لا تقصد الطبيعة المهيمنة للارتباك والانزلاق داخل الانقطاعات المفاجئة من الحوار في قصة (جميل فمي عيناي خضراوان) لـ (جيروم ديفيد سالنجر) القيام بوظيفة إرجائية، أي تأجيل الوصول إلى دلالات محسومة باعتبار الفراغات إحالات متتابعة، وغير مستقرة للهذيان .. لكن (سالنجر) يضع الطيش كحضور راسخ، متشبع، ومكتف بذاته، ما يقود إليه ليس غائباً وإنما فائض بوضوح كمتن صادم .. تتجلى فوضى اللغة كسياقات متصارعة؛ إذ يمكن ملامسة حدود البنية التي تتقاتل الكلمات العشوائية داخل ظلامها .. (سالنجر) يجعل من غياب اليقين الحواري حالة عضوية، لا تشير إلى استنتاجات أبعد من القرارات السردية التي يتضمنها شكل المحادثة بين الزوج والصديق الذي تنام الزوجة في سريره .. يصبح تجاور الاحتمالات بديلاً للعلامات؛ حيث يمكن للزوج أن يكون على وعي بوجود الزوجة في سرير صديقه أثناء المحادثة التليفونية حتى لو كانت تفاصيلها تشير ظاهرياً إلى الاتجاه المضاد .. نفس الأمر ينطبق على المعلومة الكاذبة التي أبلغها الزوج لصديقه في النهاية بأن زوجته قد عادت بالفعل إلى البيت بينما كانت لا تزال نائمة في سرير الصديق .. قد يكون هذا الوعي لدى الزوج بوجود زوجته عند الصديق ـ وهي معرفة تدعمها قطعاً خبرة الزوج بزوجته التي كشف الحوار مع الصديق عن تلخيص واف لها ـ هذا الوعي قد يكون فرصة تم انتهازها لممارسة الارتباك وليس مجرد قاعدة منطقية لتفجيره .. رغبة لدى الزوج في التحرر من علاقته بزوجته ـ بصرف النظر عما تفعله الآن حتى لو كانت نائمة مع صديقه ـ بواسطة الهذيان، أما المعلومة الكاذبة فلم تكن سوى تطويراً لهذا الهذيان .. الاحتمالات كذلك تمتد إلى الصديق الذي قد يكون شعوره بالضيق ناجماً عن الذنب، وهو ألم سيعمقه بقوة المعلومة الكاذبة التي سيخبره بها الزوج عن عودة زوجته النائمة بجواره الآن .. ربما يكون الجفاء ناجماً كذلك عن تأكد متزايد من كونه ضمن قائمة الأوغاد الذين لا يتمالك الزوج نفسه من البحث عنهم في الخزائن اللعينة كل مساء حين يعود إلى المنزل، والذين يحتمل أن تكون زوجته قد خبأتهم: صبيان خدمة المصاعد، صبيان الدكاكين ورجال الشرطة .. كأن الصديق يواجه بوجوده داخل هذه اللائحة من عشاق الزوجة مأساته الضئيلة داخل حطام بشري هائل .. الزوجة التي تشعر بنفسها كأنها كلبة من أعلى رأسها حتى باطن قدميها، يسمع الصديق من زوجها أنها الفتاة مدعية الثقافة، الأكثر تخلفاً على قيد الحياة، والجديرة بالشفقة، التي عندما تكون مهتاجة تنط على أول وغد يدخل إلى المطبخ مؤكداً بأنها لا تحتاج إلا لوغد كبير، لا يفتح فمه، فقط يدخل عليها من حين لآخر فيضاجعها ثم يعود ليواصل قراءة جريدته .. الزوج (المحامي الذي خسر قضية للتو) يخبر صديقه الذي يبدو أنه لا يعرف من هي (مدام بوفاري) بأنه خرع، وكأنه يقول لصديقه: أما أنت فالوغد الكبير الذي تحتاجه زوجتي التي قد تكون نائمة بجوارك الآن .. إن الاحتمالات المتساوية تجعل من طلب الزوج الحضور إلى الصديق في هذه اللحظة التي توجد فيها زوجته داخل سريره نوعاً من التلويح بالإيذاء الخبيث، أو اللعب المتعمد بالأعصاب سينتهي مع رفض متوقع من الصديق لحضور الزوج إلى بيته .. من يمكنه أن يستبعد بإيمان تام، وبيقين مطلق أن الزوج كان يشك بوجود زوجته في سرير صديقه أثناء مكالمتهما التليفونية، ومن يمكنه أن يستبعد بنفس الإيمان التام واليقين المطلق أن صديق الزوج كان يشك في معرفة صديقه بهذه الحقيقة؟ .. لا أحد يستطيع غلق هذا الباب السحري الذي فتحه (سالنجر) ببساطة قاسية.
هذه الاحتمالات ليست افتراضات متوارية تنتظر إشارات محفزة ينبغي تتبع
مساراتها، وتأويل العلاقات داخل النظام السردي الذي تخضع له، وإنما هي أقرب إلى النتائج
البديهية المتساوية الكامنة كخلفية معلنة للطيش الذي ينسجه (سالنجر) ببراعة .. أنت
لا تحتاج للذهاب بعيداً خارج النسق اللغوي الذي يعيّن الإمكانات كتعويض لشفرة ليس
هناك احتياج لها، وهو ما يلائم دعابة لا ينبغي أن يفسدها التخمين .. (سالنجر)
يخبرك على لسان صديق الزوج بأنهم جميعاً بهائم .. في أعماقهم هم جميعاً بهائم ..
لذا مهما كانت مشاعر الغضب والتوتر والحسرة، ومهما كانت (نيويورك) عاهرة وشلة
العصابيين فيها ينبغي مفارقتهم .. لا تصدق أن تلك المشاعر تريد الذهاب بك إلى أمر
أكثر أهمية مما يبدو .. إنها مجرد دعابة تخص أولئك الذين يشعرون أنهم بهائم في
أعماقهم .. (سالنجر) لم يخلق حواراً وإنما ابتكر إيهاماً فاتناً بالحوار، كأن هناك
شخصيات تتحدث بالفعل عن مشكلة ما في حين أن وجودهم أقرب إلى الفقاعات أو الوخزات
الشاحبة التي تخطو داخل الدعابة لتنجز إيقاعها الخاص وتتلاشى، ثم تعاود الظهور
لتؤدي مهمتها قبل التبخر النهائي.
نُشرت هذه القصة ضمن مجموعة (اليوم المرتجي لسمك الموز)
تحميل المجموعة