أثناء كتابتي لنوفيلا "جرثومة بو" طلب مني أحد الأصدقاء،
وكان قد تحدث مع ناشر سوري عن موضوعها أن يُطلع هذا الناشر على جزء مما كُتب منها
بناءً على رغبته .. تواصل الناشر السوري معي مباشرة بعد قراءة الجزء الذي أرسلته
لصديقي، وأبدى رغبة قوية في نشر النوفيلا .. لكنه في نفس الوقت طلب مني استبدال
اسم الدولة التي جاء في سياق النوفيلا أن شابًا مصريًا تم اعتقاله وتعذيبه بوحشية
في أحد سجونها، وهي قضية صحفية اشتغلت عليها بالفعل في أواخر التسعينيات؛ طلب
الناشر السوري استبدال اسم الدولة بـ "المملكة" فقط .. قال لي أن عدم
تحديد البلد المقصود سيكون أنسب الحلول لتفادي العواقب السيئة الأكيدة؛ حيث يمكن
أن تكون هذه الدولة هي المملكة الأردنية أو المغربية أو البحرين أو السعودية ..
قلت له: أو "مملكة العجائب"؛ فضحك الناشر متوقعًا موافقتي على اقتراحه
لكنني رفضت .. كان لدي تفهّم تام لحرص هذا الناشر على استثماراته في هذه الدولة،
ولكن رغبتي في وجود تفاصيل القضية داخل النوفيلا كما كانت، وكما عشتها تمامًا لم
تسمح لي بمجرد التفكير في القيام بهذا التنازل .. هذه الرغبة تتضمن كل شيء: ألا
يُنسى هذا الشاب، وما حدث له دون إخفاء أية معلومات .. أن يكون هناك ما يُذكّر
دائمًا بمصيره الغامض .. أن أنهي ما بدأته قبل عشرين عامًا من أجل قضيته .. على
هذا اعتذرت للناشر السوري، شاكرًا له اهتمامه، ورغبته التي أكدها لي مرارًا في نشر
النوفيلا .. ونظرًا لعدم استعدادي لخوض هذا النقاش ثانية مع أي دار نشر عربية
أخرى، وكي لا أتسبب في أي حرج لأصدقائي من الناشرين المصريين فقد قررت نشر
النوفيلا إلكترونيًا عن دار عرب التي يملكها صديقي العزيز شوقي عثمان وفقًا لطلبه
.. بعد أن نشرت الغلاف في صفحتي على فيسبوك مع إعلان موعد نشرها بعد أسبوع؛ طلب مني
العديد من الأصدقاء تأجيل النشر حتى يكون هناك إمكانية لإصدارها ورقيًا .. في نفس
اليوم وصلتني رسالة كريمة من صديقي المبدع العزيز د. لؤي حمزة عباس يخبرني خلالها
برغبته في أن يحاول نشرها في العراق .. بكل التقدير أرسلت له النوفيلا، وأعلنت على
فيسبوك أنني سأؤجل نشرها إلكترونيًا بالفعل انتظارًا لهذه المحاولة، ولكن بعد فترة
جاء الرد المتوقع .. قال لي د. لؤي بأنهم أخبروه في دار النشر التي عُرضت النوفيلا
عليها أن نشرها كفيل بمنع إصداراتهم من دخول معارض الخليج، وهم بالطبع على حق ..
لكن خلال فترة الانتظار هذه استمعت لكثير من نصائح الأصدقاء المبدعين والقانونيين
الذين تحدثت معهم عنها، وأجمعوا على ضرورة إجراء هذا التعديل ـ ليس خوفًا من
المناشير J ـ وإنما لتفادي ردود الفعل العدائية المحتملة للغاية في مصر من أي
"مواطن شريف" أو "محامي غيور" أو "إعلامي وطني" .. في
عام 1998 نشرت قصة هذا الشاب بوضوح كامل ولغة كانت صادمة
للجميع حينئذ، في الوقت الذي لم تجرؤ خلاله أكثر الصحف "شجاعة" على نشر
ما يتجاوز "استغاثات مقتضبة" عن الموضوع .. كان هذا جزءًا حتميًا مما
كنت أعتبره واجبًا ومسئولية أثناء عملي في الصحافة .. لكنني الآن ـ ومثلما حدثني
الأصدقاء ـ لست في حاجة لمواجهة تهديد قائم دون ضرورة .. أعترف أنني أجريت هذا
التعديل بشعور سيئ، ولكنني أعترف أيضًا بقوة مبرره أو بالأحرى بداهته التي كانت
علاقتي القديمة بقضية هذا الشاب تقف بيني وبين الإنصات له .. هذه الدولة لا تعنيني،
وأبسط ما ينتمي إلى حياتي الخاصة يجرّد حكّامها من أي أهمية، كما أن النوفيلا ليست
مشغولة بالمكان الذي تم اعتقال وتعذيب هذا الشاب المصري فيه بما يتجاوز البُعد
التوثيقي الذي ذكرته، وإنما بالتوظيف الخيالي لتفاصيل هذه القضية، ولهذا فإنني ـ
بالطبع ـ لا أريد أن أدفع ثمنًا أكثر قيمة مما يُسمى بـ "الوطن العربي"
بأكمله مقابل شيء ليس محل اعتبار عندي أصلًا .
موقع "الكتابة" ـ 9 ديسمبر 2018
ورغم هذا التعديل فإنني أصررت على نشر النوفيلا إلكترونيًا، وذلك
لثلاثة أسباب: كي لا يتم تصنيف هذا التعديل كرضوخ لرغبة دار نشر أيًا كانت .. مرور
وقت طويل على الانتهاء منها، ورغبتي في عدم تأجيل نشرها أكثر من ذلك .. صدور
مجموعتي القصصية "المطر في كارمينا بورانا" ورقيًا في بداية العام
الجديد، وهو ما يعني الحاجة بشكل ما إلى ترك مسافة مناسبة بينها وبين كتاب جديد
آخر.
أختم هذه الحكاية الصغيرة بالتأكيد على ثقتي في وعي أصدقائي الأعزاء
في هذه "المملكة" من الكتّاب والنقاد الذين تربطني بهم صداقات قديمة منذ
ما قبل الفيسبوك، ويعلمون جيدًا محبتي واحترامي لهم.
تحميل النوفيلاموقع "الكتابة" ـ 9 ديسمبر 2018