بدأ الأمر حينما قرر الاستجابة للفكرة التي تمني أن تضع حداً لمعاناته..
كان ذهنه قد تحوّل منذ مدة طويلة إلي جثةٍ تعاند كل محاولات إعادتها للحياة.. وصل
إلي اللحظة التي فرضت عليه تغيير الأماكن التي تعوّد الكتابة فيها.. خرج من بين
حوائط بيته، وودّع طاولات المقاهي، وكنب الحدائق، ثم اتجه إلي المكتبة.. جلس وسط
الرفوف الكثيرة، العالية، المتخمة بالكتب ليحاول استعادة الكتابة.. " علي
الأقل سيكون قريباً من المصادر، والمراجع التي قد يحتاجها " قال لنفسه.. مرت
ساعات، وأيام، وأسابيع تمسّك خلالها بالصبر متوسلاً الشفاء.. كأنه يدرك أن ما
يجرّبه الأن هوآخر الحلول الممكنة، حيث لا يوجد بعده أي وسيلة للنجاة بل خضوع تام
لليأس.. بعد شهور لم تتوقف خلالها سلة المهملات بالمكتبة عن الامتلاء بأوراقه
المكرمشة؛ اشتري رواية لفت عنوانها انتباهه.. كانت صدمته هائلة وصفحاتها تتوالي
تحت عينيه.. وجد الكلمات المبعثرة، والسطور الناقصة، والفقرات غير الكاملة التي
ألقاها طوال الفترة الماضية في سلة المهملات بالمكتبة قد تحوّلت إلي رواية، وما
زاد الاكتشاف قسوة أنها أعجبته جداً.. لم يكن يعرف الكاتب الذي قرأ اسمه علي
الغلاف.. بحث علي الانترنت، واتصل بدار النشر؛ فتأكد من أنه موظف بالمكتبة التي
قضي الشهور الأخيرة يحاول الكتابة بين رفوفها.. حسم تفكيره المتوتر، الذي ظل يمضغ أعصابه
المحترقة طويلاً بحقيقة أنه لا يملك دليلاً علي انتماء الرواية إليه بشكل أوبآخر..
ما الذي يثبت أن موظف المكتبة واظب علي جمع الأوراق المكرمشة التي كان يلقيها في
سلة المهملات خلال تلك المدة، وأنه بطريقة ما نجح في استغلالها لكتابة رواية جيدة..
تخيل نفسه يذهب مدفوعاً بغضبه العظيم، وحسرته البالغة إلي موظف المكتبة ويقول له:
(الأخ الذي يقتلك الندم بعد موته، لأنك لم تصادقه بالدرجة التي تحميه من الموت ليس أخاك.. الأصدقاء الذين يعذّبك عدم حصولك علي دلائل تؤكد نجاح انتقامك منهم ليسوا أصدقاءك.. الأشباح العديدون الذين لكلٍ منهم وظيفة محددة لا يعيشون، ولا يتكاثرون بداخلك.. لست أنت من فشل في تعطيل رغبته في الدنيا، وفي العيش كمتشرد.. أنا الذي أريد أن أكتب ( هايكو) أبطاله ( فوكو)، و( كافكا )، و( أونجاريتي )، و( أمبرتو إيكو)، و( ثلاثي أضواء المسرح ).. ملاحظات الكتابة عن سلطة الجمل القصيرة ليست مدونة في دفترك.. الأسانيد، والمبررات التي تقف وراء دفاعك عن ضرورة الكسل لا تخصّك، بل أنا الذي خلقتها )...
تخيل الملامح المتشفية، والابتسامة الساخرة ثم الصمت الواثق للتجاهل الذي سيحرّك رأس موظف المكتبة بعيداً كي يُكمل عمله في هدوء.. تصور أن المكتبة ستظلم حينئذ، وأن أضواء ساطعة ستتوهج وتتراقص فجأة لتحاصره من كل الاتجاهات، ثم يمطر السقف بالونات، وقصاصات ملونة علي إيقاع موسيقي متهكم.. يلتف حول ذهوله جميع موظفي المكتبة، والقراء الذين كان يجلسون منذ لحظات، وأشخاص آخرون ربما يعرف بعضهم.. يصفقون، ويضحكون كما يليق بالكشف عن خدعة قاسية أوفخٍ محكم نجح في اصطياده.
كان يعرف أنه مهما فعل فلن يصدقه أحد.. إما أن يرضي رغماً عنه بالأمر الواقع، أو ينتظر التوصل إلي عقاب مناسب لموظف المكتبة بعيداً عن محاولات إقناع العالم بأن الرواية مسروقة منه.. لن يجلب السعي لذلك سوي قتامة أزيد لحياته البائسة.. الحياة التي لن تتحمل خاصة بعد ما آلت إليه مؤخراً أن تمزقها، وتضيّعها تماماً حكايات البشر عن الادعاءات الكاذبة لكاتب لم يعد لديه بعدما فقد القدرة علي الكتابة سوي الأوهام.
لكن في نفس الوقت كان التفكير في الرضوخ لما حدث، أوالانتقام من موظف المكتبة، وكذلك النتائج العدائية المتوقعة لشرح حقيقة الرواية لم يكن أكثر ما يحفر جروحاً غائرة في داخله، وإنما التساؤل المميت عن الكيفية التي تمكن موظف المكتبة بواسطتها من استخدام تلك الحصيلة من الأشلاء في كتابة رواية كهذه.. يعرف وهوما كان يعمّق من تعاسته الثقيلة أن ما تركه في الأوراق المكرمشة داخل سلة المهملات لم يكن كافياً وحده، وإنما كان يحتاج لعمل.. تدخّل بارع يشيّد التفاصيل، والأحداث، وينظّم السرد علي نحوٍ ملهم كما فعل موظف المكتبة.. أي مهانة إضافية ينتظره الغرق فيها لو توجه إليه متصنّعاً الود كي يسأله.. ثم أن مشكلته الأساسية مازالت كما هي.. عجزه عن الكتابة يزداد رسوخاً، وبلادة فوق صدره.. جدران عمياء تواصل تقليص الفراغ، وسحق عظامه من كل جانب، كأن تابوتاً أصغر من حجم جسده يُغلق عليه.. لم يفشل في استعادة الكتابة فحسب، وإنما أذلته في بُعدها بمنح نفسها كهديةٍ ممتنة لواحدٍ آخر.
داخل مكتبة أخري، وبعد أن أمضي ساعات طويلة بين رفوفها، سأل نفسه: لماذا لم يقطّع الأوراق التي تركها في سلة مهملات المكتبة، والتي بهذا الشكل ساعدت الموظف علي كتابة روايته.. لماذا تركها مكرمشة فقط.. فشل في العثور علي الإجابة، وهوينهض من مكانه.. تحرك نحو الباب بتمهل يسمح لابتسامته أن تصل كاملة، وواضحة للموظف الجالس قبل أن يخرج تاركاً كثيرا من الأوراق المكرمشة في سلة المهملات.
(الأخ الذي يقتلك الندم بعد موته، لأنك لم تصادقه بالدرجة التي تحميه من الموت ليس أخاك.. الأصدقاء الذين يعذّبك عدم حصولك علي دلائل تؤكد نجاح انتقامك منهم ليسوا أصدقاءك.. الأشباح العديدون الذين لكلٍ منهم وظيفة محددة لا يعيشون، ولا يتكاثرون بداخلك.. لست أنت من فشل في تعطيل رغبته في الدنيا، وفي العيش كمتشرد.. أنا الذي أريد أن أكتب ( هايكو) أبطاله ( فوكو)، و( كافكا )، و( أونجاريتي )، و( أمبرتو إيكو)، و( ثلاثي أضواء المسرح ).. ملاحظات الكتابة عن سلطة الجمل القصيرة ليست مدونة في دفترك.. الأسانيد، والمبررات التي تقف وراء دفاعك عن ضرورة الكسل لا تخصّك، بل أنا الذي خلقتها )...
تخيل الملامح المتشفية، والابتسامة الساخرة ثم الصمت الواثق للتجاهل الذي سيحرّك رأس موظف المكتبة بعيداً كي يُكمل عمله في هدوء.. تصور أن المكتبة ستظلم حينئذ، وأن أضواء ساطعة ستتوهج وتتراقص فجأة لتحاصره من كل الاتجاهات، ثم يمطر السقف بالونات، وقصاصات ملونة علي إيقاع موسيقي متهكم.. يلتف حول ذهوله جميع موظفي المكتبة، والقراء الذين كان يجلسون منذ لحظات، وأشخاص آخرون ربما يعرف بعضهم.. يصفقون، ويضحكون كما يليق بالكشف عن خدعة قاسية أوفخٍ محكم نجح في اصطياده.
كان يعرف أنه مهما فعل فلن يصدقه أحد.. إما أن يرضي رغماً عنه بالأمر الواقع، أو ينتظر التوصل إلي عقاب مناسب لموظف المكتبة بعيداً عن محاولات إقناع العالم بأن الرواية مسروقة منه.. لن يجلب السعي لذلك سوي قتامة أزيد لحياته البائسة.. الحياة التي لن تتحمل خاصة بعد ما آلت إليه مؤخراً أن تمزقها، وتضيّعها تماماً حكايات البشر عن الادعاءات الكاذبة لكاتب لم يعد لديه بعدما فقد القدرة علي الكتابة سوي الأوهام.
لكن في نفس الوقت كان التفكير في الرضوخ لما حدث، أوالانتقام من موظف المكتبة، وكذلك النتائج العدائية المتوقعة لشرح حقيقة الرواية لم يكن أكثر ما يحفر جروحاً غائرة في داخله، وإنما التساؤل المميت عن الكيفية التي تمكن موظف المكتبة بواسطتها من استخدام تلك الحصيلة من الأشلاء في كتابة رواية كهذه.. يعرف وهوما كان يعمّق من تعاسته الثقيلة أن ما تركه في الأوراق المكرمشة داخل سلة المهملات لم يكن كافياً وحده، وإنما كان يحتاج لعمل.. تدخّل بارع يشيّد التفاصيل، والأحداث، وينظّم السرد علي نحوٍ ملهم كما فعل موظف المكتبة.. أي مهانة إضافية ينتظره الغرق فيها لو توجه إليه متصنّعاً الود كي يسأله.. ثم أن مشكلته الأساسية مازالت كما هي.. عجزه عن الكتابة يزداد رسوخاً، وبلادة فوق صدره.. جدران عمياء تواصل تقليص الفراغ، وسحق عظامه من كل جانب، كأن تابوتاً أصغر من حجم جسده يُغلق عليه.. لم يفشل في استعادة الكتابة فحسب، وإنما أذلته في بُعدها بمنح نفسها كهديةٍ ممتنة لواحدٍ آخر.
داخل مكتبة أخري، وبعد أن أمضي ساعات طويلة بين رفوفها، سأل نفسه: لماذا لم يقطّع الأوراق التي تركها في سلة مهملات المكتبة، والتي بهذا الشكل ساعدت الموظف علي كتابة روايته.. لماذا تركها مكرمشة فقط.. فشل في العثور علي الإجابة، وهوينهض من مكانه.. تحرك نحو الباب بتمهل يسمح لابتسامته أن تصل كاملة، وواضحة للموظف الجالس قبل أن يخرج تاركاً كثيرا من الأوراق المكرمشة في سلة المهملات.
أخبار الأدب
11/1/2014