الأربعاء، 1 فبراير 2017

«كلهم على حق» لباولو سورنتينو ... ثرثرة عدائية

بنبرة ثملة تستحضر الإيقاع المحموم والهازئ لتشارلز بوكوفسكي، ينفجر الهذيان السردي للمخرج الإيطالي الحاصل على أوسكار أحسن فيلم أجنبي 2014 باولو سورنتينو في روايته «كلهم على حق»، التي ترجمها إلى العربية معاوية عبدالمجيد، وصدرت حديثاً عن مكتبة «تنمية» في القاهرة، و «منشورات المتوسط» في ميلانو.
ما من مجال للتمهل أو لكسب معرفة ما بعد تجاوز تلك العتبة التي اختار سورنتينو أن تتمثل في كلمات هنري ميللر: «حين تصعد الروح، يمضي كل شيء في يقين مطلق، حتى لو كنا في خضم الفوضى». كأن الرواية هي سيرة فضائحية متخيلة لليقينيات المطلقة التي صارت إليها الأشياء كافة بعد صعود الأرواح. هنا تتحول المتناقضات والظنون المتصارعة كافة إلى احتمالات مؤكدة وهواجس بديهية، تتبدد في ظلامها الحقيقة الكلية الواحدة، والأصل المتعالي المتفرد.
عبر الخطوات المتبجحة للمطرب «طوني باغودا» بطل روايته؛ يصل باولو سورنتينو بكائنات الفوضى إلى الذروة القصوى من الطيش، فيعيد إلى كل عنصر في الوجود طبيعته كيقين، مهما كانت هشاشته أو تفاهته أو عبثيته المتنافرة مع كل الاعتبارات المنطقية الأخرى. هذه الذروة القصوى قد تكون المعادل اللائق بصعود الأرواح، الذي لا ينجم من الموت فحسب، وإنما من الخواء والضجر في المقام الأول. عن الغياب المهدِد والحاضر، كأنه العدم الذي يسبق فناء الجسد، ولهذا ستتحول الكتابة عند سورنتينو إلى صوغ لعذاب ذاتي من الغوايات المقبضة داخل جحيم الحياة والموت. اندفاعات متلاحقة من المرح المأساوي، يتجرد معه كل شيء مما كان يُعتقد أنه قيمة أو هوية. تبدو الأفكار والمشاعر كافة كأنها في خطرٍ دائم، منذورة للهدم والتلاشي أمام تلك العواصف الحكائية الكثيفة التي تقودها الشهوة والكراهية. في الهذيان؛ الجرائم كافة متاحة، وهذا ما تستثمره الرواية جيداً، كأنها تذكرنا طوال الوقت بالمعنى المقابل لعنوانها؛ «لا أحد على خطأ».
هكذا امتلك باولو سورنتينو حرية اللعب بذلك المونولوغ الاعترافي، والخيالي الهائل لمطرب النوادي الليلية، ومدمن الكوكايين، وعاشق النساء، من طريق الإسراف التهكمي في الاستطراد، والتمادي في الاسترسال خارج سياقات السرد، والاقتحام المفاجئ لعوالم متباعدة، والانتقال غير الممهد بين أزمنة مختلفة، والاستغراق في الشطحات التشبيهية، والتركيبات البلاغية المنفلتة من أطر الحكي. كان سورنتينو يشير إلى إدراكه لهذه الثرثرة العدائية التي يمارسها، كأنه يعطينا تأويلاً مسبقاً بأن هذه الثرثرة تعتبر جانباً جوهرياً من السخرية التي يحطم بها القناعات الجمالية مثلما يحطم قواعد الخلاص.
ليس هناك ما يُسمى الخط الدرامي المتصاعد في «كلهم على حق»؛ بل يجابه أذهاننا متن متصدع، مقسَّم بأرقام بديلة لعناوين الفصول إلى ما يشبه الشذرات الطويلة الحادة، المحكومة بالتفكك مع الاستقلال النسبي لجزيئياتها. هذا التصدع ليس مجرد أثر شكلي للطيش، بل تجسيد لذلك الامتزاج بين الشهوة والكراهية. بصمات متوترة للعنف غير المنضبط، الذي يُصفي العالم من أوهام القوة والتماسك، ومن الهيمنة المدعية للعواطف والأخلاقيات.
إنقاذ الحياة والموت من الأفكار البائسة للحب، والوصول إلى ذلك التعاطف الاستثنائي، الخارج عن كل إحساس وعقيدة وجدوى. كأننا أمام رومانسية كونية مضادة، متخلصة من حماقة الدوافع والمبررات المألوفة والمبتذلة، والتي لا تخضع لحكمة مثالية. يوفر باولو سورنتينو كل اللامبالاة اللازمة لقتل الثقة في الامتلاك، والإنكار الملائم لنزع الحماية عن التوحد والتماثل داخل المعايير المشتركة للتسامح ومراوغة الألم. لقد جعل روايته احتفالاً جنونياً بالتباين، أي الشيء الوحيد الذي ذكر المايسترو ميمو ريبيتو أنه يحتمله في تقديم الكتاب. جعلها تكريماً وتقديساً للاختلاف والتضاد والتناقض، أي كل ما يضمن عدم التشابه، وكل ما يؤكد عدم احتياج الفرد للدفاع عن عذابه الخاص في وعي الآخرين.
في كل مشهد من الرواية يخلق صاحب فيلم «الجمال العظيم» عيوناً لانهائية، نهمة، لا تشبع من تشريح التفاصيل المتراكمة داخل الكادرات السردية، كما أنها تمتد أيضاً داخل لحظات الحكي لتتفحص ذاكرة المشهد، كأنها تسافر في اتجاهات متناثرة عبر عتمة غيبية لتبني جسوراً هزلية بين هذه الذاكرة وأشباح أخرى، قد تبدو غريبة عنها. كأن باولو سورنتينو يمنح كل كادر وفرة من الأماكن والأزمنة التي لا تتوقف عن التكاثر؛ فيجعل المشهد أقرب إلى حلم اليقظة، غواية من الانطباعات المرتجفة، التي تتنازع مع المراوحة الشبقية بين الحضور والغياب. هذا الأداء ليس تعبيراً عن الحق الذي يمتلكه كل من ينتمي إلى كادرات الرواية فحسب، ولكنه كذلك بمثابة إعطاء السخرية أكبر مساحة ممكنة لتفتيت العلاقات، وتحطيم فكرة الذات عن نفسها خصوصاً في أوقات التباهي، والتنظير لقدرتها على حسم العالم. لم تكن كلمات هنري ميللر هي التصدير الوحيد، بل بدأ باولو سورنتينو كل فصلٍ بعبارات من أغانٍ لمطربين إيطاليين، كأنه يحاول العثور على بلاده وفقاً لهذا التواطؤ بين الرواية والأغنيات.
لن تتيح تلك الجُمل لبصائرنا التنقيب في خفاء هذه البلاد كما أرادت «كلهم على حق» أن ترشدنا فقط، وإنما ستعيد الرواية نفسها أيضاً اكتشاف هذه الأغاني بواسطة أجساد العابرين داخل حكاياتها، وهي الغنيمة التداولية التي يمنحها التناص، التي تجعل من التصدير ممراً للتعددية، والتغيّر، وعدم الخضوع للسيطرة، أو ما يُسمى «التعالي النصي» الذي اقترحه جيرار جينيت، وهو كل ما يجعل النص في علاقة ظاهرة أو ضمنية مع نصوص أخرى. لقد أراد سورنتينو منذ الفصل الأول أن يجعلنا أثناء الحفل الغنائي لـ «طوني باجودا» في مسرح «راديو سيتي ميوزيك» أن نتوقع ونتخيل بطريقة ما تلك الكلمات التي أنهى بها «كلهم على حق»: «الشمس غابت. الحلم انتهى. لكنني لم أستيقظ منذئذ. انتظريني لحظة يا بياتريشا. ها أنا قادم إليك».
جريدة (الحياة) اللندنية ـ الثلاثاء، 31 يناير/ كانون الثاني 2017