كقارئ قديم للقصة القصيرة؛ يتصوّر نفسه أحيانًا العجوز الذي كان يربي الحيوانات في قصة همنجواي “رجل عجوز على الجسر”؛ لا يستطيع البقاء في مكانه أو العودة لبلدته أو الهروب منها لأي مكان آخر. لكنه يفكر في أن تجواله اليومي هو ما يشيّد الجسر الذي لا يستطيع عبوره.
يجلس في المقاهي القديمة، يقف أمام فاترينات المحلات التي لم تعد مزدحمة، يتناول طعامه داخل مطاعم أصبحت خالية تقريبًا من الزبائن. يقول في نفسه: “في هذا المقهى الذي يقع وراء سنترال شارع البحر كان يعمل “سعيد” الجرسون الريفي العجوز؛ صعد سلالم منزله آخر الليل وهو يغني كعادته “راحوا الحبايب” لعدوية، ثم تناول عشاءه ونام ولم يستيقظ أبدًا .. وراء ماكينة النقود في محل الملابس هذا كانت تجلس “رحاب”، الشابة البيضاء الجميلة، التي كنت أتبعها كل يوم من أمام بيتها في ميدان “الشيخ حسنين” إلى أن تصل إلى المحل في “السكة الجديدة” دون حتى أن أفكر في التحدث معها، بينما كانت تكتفي هي بالنظر لي بابتسامة لا تخلو من تهكم .. على طاولة داخل كازينو “منيرفا” المندثر من هذه البقعة على النيل؛ تجرّأت في مساء ما، وسألت نادلة ودودة لا أعرف اسمها عن أحوالها، ثم اكتشفت بعد دقائق أنها لم ترد تحيتي إلا لأنها تعشمت في صلتي بشخصية ذات سلطة، تمنع عنها مضايقات ضابط “آداب” يريدها أن تعمل في “الحرام” لكي توفر له القضايا”. ضحك بداخله وهو يفكر في أن الصلة الوحيدة الممكنة التي قد تربطه بشخصية ذات سلطة ستكون هي نفسها التي جمعت بين الموظف والجنرال في قصة تشيخوف “وفاة موظف”.
يتذكر أنه خلال ذلك الزمن المتبدد كان يقول دائمًا إن ميزة المدن الصغيرة أن أهلها إما أصدقاء بالمعرفة الشخصية، أو بالاسم، أو بالملامح، أو بالانطباعات المألوفة. الآن يردد نفس الكلمات أثناء تطوّحه البطيء في الشوارع، ولكنه يضيف إليها في النهاية: “وربما ذلك هو أتعس ما في هذه المدن”.
من السهل استنتاج محتويات أوراقه المتناثرة ودفاتره المتراكمة من عُمر الصبا وحتى الآن، الراقدة في ظلام بيته. مخططاته السرية الفائضة بالأسماء والأماكن والملاحظات والدوائر والأسهم والخطوط العنيفة المرتبكة والمتشابكة. من السهل استنتاج منظره جالسًا وحده كل مساء أمام شباك مغلق، كأنه صورة رجل رُسِمَت بيدٍ مكسورة. حدث كل شيء سريعًا جدًا كلحظة خاطفة، لم يشارك فيها أو ينتبه لها أو يفهمها. هكذا يصف الماضي من قاع انطوائه. عمره كله أشبه بمتشرد أعمى، يدور يوميًا حول زحام متعاقب ومتغيّر، ثم يعود منكمشًا كحصيلة ثقيلة من المهانات، يعزل جثته وراء باب لا يُفتح إلا عند دخوله وخروجه، حيث لا يدري أحد عنه شيئًا، ثم يمسك بالقلم، ويتحرك به فوق تلك الأوراق بتجهم حائر؛ فيضيف “شخبطة” جديدة ويسميها “احتمالًا”. كأنه يدوّن طرقًا مفتتة لتصحيح كل شيء قبل النهاية. استدراك، انتقام، استيعاب، امتلاك، هيمنة. الأحياء والموتى. ما وراء (يحكم) كل زمان ومكان. الحنين بالنسبة له يعني تصفية الحساب الشاملة مع ما كان يعتبره جمالًا قديمًا لم يقبض عليه مطلقًا.
يتخيل ابن صاحب كشك السجائر المقابل لمحطة القطار، والذي يجلس داخله محل أبيه الميت؛ يتخيله يقول له وهو يعطيه علبة السجائر: “كل ذكرى نقية هي حبيبة مُعذِبة، لا تبالي باحتضارك، وستكون أبعد ما تكون عنك لحظة نهايتك”.
المتسوّلة العجوز، الجالسة على ناصية شارع بنك مصر، وكانت قبل أربعين عامًا راقصة فاتنة، استمتع بمشاهدتها في الأفراح التي كان يتسلل إليها طفلًا في “سيدي عبد القادر” و”الحسينية”، و”عزبة عقل”؛ يتخيلها تستوقفه أثناء مروره أمامها وتقول له: “الذكريات الصافية أنانية بغير تراجع، متجذرة في ذاتها، لا يمكن أن تتفاوض معك حول شيء من التسامح. هي تمضغك فحسب بفمها الزهري الشاسع دون حد، بنعومتها الوحشية التي تستولي على رجاءاتك بشكل خالص وبلا ثمن”.
يصادف زميل دراسة قديم في “النادي اليوناني”، يتأمل شعره الأبيض وتجاعيده المحفورة في وجهه الكامد، وبصوت مهترئ يتخيله يقول له: “لماذا لا تصدق هذا؟ لماذا يسجنك كل هذا الغضب؟ لا شيء قابل للمناقشة وأنت تعرف هذا. أنت وحدك. تتذكر وحدك. الوحدة تتذكرك في حياة سابقة فيتفاقم مرضك. سعادتك كلما حلمت بالماضي تتمادى في قتلك. أنت لا تتذكر. أنت تنتحر، ولك كل الحق في هذا”.
مؤخرًا أصبح يسير في الشوارع بعينين ذاهلتين، تحدقان في فراغ ما بين السماء والأرض، وبفم لاهث نصف مفتوح، وبذراعين مرفوعتين، كأنهما تتأهبان لصد أو تفادي شيء خفي على وشك الوقوع من علوٍ شاهق. لم يكن يعرف كيف يتوقف عن المشي بهذه الطريقة، أو تفسيرها لمن يسأله عن سرها. شعر بأنه هكذا أقرب ما يكون لـ “أكاكي أكاكيفيتش”؛ النسّاخ الذي سُرق منه معطفه في قصة “غوغول”. لم يكن متحمسًا كثيرًا للتخلص من هذه الصورة التي تحتجز خطواته بين الناس الساخرين من غرابتها. فكّر في أن أحدهم يمكن لهذا أن يقترح عليه ذات يوم العمل كفنان بانتومايم. حسنًا؛ ستكون فكرة جيدة، خصوصًا أن ذلك في الواقع كل ما كان يفعله طوال حياته مجانًا.