الخميس، 13 أكتوبر 2016

المتغيّرات والتجديد في الرواية العربية المعاصرة / د. نجم عبد الله كاظم

معروف أن الرواية هي فن المدينة، ولما كان مجتمع المدينة بطبيعته أكثر أنواع المجتمعات تجدّداً وممارسة للتغيير واستجابة للتحوّلات، فقد كان من الطبيعي أن تُعنى الرواية بهذه التجدّدات المدينية والمتغيّرات والتحوّلات فيها. والرواية العربية ليست استثناءً من هذا التعميم الصحيح إلى حد كبير، فهي كانت دوماً مستجيبة لذلك، وخصوصاً لما شهده المجتمع العربي، من تحولات ومتغيّرات، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والخمسينيات ولحد الآن. ولأن هذه المتغيرات والتحولات المدينية التي تستجيب لها الرواية، هي موضوعات أولاً وأساساً، فقد كان أكثر ما وقع من متغيرات في الرواية العربية خلال السنوات القليلة الأخيرة، هو ما جرى على المضامين، وهو برأيي الأهم أيضاً ما بين المتغيرات المختلفة.
وقد توزّعت هذه المتغيرات على التوسع في موضوعات موجودة أصلاً؛ وموضوعات موجودة أصلاً بدورها، ولكنها معالَجة بأشكال جديدة؛ وموضوعات جديدة كلياً أو شبه جديدة. ولتداخل هذه الموضوعات فيما بينها، فإننا سنتناولها معا. أما أهمها، فهي ما شملها خرق التابو أو المسكوت عنه، في السياسة وأكثر من ذلك في الدين، والأكثر في المرأة والجنس. ففيما يتعلق بالمرأة والجنس، من المفيد أن نقرّ بأن هذا مما قدّمته الرواية العربية من قبل، ولكنه غالباً ما كان يتم بشكل خجول من غالبية الروائيين. أما أهم من يعود إليهم فضل الريادة في خرقه عربياً بسعة وبمعالجات صريحة وجديدة، خصوصاً حين يكون جاداً وليس رخيصاً أو مثيراً، هما كاتبتان مهمتان إحداهما فاطمة المرنيسي، ولأن نشاطها لم يشمل كتابة الرواية، لسنا معنيين بها هنا. أما الثانية، فهي نوال السعداوي التي تنوّع نشاطها كثيراً وشمل، من ضمن ما شمله، كتابة الروايات التي اقتربت من العشرين. المهم أن الاثنتين تبنّتا وجهة النظر الأنثوية التي تبنتها حركة النساء الجديدة التي ظهرت نهاية الستينيات. وكما يقول هشام شرابي، "قامت نوال السعداوي بمواجهة جريئة في كتابها (المرأة والجنس)، فلم تُثر النواحي الاجتماعية والاقتصادية لتحرر المرأة فحسب، بل عالجت أيضاً النواحي الجنسية"، مما انعكس في رواياتها وبعضها يعود إلى المدة التي ندرسها، مثل رواية "إنه الدم" - 2014 - ولكن ما قد تختلف فيه جزئياً هذه الرواية وروايات أخرى عن روايات سابقة أنها قدمت امرأة لا من ناحية الجنس، بل من ناحية رفضها للأبوية بأنواعها. فـ (فؤادة) مثلاً صحفية متمردة لا توافق على الانحناء للآخرين، كما قد يفعل غيرها نساءً ورجالاً. ويقترب من هذا موقف وفعل بعض نساء رواية العراقي برهان الخطيب "ذلك الصيف في إسكندرية" - 1998 - ولاسيما (بهية) التي تقوم بما هو تعبير انتفاضي عن موقف أنثوي لامرأة تحس أنها مسلوبة الذات والهوية وربما الوجود، فتثور على التدجين والتهميش والتغييب ونزع الهوية بوصفها امرأة، وتنجح في إقناع زوجها بموقفها، وفي النتيجة ستنجح في فرضه على الآخرين. وتقترب من بطلتي هاتين الروايتين، (منى) في رواية المصرية منى الشيبي "بحجم حبة عنب" - 2014. أما المصرية رشا سمير، فتنحاز، في روايتها "جواري العشق" - 2014 - للمرأة، وهي تكشف زيف ادعاء الرجل بالتحرر والتحضّر، وكل ذلك عبر إبحار وبنَفَسٍ طويل في التأريخ وعبر أجيال من الرجال والنساء، تنتقل عبرهم المواقف من المرأة والحرية.
لكن ما فعلته نوال السعداوي وهؤلاء الروائيون، لم تفعله هي وكاتبات أخريات وكتّاب آخرون في أعمال أخرى، حين اخترقوا مساحة الجنس، سواء (المتاحة) منها أو غير (المتاحة)، إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير، وبغرض التعبير عن الموقف أحياناً، وبغرض الإثارة المجردة أحياناً أخرى. فمن روايات القسم الأول، نعني التي اخترقت المحظور الجنسي والمسكوت عنه بغرض التعبير عن الموقف وبنضج وتبرير موضوعي وفكري، وفي النتيجة حققت الإقناع نذكر "أشجار البراري البعيدة" - 1994 - للقطرية دلال خليفة، التي استطاعت أن تتخطى بعض محظورات العرب بوعي ونضج حين قدمت علاقة حب ما بين بطلتها العربية (نورة) والإنجليزي (دونالد) وكل ذلك بدون اضطرار للتعامل مع الجنس المكشوف، كما فعل البعض. ومن الروايات
الأخرى التي فعلت هذا أو اقتربت منه "الطلياني" - 2014 - للتونسي شكري المبخوت، وإلى حد ما "الميراث" - 1997 - للفلسطينية سحر خليفة، و"حلم وردي فاتح اللون" - 2009 - للعراقية ميسلون هادي، و"مملكة الفراشة" - 2013 - للجزائري واسيني الأعرج. وقد لا يتوقف بعض الكتّاب في تعاملهم مع الجنس عند حدود، ولكن متى ما وجدوا في ذلك ما يصب في فائدة الرواية، أو متى ما كان هو بحد ذاته مادتها أو موضوعها، وهو ما نجده في روايات؛ مثل "الفشل في النوم مع السيدة ن" - 2014 للمصري ممدوح رزق.
أما تعلّقاً بروايات القسم الثاني، نعني التي اخترقت المحظور الجنسي والمسكوت عنه بسطحية أو بغرض الإثارة، وغالباً ما حققتها، فهو برأينا يكون بفعل دوافع وعوامل منها: طبيعة شخصية الكاتب، والهوى والرغبة في البروز، وتقليد أعمال غربية تعاملت مع الجنس المكشوف،والرغبة بالفوز بالجوائز والترجمة والوصول إلى الغرب. من هنا رأى أحد النقاد محقّاً عن رواية "بنات الرياض" - 2005 - للسعودية رجاء الصانع، مثلاً، فإن ما حققته هو ضجيج إعلامي لرواية ساذجة فنياً، مثلها في ذلك مثل رواية "برهان العسل" - 2008 - للكاتبة السورية سلوى النعيمي؛ بل نحن لا نستبعد حتى بعض ما أظهرته حنان الشيخ من قبل في "حكاية زهرة" - المنشورة عام 1980 - وغيرها مما أثار هوساً من الرجال وتطبيلاً من النقاد الذكور، بينما تنزوي روايات، مثل "أشجار البراري البعيدة" لدلال خليفة المذكورة آنفاً التي هي باعتقادي كانت أجرأ من حنان الشيخ، ولكنها أكثر تأنّياً في معالجة موضوعها وأكثر إقناعاً وجمالية، ولم تُضطر إلى أن تفعل ما فعلته الكاتبة السابقة. هو الهوس الذكوري الأبدي، أو ربما هي الغريزة، أو هو مرض الرجل العربي، الذي إذ لم يستهدفه، مثلاً، العراقي فؤاد التكرلي مع أنه كان صريحاً في تعامله مع الجنس في غالبية أعماله، فإن آخرين فعلوا ذلك مثل العراقي الآخر زهير الهيتي في رواية "الغبار الأمريكي" - 2009 - الذي يبدو الراوي الروائي فيها مهووساً بالجنس والجسد وتعرية المرأة، والتونسي الحبيب السالمي "عواطف وزوّارها" - 2013 - الذي نحسه يتعامل مع الجنس بما يقترب من الهوس وتحديداً حين لا تكون له من فائدة فنية ومضمونية للرواية.
أما أحلام مستغانمي، فهي لم تضطر إلى فعل الكثير من هذا، بل هي وجدت السبيل إلى تحقيق الإثارة والانتشار وإقدام الشباب على (شراء) رواياتها، أقصر وأسهل من التضحية بالنص وجدّيته، حين لجأت إلى العنوان، فكانت "عابر سرير" - 2003، وقبلها بعشر سنوات "ذاكرة الجسد"، بعنوانين نكاد نتخيّل كيف أسالا، وهما لكاتبة أُنثى، لُعابَ آلاف القراء العرب. ولا تبتعد عن هذا كثيراً ما فعلته السعودية رجاء العالم مع عنوان روايتها السابقة "بنات الرياض."
(1)
من المتغيّرات التي نرصدها في بعض روايات العقدين الأخيرين، ويتعلقان بالمسكوت عنه ولاسيما الجنسي، الرجوع إلى التاريخ القديم والحديث وحتى المعاصر واستلهامه، ولكن ليس من خلال المعلن والمكتوب الرسمي منه بوصفه تاريخاً، ولكن بالبحث عن المسكوت عنه، نساءً وجنساً، وديناً، وهو ما فعله كتّاب مثل العراقي علي بدر في عدة رواياته، ومنها "الجريمة، الفن، وقاموس بغداد" - 2010 - التي تعيدنا إلى بغداد العصر العباسي، وتحديداً من خلال ما تُسمى "الطائفة الخواجية"؛ واليمني حبيب سروري في روايته "ابنة سوسلوف" - 2014 - التي استحضر فيها التأريخ المعاصر لليمن، ووظف ما يبدو أنهُ تخيّلَهُ مسكوتاً عنه سياسياً؛ والمصري أحمد مراد في رواية "1919" - 2014 - التي يستحضر فيها ثورة 1919 مع توغل في ما لم يُعنَ به التاريخ الرسمي من الحياة الخاصة لبطلها سعد زغلول؛ والفلسطيني علاء حليحل الذي ذهب، في روايته "أورفوار عكا" - 2014 - إلى الجانب الدموي في بعض تأريخ فلسطين؛ والسوداني حمور زيادة في روايته "شوق الدرويش" - 2014 - التي انتقى فيها، من ضمن ما انتقاه من التأريخ السوداني، بعض المسكوت عنه المتعلق بالآخر والعلاقة به؛ واللبنانية جنى فواز الحسن في روايتها "طابق 99" - 2014 - التي تجرّأت على الدخول في عمق العلاقة ما بين الفرد اللبناني والفرد الفلسطيني في ظل ما انطوى عليه من سلبيات ودم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي؛ والجزائري واسيني الأعرج في روايته "مملكة الفراشة" - 2013 - التي تشكّل عندنا صرخة على ما شهده التأريخ الحديث للجزائر ولم يُسجَّل تماماً؛ والمغربي محمد برادة، في روايته "بعيداً من الضوضاء، قريباً من السكات" - 2014 - التي ينكشف فيها الكثير من مسكوت السياسة والجنس.
ويحاول المغربي عبد الإله بن عرفة، في روايته "ياسين قلب الخلافة" - 2013 - أن لا يرجع إلى التأريخ فقط ولا إلى كشْف المسكوت عنه، بل توظيف ذلك، ليسوّق لعودة دولة الخلافة الإسلامية.أما لينا الحسن، فهي، في روايتها "ألماس ونساء" - 2014 - ذهبت بعيداً في تعاملها مع التأريخ، حين سعت إلى كشف الغطاء عن جميع أنواع المسكوت عنه والممنوع والمحظور و(المعيب) فيه، من أحداث ساسة وسياسة وخفايا اجتماعية وحياة نساء وشخصيات أخرى، أطلقتها من محبسها الكتابي والتاريخي والوثائقي، وقد استوعبته في متخيّل انبنت عليه الرواية.
من الموضوعات التي ازدادت في رواية العقدين الأخيرين، حضور الآخر، أقليات وأجانب، وبشكل خاص المسيحيين، واليهود، والغربيين. فمن الروايات التي تناولت الأقليات عموماً رواية "أيوب شاهين" - 2010 - للعُماني سالم آل تويّه التي التمّت فيها جل طوائف سلطنة عمان وأقلياتها القومية. ومن الروايات التي قدّمت المسيحيين"يا مريم" - 2012 - للعراقي سنان أنطون التي عالجت أوضاع المسيحيين في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي واستهدافهم من الجماعات المتطرفة، و"أعالي الخوف" - 2014 - للأردني هزّاع البراري التي حضر فيها المسيحي بقوة حين كان إحدى شخصياتها الثلاث الرئيسة التي قامت الرواية عليها، و"جحيم الراهب" - 2014 للعراقي شاكر نوري، الذي وضعنا فيها في عالم الرهبان. بينما قدمت روايات عديدة أخرى اليهود والشخصية اليهودية، وربما تكون إحدى أبرزها رواية المصرية فاطمة العُريض "سِفْر الترحال" - 2013 - التي قدمت فيها عائلة يهودية مصرية عبر أكثر من جيل، وبما يبدو أنها أرادت فيها أن تتخطى صورة اليهود السلبية النمطية، إلى صور أخرى هي أقرب إلى الوطنية؛ والعراقية نيران العبيدي التي رسمت في روايتها "منعطف الصابونجية" - 2014 - إحدى أجملالشخصيات اليهودية في الرواية العربية متمثّلة بشخصية (كرجي)، ولاسيما من خلال علاقة حب تربطه بالعراقية المسلمة (بدرية)، وهي العلاقة نفسها إلى حد بعيد التي رسمتْها السورية لينا الحسن في روايتها "ألماس ونساء" - 2014 - ما بين اليهودي (يوسف زليخا الدمشقي) والمسلمة (رومية) وزواجهما.
أما الآخر الغربي، الذي تعاملت الرواية العربية معه من أولى مراحل تأريخها، فقد ازداد حضوره في الرواية العربية بعد الستينيات، ثم بشكل كاد يشكل ظاهرة في المدة الممتدة من بداية التسعينيات، أو منتصفها إلى الوقت الحاضر. فضمن اشتغالنا على موضوعة (الآخر) في كتب ودراسات عديدة، أحصينا ما يزيد على مئة وخمسين رواية تعاملت مع الآخر الغربي في المدة المعنية، ولعل أكثر الكتّاب تعاملاً معه العراقيتان ميسلون هادي وعالية ممدوح، واللبنانية حنان الشيخ، والمصريان صنع الله إبراهيم وعلاء الأسواني، والفلسطينيتان سحر خليفة ورضوى عاشور، والسورية هيفاء بيطار، وغيرهم كثيرون.
بقي أخيراً من الموضوعات التي تكاد تكون جديدة كلياً، ببساطة لأنها لم تكن موجودة على أرض الواقع أصلاً، موضوعات النت والتواصل الاجتماعي، لكن حضورها برأينا لم يكن قوياً وناضجاً ومقنعاً بما يكفي ليكون ظاهرة.
(2)
انتقالاً إلى متغيرات في الفن والشكل، أي ما كان منها في البناء والتقنيات وما يتعلق بها من أنساق بنائية وتنويعات تقنية. ومن الطبيعي أنْ كانت هذه المتغيرات أقل منها في الموضوعات، بل غالبية ما يمكن أن نضع اليد عليه منها هنا، هي إما أن تكون موجودة أصلاً، وتمّ التوسع فيها أو تطويرها، أو هي مست السطح الخارجي، إنْ صح التعبير. فمن الأولى يحضر ما يُدعى بتشظية السرد أو تشظي المسرود أو المحكي، والمقصود به أنْ تتشظى القصة المحكية سردياً ولا تبقى على وضعها المتسلسل، سواء أكان ذلك عبر تيار الوعي الذي يحضر فيه كل جزء من القصة وفقاً لحالة وعي الشخصية، أو أن يكون ذلك بسبب رواية القصة، وغالباً غير كاملةٍ تفصيلاً، من أكثر من شخصية راوية. نعتقد أن هذا النوع من البنى بتقنياته قد انتشر كثيراً جداً في العقد أو العقدين الأخيرين، ولكن مع ميله إلى أن يكون ضمن ما يُسمى بالبناء المتداخل، وأحياناً ضمن ما يُسمّى بالبناء المتوازي.وإذا كان المتداخل والمتوازي، وضمنهما بنية التشظّي، موجودة كلها من قبل، فإن الجديد أو المتغير هنا هو في هذا التداخل بينها. ومن روايات هذه البنى المتداخلة "فيرجوالية" - 2012 - للعراقي سعد سعيد، و"شوق الدرويش" - 2014 - للسوداني حمور زيادة، و"تغريدة tweet" - 2014 - للفلسطيني أثير صفا، وإلى حد ما "بيت على نهر دجلة"- 2006- للعراقي مهدي عيسى الصقر، و"طيور التاجي" - 2014 - للكويتي إسماعيل فهد إسماعيل.
آخر المتغيرات في الفن والشكل هو توظيف تقنيات النت والتواصل الاجتماعي. والحقيقة أن هذه التقنيات لم تكن، بحضور النت في الرواية موضوعاً، لتبقى تقنياته بعيدة، بل أكثر من ذلك أنّ بعض الروايات قد بُنيت كاملةَ عليها، كما هو الحال في رواية "فرجواليه" - 2014 - للعراقي سعد سعيد.
تبقى هناك متغيرات أخرى قد يكون لبعضها علاقة ببعض ما سبق، بينما قد لا يمتّ بعض آخر منها بالنص الروائي بصلة أصلاً، بل بالمؤلف وبتقاليد التأليف أو بنشر النص وبتقاليد النشر، مما يجعله مرتبطاً بالأنساق الثقافية في مجتمع الرواية أكثر منه بالرواية ذاتها وبالنقد الأدبي، كما سنأتي إلى ذلك. وأولى هذه المتغيرات هي تلك التي طرأت أو تعزّزتْ في كُتّاب الرواية من حيث العمر، والانتماء القطري، والهوية الأدبية، وأخيراً الجنس، والأخير هو الذي قد يستحق الإشارة إليه. فأهم ما نلحظه مما يقترب من الجديد في الكتّاب من الناحية الأخيرة هذه هو موجة الرواية النسوية. فبعد أن بقيت نسبة النساء بين كُتاب الرواية العربية منخفضة حتى السبعينيات والثمانينيات، ارتفعت هذه النسبة كثيراً في العقود التالية، ولاسيما في العقدين الأخيرين ليصير حضورها ملفتاً جداً، بل ربما ظاهرة، ولعل ما تكشف عنه قوائم الروايات المشاركة في جائزة البوكر العربية يؤيد ما نقول به، فبلغت هذه النسبة 20 بالمئة تقريباً من الروايات المشاركة، و30 بالمئة تقريباً من روايات القائمة الطويلة، وأكثر من 33 بالمئة من القائمة القصيرة. وهذا ما يشكل متغيّراً لا في النص الروائي، بل في كتّابه، كما قلنا.
بقيت ما نسميها متغيرات شكلية خارجية، وهي أيضاً ليست لها علاقة بالنص، بل بالنشر والسلوك الثقافي المتعلق بالرواية، وهي غالباً ما كانت بسبب الجوائز والسوق. وأهم هذه المتغيرات التي تشكل بمجموعها ظاهرة سلبية في السلوك الثقافي: الغلاف والإخراج الفني؛ والنشر وتعدّد الطبعات. ولا نجد من أهمية كبيرة للمتغير الأول، بل للمتغير الثاني في ظل ترسخ ما نجدها تقاليد سلبية تتسلل إلى الأنساق الثقافية أكثر منها إلى النقد الأدبي أو الكتابة الروائية، ونعني بها الادعاء بما نشكّك بصحته من تعدد الطبعات كما يُثبّت على أغلفة الروايات. وللتدليل على هذا، وجدنا ضمن الروايات المشاركة في جائزة البوكر العربية، ستّاً ادّعى كتّابها وناشروها طباعتَها أكثر من طبعة خلال بضعة أشهر وكانت واحدة منها متميزة، وأخرى متواضعة بينما كانت الأربع المتبقية بين أضعف الروايات باتفاق أعضاء لجنة التحكيم. أكثر من هذا أن ضمن الروايات الأضعف واحدة ادّعى مؤلفها وناشرها أنها قد طُبعت أكثر من عشر طبعات. نحن لا نرى في هذا إلا ممارسة لتقليد سلبي ومعيب أسست له، على ما نظن، رواية صدرت قبل عشر سنوات وأُثير حولها، وبشكل مرسوم، ضجيج حين ادّعى مؤلفها وناشرها هكذا طبعات خلال أشهر معدودة، وهو الأمر الذي يصعب تصديقه إلا بافتراض أن عدد نسخ الطبعة الواحدة لا يزيد على المئة نسخة.
في النهاية، لا بأس في أن نكرر القول إن المتغيرات التي شهدتها الرواية العربية في العقدين الأخيرين تتوزع على الآتي: أولاً التوسع في ما هو موجود أصلاً، وثانياً معالجات جديدة لما هو موجود أصلاً، وثالثاً جديد كلياً أو شبه جديد.
* مقال منشور ضمن ملف العدد العشرين من مجلة ذوات الثقافية الإلكترونية " الرواية العربية: التحول والتحدي"
26 يونيو 2016