يكتب (سيد الوكيل) ما يشبه تاريخا لمصر وفقا لهذا التأمل للتناقضات بدرجاتها المتعددة، فهو يتتبع الخطوات التأسيسية للمشهد الثقافي عبر مراحل عديدة، لكنه الصوت الذي لا يرصد بقدر ما يكتشف ويعيد صياغة الأوجه الممكنة لهذا المشهد خصوصا للعلاقة بين تساؤلات التغيير المقترنة بـ (العولمة) من جانب، والاستهلاك من جانب آخر، أو بين الاستفهامات المطروحة لوسائل التعبير العصرية، والأحلام الكلاسيكية للقمع التي تشكل ملامح ومعايير الأنظمة السياسية، والتي تقف (الصورة) في وضع عدائي لها.
(هذا الدور كان مرتبطًا بكون الفن رسالة عظمى ذات قيمة إنسانية، وليس مجرد منتج سلعي يخضع لشروط العرض والطلب. وفي هذا الصدد، فمع بداية الألفية الجديدة، طالعتنا دار النشر الأكبر بمصر "الشروق" بحزمة من الإجراءات التي ربطت الإبداع الأدبي، بل والمبدع نفسه بآليات السوق، وأنماط الإنتاج المختلفة).
يتخطى (سيد الوكيل) تحليل الأنقاض الفلسفية للحداثة إلى تأمل علاقة الفرد بمفهوم (الهوية) داخل هذا الإطار من التقويض. تبدو (الفردية) في حد ذاتها ـ بعيدا عن اليقينيات المثالية ـ أقرب إلى انشطارات متواصلة، خارج موضوع (الحقيقة)، وهذا ما قد يجعلنا نقارب فرد ما بعد الحداثة باعتباره ممرًا ملتبسًا من المعطيات المتغيرة، الممزقة سلفًا. أن نختبر كيف يمكن لعدم الاستقرار (الدلالي) لوجود الفرد أن يرسم الصورة المراوغة لما بعد (الثقافة)، والتي تتجاوز حدود هذا الفرد . إذا كان الكتاب يتناول (التذويب) كأداء مضاد لهيمنة الإجابات الحداثية، وما تفرضه من علاقات القوة والمعرفة؛ فإن (التذويب) هو أداة للتطلع لما يمكن أن نسميه بـ (الأنساق الافتراضية البديلة) الناتجة عن خلخلة المقدسات الأيديولجية، وكذلك لتأمل علاقة الفرد بفكرة (الهوية) في حد ذاتها، في ضوء هذا الهدم للنظريات. هو أيضًا وسيلة لتفحص الطبائع الجدلية للتحولات التي تنشأ عن النزاع بين الأوهام التنويرية، وتحرير مفهوم (الثقافة) من المعنى، وأيضًا للكيفية التي تحوّلت بها هذه الطبائع إلى تصدعات متواصلة للذات محل الصراع.
قرأت هذا الكتاب الرائع بوصفه انتصارًا للسردية الشخصية التي يمتلكها كل منا سواء تلك التي كتبت أم لا، والتي يستطيع بواسطتها أن يثبت ـ على نحو خاص ـ أنه لم يكن هناك ذات يوم من (الحكايات الكبرى) سوى مصطلح شائع.
موقع (زائد 18) ـ 13 فبراير 2017