السبت، 3 ديسمبر 2016

في رفقة المعزين‮ :‬شعرية التناثر

هناك معرفة جمالية بوسعها أن تتكوّن لدينا عبر قصائد ديوان (في رفقة المعزين) الصادر مؤخرًا عن دار (عرب) عما يمكن أن يعد تعريفًا للشعر عند (حسني الزرقاوي).. إنه تشكيل لخبرة مشهدية من الشذرات التي يخلقها الارتجال، مجردة من اليقين.. تجربة بصرية تواجه العالم بغياب التماسك بين تفاصيلها، كأن هذا التناثر المتعمّد هو الدافع الوجودي لتعيين نفسها كواقع محتمل من الاستفهامات..يتكوّن المشهد في هذه القصائد كفضاء مجازي من العلامات المتنازعة بين المرئي والاستدعائي والتخيلي كأنها حواس مستقلة للنص، أو كأنها أشلاء الذات وقد تحوّلت إلي إشارات جدلية من لغة تم بتر أطرافها..المشهد إذن لا يتم تشييده بواسطة الاستعارة وإنما تخرجه هذه الاستعارة من فكرته أو طبيعته المألوفة ليسترد حقيقته البدائية كـ (شذرات)، كما أنها تعيد إليه الكيفية الأصلية التي أنشأته أي (الارتجال).. نحن نقرأ الديوان كأنما نقتفي أثر هذه الذات التي تفتت بأشلائها الصلابة البصرية للوجود، لتتوحد مع تلك الأنقاض في مرورها إلي ما وراء الحياة والموت.. يعرف (حسني الزرقاوي) أن تلك (الشذرات) آتية من هناك، لذا ينبغي أن ترجع إلي حيث تنتمي، ولكن كبصمة من الكلمات.
(لتكون مهلتك الأخيرة!
صف موتي النوافذ متجاورين
في زحام الأرصفة
عناقيد مدلاة وجافة
الأيدي
تنبض أنوف فقط في مواجهة إناث
يشهقن في مقابر الأصابع.
يجلسان ـ في الانتظار ـ مهمومين
شاب وفتاة
تتحمل عبء ساعده المفرودة علي كتفها
يحاولان جمع فراشات
لصناعة زخم كريم
صوت عجلات القطار يكرس مسافة أخري
لعيون زائغة).
يقوم الارتجال في ديوان (في رفقة المعزين) علي أداءين: الأول هو التداعي المكثف للمجاز، والثاني هو مسايرة اليقين الظاهري للمشهد لهدمه من الداخل.. لا يتم التداعي في الأداء الأول للارتجال عن طريق تدفق اللغة فحسب، وإنما يتركز أيضًا في ذلك التخاطر اللحظي بين شذرة وأخري..هذا التخاطر يبني علاقات متوترة بين التفاصيل المختلفة للصورة البصرية الواحدة، كما أنه يوسّع نطاق هذا الأرق ليضم مشاهد متعددة خصوصا تلك التي يبدو أنها لا ترتبط بخبرات مشتركة.. يمكن لكل شذرة داخل هذه العلاقات أن تحل مكان الأخري، وبالتالي يمكن أن تتبادل الصور مواقعها، كما أن كل مشهد يصلح لأن يكون نسخة من مشهد آخر.. سنلاحظ فيما يتعلق بالأداء الثاني للارتجال أن (حسني الزرقاوي) يضع ما يعادل (الصفة العامة) كختام لحالة فردية أو لوصف شذرة ملموسة.. هو يتحرك كجسد يراقب، ومتورط فيما يراقبه، ولديه القدرة علي أن يبدو قابضًا علي الحضور الحسي للأشياء ثم يُنهي هذا الرصد بنبرة الحكمة، ولكن هذه النبرة ليست استيعابًا لما تم رصده وإنما صوت الرعب الناجم عن تأمل الغموض وقد تغلف بالرسوخ الشكلي للحكمة.. هذا التوظيف للإيقاع في البلاغة الشعرية يجعلك تسمع كأنما هناك نوع من الفهم المثالي يتحدث إليك، ولكن هذا الأداء ربما الضامن المناسب للعبور إلي العماء الناتج عن مراقبة ما لا يمكن استيعابه.
(عندما هبط علي ركبتيه وانحني
يكوّر الطمي حول لبلابة
ـ في اللحظة هذه ـ
نبتت أصابع قدميه جذوعًا
واحتوته نخلة...
الخبر دفعني لاستدعاء وجهه
آخر لقاء
والعرق الأسود بأتربة الهواء القاهري
يسيل من جبينه).
تستفيد الذات من (شعرية التناثر) بامتلاكها دائمًا الفرص المناسبة التي تتيح لها أن تتدخل بصوتها الخاص والواضح في قلب الارتجال للشذرات المشهدية.. يمكن للذات أن تتأخر عن هذا التناثر فيتحوّل الشعر إلي إدراك للشذرات، كما يمكن لها أن تتقدم علي التناثر فيتحوّل الشعر إلي استشراف لما ستكون عليه هذه الشذرات بعد غياب الذات.. يتم أحياناً المزج بين التأخر والتقدم، ولكن سواء كان الأمر إدراكًا أو استشرافًا فالذات لا تعرف.. هي تراقب وترصد وترسم كأنما لا تري شيئًا.. من هنا سنجد تراجعًا للأفكار في مقابل طغيان الوصف كأنما هناك حرص علي ألا تندفع اللغة نحو البُعد الأسطوري المحرّض طوال الوقت.. هذا الحرص يجعل لقصائد الديوان بلاغة غير تقليدية بل تتحقق كتحالف للسرد، أو كأنها الأطراف التعويضية لهذا السرد.
(ماذا فعلتُ!!
أستلقي مستمرئًا اهتزاز السرير
وطائرات امداد الوقود جوًا
تعبر سماء الرياض إلي قواعدها
أعرف حجم الجريمة
في ابتسامة المراوغة علي وجه اللوردات
وأنا أحصي أنواع الأسلحة
وعدد القتلي
في بروفة أخيرة لرئيس التحرير).
أفكر فيما يمكن تسميته بـ (العفوية المنضبطة) في قصائد (حسني الزرقاوي) كنسق شهواني لتحرير اللاوعي.. سيولة من الاستلهامات الذهنية المتوالية لمخبوءات لن تتصل شبقيا بسطح العالم بل بفراغه.. بالصمت الكامن في تفاصيله أو بكوابيسه السرية.. الخبرة المشهدية التي يتم تشكيلها هي اندماج الجسد بأجساد الآخرين ليس فقط علي المستوي اللحظي كما يقرر الارتجال بل داخل تاريخ التجربة البصرية.. جذورها المدفونة في الأرواح حيث يلتف شاب وفتاة في الزحام بمكوّر الطمي حول لبلابة بموتي القصف الجوي في بلد ما.. يلتقط (حسني الزرقاوي) الشذرات المتساقطة من المعزين وهو يسير برفقتهم حيث لا يوجد عزاء.
أخبار الأدب
3/12/2016