الجمعة، 9 ديسمبر 2016

محمود الورداني يكتب عن (بعد كل إغماءة ناقصة): الموت إذن لا يدعو للخوف

لا أظن ان هذه الفورة التي يشهدها الانتاج الأدبي في مصر الآن مفاجئة, أو انها نبتت وأينعت واثمرت فجأة ونحن نيام مثلا, بل هي ثمرة عدة سنوات, ربما منذ بدايات الألفية الجديدة وإذا كنت لا أميل ولا أصدق ان هناك جيلا أدبيا من الممكن ان يظهر كل عشر سنوات, حسب التقسيم الشائع وغير العلمي, الا انني اود ان اؤكد ان الدماء الجديدة التي تتدفق الآن في عروق الانتاج الأدبي لشباب الكتاب ينبغي قراءتها جيدا والتعريف بها وآثارة النقاش حولها.
والسطور التالية تتخذ من كتاب “بعد كل اغماءة ناقصة” لممدوح رزق والتي صدرت اخيرا عن دار المحروسة نموذجا لمحاولة فهم او حتي الاقتراب من انتاج الكتاب الجدد, غني عن الذكر انني لست مؤهلا كناقد, وكل ما أكتبه مجرد محاولة للفهم, أو مشاركة لكاتب, لا تنظير اذن وليس هذا إقلالا من شأن التنظير بل احتراما للتنظير في حقيقة الأمر.
وقد أتيح لي قبل قراءة نصوص ممدوح رزق المشار اليها ان اقرأ بعض الأعمال التي فاتني ان اقرأها من قبل علي الرغم من انها صدرت في العام الماضي مثل “بجوار رجل أعرفه” لمحمد فتحي المجموعة القصصية الصادرة عن دار ميريت ورواية إنسان ماقبل الديمقراطية الصادرة عن دار ملامح لإسلام محمود ورواية “كيريا لسون” الصادرة عن الدار لهاني عبدالمريد ورواية “أني احدثك لتري” لمني برنس والصادرة عن ميريت وبعد أن يخرج الأمير للصيد وهي متتالية قصصية لمحمد عبد النبي صادرة عن دار ميريت ايضا, وغيرها من الأعمال القصصية والروائية, الا أن ما ذكرته من عناوين ليس عشوائيا تماما فأغلبها اعمال تخطف الروح حقا, وتشير إلي ان الدماء الجديدة التي تتدفق في عروق الأدب المصري سوف تؤدي إلي ازدهار لن نلبث ان نراه متجسدا في أعمال جديدة, خصوصا ان قصيدة النثر العامية والفصحي بل وبعض المدونات يشكل بعضها قفزات نوعية ان كل هذا لا يمكن ان يكون ظواهر عارضة انما إرهاصات لكتابة جديدة ذات ملامح تنتظر ان يتناولها النقاد الغائبون.
علي أي حال لا تنتمي نصوص ممدوح رزق في كتابة بعد كل اغماءة ناقصة لجنس أدبي محدد, فهي نصوص مفتوحة تتحلى بأكبر قدر ممكن من الجنون, ولا يقتصر تمردها علي السائد من التقاليد الكتابية والأخلاقية, بل يتجاوز ذلك إلى التمرد علي “الأشكال” المستقرة.
غير ان رزق لا يهمه ان يحطم الشكل السائد فقط, انما يهمه ايضا ان يؤكد ان تلك الأشكال (اي قصة او رواية او متتالية. الخ) ليست اصناما علينا ان نسبح بحمدها!
وفي الوقت نفسه تستفيد هذه النصوص المفتوحة من كل الأجناس والأهم انها قادرة أيضا علي الاستفادة من الفنون غير الكتابية مثل السينما والفن التشكيلي.
من المهم ان اؤكد ان تلك النصوص ليست “خواطر” او تهويمات في سديم غامض, وهي ليست ايضا كتابة عبر نوعية, انها كتابة مفتوحة علي كل الاحتمالات وعن أهمية الانفجار تسعي للقطيعة مع ما سبق, وتحتفظ مع ذلك بوشائج مع أفضل التقاليد الكتابية المصرية, اي مع ذلك النهر المتدفق من الكتابة المكتشفة والمتمردة دوما.
يلقي الموت بظلاله علي أغلب النصوص علي سبيل المثال لكن الموت لديه لا يدعو للأسي ولا يستوجب الصراخ, بل يجري تأمله علي نحو بارد يحتفظ بمسافة كافية بين الراوي وبين الموت, ففي نص “دروع بشرية لحراسة الغيب”.
يقوم الراوي بسرد حياة كاملة للأم والأب علي مدي خمسة وعشرين عاما تنتهي بزهايمر يأخذ الأب إلي القبر, وانسداد في الامعاء يأخذ الأم إلي قبر مجاور بينما يظل الابن هو الكارثة الكبري في حياتهما لانه كان متكاسلا عن الصلاة والمذاكرة ولم يقل لهما قولا كريما.
لاصراخ ولا أسي, بل عداء واضح واستبعاد لأي قدر من العاطفية او الغنائية, وهو ما أدي في الوقت نفسه إلي استبعاد البلاغة التقليدية والتوشية والانسياق وراء الاعيب اللغة الفارغة, انه يسرد حياة كاملة تخلو من اي دفء لأسرة مصرية لا تملك القدرة علي السعادة ولا يحتاج من اجل ذلك الا الي عدد محدود جدا من السطور.
وفي النص الذي افتتح به كتابه “آدم وحواء” ينهيه قائلا: أعرف رجلا وامرأة سيموتان بالتأكيد قبل أن يتوقفا ذات يوم فجأةعن كل شيء ويخرجان معا من بيتهما لينظرا في عيون العابرين بالشوارع لأسباب وراثية ايضا ويقولان لهم: (العالم محزن جدا) ثم يصمتان ولا يخبرانهم بشيء ابدا مهما سألوهما عن السبب أعرف رجلا وامرأة سيموتان بالتأكيد.
الموت إذن لا يدعو للخوف, بل ينبغي احتقاره ببرود علي الرغم من ان (العالم محزن جدا) وعلي الرغم ايضا من ان الحياة ذاتها ميتة, والجنس يتم ممارسته علي نحو شبه آلي في نص “بقدرة أعمي يكفي فقط ان أذكر عناوين بعض النصوص ما لا يلزم الحفار في مهمته (حفار القبور) اكثر من طريق إلي مدافن الأسرة, صديقتنا الميتة (الحياة) لكل ميت رومانسيته ما يمكن ان يأخذه الموت في الاعتبار, وهكذا نجد الموت هاجسا مخيما وملقيا بظلاله علي أغلب النصوص.
وفي النهاية, القارئ امام نصوص مقتحمة جريئة تحتفل بالجنون والتمرد, لكنها لا تسقط في ماوي العدمية. وتسهم مع نصوص اخري يكتبها شباب الكتاب في صياغة بلاغة جديدة, بلاغة المشهد وزاوية الالتقاط والخيال المختلف. 
الأهرام المسائى 
19 / 10 / 2009