السبت، 21 ديسمبر 2024

الحبكة المحتالة: انتقام شرلوك هولمز للطبيب آرثر كونان دويل


 رسم توضيحي لويليام هايد في مجلة هاربر ويكلي (12 أغسطس 1893)

ما الذي يجعل رجلًا كالسيد بلسينجتون، ذا “قلب معتل”، أن يختار طبيبًا متخصصًا في مرض “جمود العضلات” لكي يموّل عمله ويستأجر له منزلًا ويشتري أثاثه، ويدفع كذلك تكاليفه الشخصية كافة كل أسبوع ثم يعيش معه لأنه يحتاج أن يكون دائمًا “قرب طبيب”؟ .. هل الجوائز التي حصل عليها الطبيب في مجال “الدماغ” تعد مبررًا كافيًا لأن يقدم السيد بلسينجتون له ذلك العرض بالغ السخاء، في حين أنه كان بوسعه أن يستثمر أمواله في مجال آخر لا يتعلق بـ “مرض نادر”، فضلًا عن تقديم هذا العرض لطبيب متخصص في العلة التي يعاني منها السيد بلسينجتون بالفعل؟ .. لماذا زار الروسيان المنزل في البداية أثناء وجود الطبيب وهما يعلمان بغياب السيد بلسينجتون عنه في ذلك الوقت بوصفهما ابنًا شابًا يرافق أباه العجوز المريض بجمود العضلات، في حين اتضح بعد ذلك أن لديهما القدرة على التسلل إلى المنزل في غفلة من الطبيب لقتل السيد بلسينجتون اعتمادًا على مساعدة أحد الخدم كما جاء في تفسير شرلوك هولمز؟

نحن أمام حزمة من المعلومات غير المعقولة أدى التحايل في خلق ترابط بينها إلى تكوين “حبكة محتالة” وذلك لغرض محدد .. لص يعيش باسم مستعار، سبق له الاشتراك مع ثلاثة آخرين “الروسيان بيدل وهايوود وأيضًا رجل آخر تم شنقه” في جريمتي سرقة أحد البنوك وقتل حارس ليلي، ثم قرر هذا اللص مساعدة الشرطة وتقديم البراهين إلى المحكمة التي تدين رفاقه .. يعرض هذا اللص أن يُغيّر حياة طبيب متخصص في “جمود العضلات” وأن يسكن معه بدعوى أن “قلبه مريض” .. الروسيان “بيدل وهايوود” يقرران الانتقام من اللص الذى وشى بهما وبالآخر الذي تم شنقه فيذهبان أولًا إلى الطبيب في غياب هذا اللص كمريضين ثم يتسللا إلى غرفته وبعد ذلك يعودان إلى حجرة الطبيب متحججين بحالة التشوّش التي تملكت الأب العجوز وعدم إدراك الابن لها .. يعود الروسيان لقتل اللص بمساعدة الخادم.

لو تأملنا قصة “لغز المريض المقيم” جيدًا سنجد أن المعلومات كلها تعتمد على ثقة شخصين فقط “الطبيب” و”شرلوك هولمز” .. الطبيب يضع بداية القصة وشرلوك هولمز يضع نهايتها التفسيرية .. لا أحد غيرهما يمتلك أي إثبات موضوعي مستقل لكل ما يقدمانه كـ “حقائق مؤكدة” .. ماذا كانت النتيجة؟:

“لم يعاقب أحد لموت بلسينجتون. فقد غرق بيدل وهايوود في وقت قصير بعدئذ حين غرقت باخرة تدعى نوراه كراينا بعيدًا عن ساحل البرتغال. لم يكن هناك برهان كاف ضد خادم دكتور ترفيليان، لذلك لم يُتهم أبدًا، ولم تُقدّم قصة لغز شارع بروك كاملة إلى الجمهور حتى الآن”.

كأن آرثر كونان دويل قد دبر في هذه القصة تواطؤًا بين الطبيب وشرلوك هولمز على خلق هذه الحبكة ثم أخفى كل ما يمكنه كشف احتيالها .. دويل الذي وضع سيجارات في المدفأة لكي يكتشف هولمز أن بلسينجتون قد قُتل ولم يشنق، وجعل هولمز أيضًا يستخدم صورة بلسينجتون في التوصل إلى حقيقته ومن ثمّ إلى صلته بجريمتي سرقة بنك ومقتل حارس ليلي وبالتالي إلى هوية قاتليه، كما جعله يتوصل إلى تورط الخادم في مساعدة هذين القاتلين من دون اهتمام بعرض الأدلة التي قادته إلى ذلك؛ مع كل هذا اختار أن يموت الروسيان لا أن يُقبض عليهما ويعترفا بجريمتهما، وأن يستبعد أي برهان كاف لإدانة الخادم بالرغم من يقين شرلوك هولمز بتورطه في الجريمة .. كان بوسع آرثر كونان دويل أن يقدم تأكيدًا في النهاية لكل المعلومات التي وردت في هذا اللغز ولكنه مع ذلك أبقاها دون حسم، كأنه يستجيب إلى ما يمكن أن يعد جانبًا لاوعيًا من ذاته يعرف تمامًا أن الأمر يحكمه التلفيق.

إننا لو صدقنا ـ بشيء من المسايرة المقصودة ـ الظروف التي شكّلت علاقة الطبيب بالسيد بليسنجتون في البداية فإننا وفقًا للسياق المنطقي الذي قد ينجم عن هذه الملابسات سنجد أن الطبيب نفسه هو المستفيد من قتل السيد بلينجستون .. طبيب أصبح ناجحًا بفضل مساعدة السيد بلينجستون، ولكن في المقابل فإنه لا يحصل سوى على ربع ما يكسبه من مال ويأخذ السيد بلينجستون الثلاثة أرباع وهو ما ساهم في زيادة ثراءه .. لو اختفى السيد بلينجستون من الوجود ـ بسبب حادثة سرقة بنك قديمة وما نجم عنها من عواقب ـ فإن الطبيب سيحصل على ما يجنيه من عيادته كاملًا ودون أي نقص.

إن القصة حين نجردها من أحداثها الظاهرية ستبقينا أمام مواجهة مباشرة بين طبيب يلخص معاناته في الفقرة التالية:

 “لكن، أيها السادة، ليس لدي مال. الرجل الذي يريد أن يصبح متخصصًا يجب أن يعيش في المنطقة الغالية حول ساحة كافندش ـ هناك فقط حوالي اثنى عشر شارعًا محتملًا، والإيجارات عالية إلى حد مفرط! وعلى الإنسان أيضًا أن يستأجر حصانًا وعربة ويشتري أثاثًا لمنزله. كنت سأحتاج إلى عشر سنين لأكون قادرًا على توفير المال الضروري”.

… وبين رجل ثري أعطى الطبيب ما يحتاجه في مقابل الجزء الأكبر من دخله.

هذا ما يجعل التواطؤ الذي دبره آرثر كونان دويل بين الطبيب وشرلوك هولمز لا يتعلق بشخصيتي الطبيب والسيد بليسنجتون وإنما باحتياج العلم إلى المال وبرغبة صاحب العلم في التخلص من الملكية الانتهازية لصاحب المال؛ فلو كان الطبيب يمتلك كفايته الذاتية ما احتاج إلى تمويل السيد بليسنجتون لعمله، ومن ثمّ ما كان مجبرًا على التخلي عن ثلاثة أرباع عائد جهده إلى ذلك الرجل .. هنا لا يتم النظر إلى المعادلة السهلة التي تعيّن هذا التخلي ثمنًا منطقيًا مقابل ما منحه السيد بليسنجتون للطبيب باعتبار هذه المعادلة هي القول الفصل، ولكن المعيار الأساسي الذي له أولوية الاهتمام في هذه المسألة عند آرثر كونان دويل كطبيب عانى من الفقر والتبعية والفشل المهني هو الاستقلالية عن سلطة الآخر “الثري” .. المعيار الأساسي هو التحرر “العادل” الذي يوفر للطبيب ما يحتاجه من أجل عمله، دون اضطراره أن يقتطع النصيب الأكبر من دخله في مقابل ذلك .. لا يتعلق الأمر بالأخذ والدفع وإنما بالحصول على ما تعتبره حقًا أصيلًا لك دون شروط سوف ستحرمك من هذا الحق إذا لم تقبلها.    

من كتاب “الحبكة المحتالة” ـ قيد الكتابة