بقدر ما رأى النقد الأدبي في القصة القصيرة
عبر التاريخ مجالًا لغويًا مفتوحًا للتحليل والتنظير حول موضوعات "القهر
الاجتماعي" و"التفاوت الطبقي" و"التمييز الثقافي"،
ومثلما استعمل في تلك المقاربات والاستقراءات المفاهيمية أعمالًا قصصية من الأدب
العربي والعالمي، تحوّلت إلى نماذج متأصلة، تُستدعى ويشار إليها على المستوى
البحثي والتداولي؛ بقدر ما تبنى نقد القصة القصيرة أيضًا العديد من التجارب التأويلية
التي استندت إلى الرؤى التفكيكية لهذه الموضوعات بالاشتباك مع الطبيعة الوجودية لـ
"السلطة"؛ أي الأسس الإدراكية المترفعة التي تجسد فرضياتها الصور
اليومية المباشرة لـ "القهر" و"التفاوت"
و"التمييز". اعتمدت هذه الرؤى على تقويض الدعائم الغيبية لـ "التسلط"
التي تحدد "الحقيقة" وفقُا لشروطها المطلقة، وتجعل من "المعنى
الاستعبادي" غاية استباقية للظواهر الواقعية المتغيّرة، تشكّل أبعادها
وممارساتها السياسية والاقتصادية والعقائدية المختلفة كـ "فكر" يمتلك
صفة البداهة، متقدم على "الفعل" الخاضع لحكمه المتحيّز، احتياجًا إلى ما
يسمى "الإيمان". احتياجًا إلى كبت الرغبة التدميرية تجاه الذات التي
تحتاج إلى "الإيمان".
"لقد بدأت التفكيكية مع جاك دريدا
كمشروع إعادة نظر في الفلسفة الغربية وقد تشكّل هذا المشروع على أرضية معرفية
تأسست تاريخيًا من مراجعات الفكر الغربي، التي تمت على ما يزيد من قرن من الزمان،
بدءً بما قدمه نيتشه من رفض لما أقره الفلاسفة حول الحقيقة والجوهر، ومرورًا بما
قدمه مارتن هايدغر من إعادة النظر بمفاهيم الميتافيزيقا وإصراره على أن مبحث
الكينونة في الفلسفة الغربية إنما هو بحث في الكائن لا الكينونة، وكان تجاوز
الميتافيزيقا والتفكير الميتافيزيقي هو محور محاولاته المتكررة، وبما قدمه ميشيل
فوكو من طرح مشابه فيما جسّده من فكرة انحلال الأشياء في الكلمات، والنظام في
الخطاب، وتمثل المعطى الجوهري الذي صدرت عنه طريقته، في نظرته إلى أن الحقيقة قد
تقررت تاريخيًا على أنها نتاج ممارسة خطابية، حتى إن الذات هي نتاج
"للممارسات الخطابية"، وانتهاءً عند دريدا فيما اختزله بهدم الثنائيات
التي شيدت التكوينات المعرفية للفلسفة الغربية مثل: "الداخل / الخارج ..
العقل / الجسد .. الحرفي / المجازي .. الكلام / الكتابة .. الحضور / الغياب ..
الطبيعة / الثقافة .. الشكل / المعنى" ومن ثمّ انسحب ذلك على ثنائيات النقد
الأدبي مثل: الدال / المدلول .. المؤلف / القارئ .. الكتابة / القراءة .. النص /
الخطاب" ... "1".
الكلمات المفتاحية: التفكيك، القصة، السلطة، النسق، الفقر.
1ـ مقدمة:
منذ الكلمات الأولى في مجموعة "حواديت
محلية الصنع" أو المفتتح المعنوّن بـ "تعريف لابد منه" تحدد مشاهد
/ مقولات "الفقر" سياقًا خطابيًا يمهد لاكتشافه كهوية دامغة لقصصها، ليس
فقط باعتبار المفتتح إشهارًا للمحتوى الدلالي لقصص المجموعة، ولكن لأن تفاصيله
الحسية أيضًا تمتلك حضورًا طيفيًا ثابتًا داخل هذه القصص. قراءة "حواديت
محلية الصنع" تعني إدراكًا بأن فضاءات قصصها تنطوي طوال الوقت على "كوب
شاي ماسخ"، و"نداءات باعة جائلين"، و"تلميذ ينادى على اسمه في
طابور الصباح لأنه لم يسدد المصروفات"، و"فرحة طفل بعلبة
"الهريسة"، و"أطفال يلعبون "الغميضة" في المقابر"،
و"محاولات لتفادي بصقات وصفعات مجذوب"، و"شخص يجمع أجرة
"ميكروباص"، و"ولد يهرب من المدرسة قفزًا من فوق أسوارها العالية
ذات الأسلاك الشائكة". في خفاء القصص يوجد هذا "النقصان المكتمل"
بأشيائه الملموسة رغم احتجابها، التي تكوّن كليّة الحيوات المعلنة للمجموعة.
(لم أنشأ بين الكتب، ولم يحو بيتَنا مكتبة
كما يتباهى الكتّاب، ذلك أن أبي الفقير لم تكن ضمن أولوياته الكتب والمكتبات.
إنجازه أن يمر اليوم بالكفاف في العيش، حلونا كان كوب الشاي "الماسخ")
... "2".
"جماليات الفقر" تقدم نفسها في
هذا المفتتح بديلًا لـ "المتن الأدبي العالمي" المتعذّر، كما يشير
الكاتب، لكن هذه الجماليات كان عليها أن تتحوّل بدورها إلى متن شخصي، يوثّق سردية
"الكفاف" التي لم تُقرأ في كتب وإنما ظلت "معاشًا". كان على
هذه الجماليات بينما توثق "الحيوات الكادحة" أن تتأمل ذاتها، ليس فقط
عبر مرايا "البؤس" في "الأدب العالمي"، كما نجد في قصص مثل
"المعطف" لجوجول، أو "وفاة موظف" و"المغفلة"
لتشيكوف، أو "الخبز" لبورشرت، ولكن أيضًا عبر التشريح الضمني للغة التي
تستعملها هذه الحيوات في وصف نفسها. لكي يستجوب هذا التوثيق ولو على نحو مستتر تلك
العلامات التقليدية التي يستخدمها "نسق الفقر" في تثبيت يقينه. ذلك لأن
إعادة كتابة الذخيرة السردية لـ "حنايا الحواري" على سبيل المثال تضمر
في جوهرها رغبة مبهمة في تحريف "النموذج البلاغي"، أي تعديله بما يجعله
قابلًا للبوح بـ "فقره"؛ احتياجه الدائم لسد ثغراته، لإخفاء تناقضاته،
أي عجزه عن ضمان الاتساق مع نفسه. يجعله قابلًا للنطق بما لم يفصح عنه من قبل. تجريده من عموميته،
أو سماته الشائعة والمستقرة، ألا يكون مجرد استنساخًا لمعرفة متعسفة، تكوّنت وفقًا
لمشيئة "سابقة"، تتسم بالمراوغة والانفصال عن "ملامح النموذج
الزائلة". هو بحث "الكفاف" حين يصبح نصًا مكتوبًا عن استقلاله
المضاد عن "المصدر المتعالي" للسلطة أو الخطاب الشمولي
"المنعزل" الذي ينتج مواصفات القيم عبر التاريخ، وبالتالي يؤسس ويضمن
الهيمنة بواسطة الانتساب اللغوي المتجذر إلى مرجع أو "لاهوت أنطولوجي"
يستحوذ كليًا على الحقيقة. يعمل النقد على كشف هذا الانتهاك المتواري الذي تمارسه
القصة القصيرة تجاه خطابها الظاهري. على حل الالتزام المدعي بين الكلمات والإطار
الطاغي الذي يضمن معانيها ويسيطر على إحالاتها. هكذا تكون "عني" التي
يبدأ بها مفتتح المجموعة "تعريف لابد منه"، إيماءة سرية إلى
"اللاتعريف".
(لا يشرح التفكيك النصوص
بالمعنى التقليدي الذي يحاول الإمساك بوحدة المحتوى أو التيمة، وإنما يبحث في
كيفية اشتغال التعارضات الميتافيزيقية وتفنيدها، كما يبحث في الطرق التي تُنتج بها
المجازات النصية والعلاقات في النص منطقًا مزدوجًا ومتناقضًا)... "3".
2 ـ الصوت كتفاوض مع الزمن:
صوت الطفل في قصة "عملات أبي"
يكافح لخلق مستويين من الزمن: الوقت الشخصي، الكرونولوجي أو المتتابع كما يمر بحسب
عقارب الساعة مكتسبًا سرعة قصوى، والذي يفترض أن يصل به إلى لحظة الحصول على
الدراجة، والزمن الوجودي الذي يتجاوز الوقت، أي الذي لا يرتبط خلاله العالم كليًا
بعقارب الساعة. هذان المستويان من الزمن ينسجمان ويتصارعان معًا؛ فالسرعة القصوى
بالنسبة للطفل هي إلغاء للوقت الشخصي، وهو ما يرادف الزمن خارج عقارب الساعة، أي
في عدمه، وكأن "الدراجة" وسيلة مستقبلية ممكنة لتحقيق ذلك التخطي. لكن
سر هذا الانتفاء الغامض والمستحيل للزمن هو ما يمنع الوقت من الإلغاء. هو الذي يبقي
العالم عالقًا في الوقت. يعرَّف الخيال الطفولي هنا بكونه وسيطًا تفاوضيًا بين
الوقت وما وراء الزمن. تودد "الوقت المستعمل" إلى السلطة الغيبية التي
يختفي عندها الزمن. التي تُبقي العالم خاضعًا للزمن. الوقت المستعمل تكوّنه كل
الأشياء المستعملة في حياة الطفل وأسرته، وكأن التلصص على عقارب الساعة كمجابهة
لهذا الوقت هو ما يشيّد الزمن الداخلي "الشبحي" للطفل، أو الوقت المنفلت
من "الاستعمال"، غير المرهون بعقارب الساعة، ومن ثمّ فإن هذا الزمن
الداخلي يضع الطفل على حافة الاختفاء الزمني. أي على عتبة المواجهة مع السلطة
المجهولة التي تمتلك الزمن. صوت الطفل ينطوي على استجواب لوجود يمكن تلخيصه في
"سوق الجمعة" أي حيث يشتري الفقراء ما يتاح لهم من قمامة الأغنياء.
الدراجة المستعملة استفهام "العدل" الذي يتعدى الأطر الاجتماعية نحو "الأصل
الكوني" المحتمل للقهر. نحو الإرادة المحتجبة التي جعلت العالم نقيضًا للمطلق
ومن ثمّ يحكمه التفاوت والتمييز. الطفل لا يستحق دراجة فحسب سواء كانت جديدة أو
مستعملة، ولكنه يستحق أن يكون محصنًا من الحاجة بشكل شامل. أن يكون محميًا من ألم
النقص. ألا تستعمله مفردات الظلم الطبقي المروّضة للتعتيم على جوهر معاناته، حيث
"المساواة" ـ كرجاء طوباوي ملغز ـ ليست بين كائن وآخر وحسب، وإنما في
محو التضاد بين الكائن وكينونته الإلهية بالمقام الأول. في تفتيت
"الحكمة" المتسلطة التي تضلل وعيه بالمأساة، وتقمع بالضرورة تمرده
الانتقامي على زيفها.
"أفرح برؤية السيارات الكهربائية التي
كنت أراها فقط في الأفلام مع أبناء تجار المخدرات وأثرياء القوم، لا أعبأ بأجزائها
الناقصة وخروقات جسدها من تعدّي أبناء الذوات التي أنقذتها من أياديهم العابثة دون
اكتراث؛ لتكون جديدًا لآخر يعاملها برقة كحلم غال تحقق" ... "4".
تتطلب قراءة قصة "عملات أبي"
مقاومة استبداد المعنى الذي يصوغ عبارات مثل "دائمًا أمانينا أغلى مما في
جيوبنا، ودائمًا الثمن حائلنا الأكبر". المقاومة التي تفكك "الأمنية"
و"الثمن". الأمنية التي يكشف تحققها ـ على الأخص ـ عطبًا كامنًا في
أغوارها، تصدعًا جذريًا يعيد تشكيل هويتها، ذلك ما يجعل الثمن "مطاردة"
لما لا يتم امتلاكه أبدًا. وكأن رحلة الولد وأبيه إلى السوق لشراء دراجة مستعملة
هي تمثيل مختزل للانتقال بين فجوة وأخرى تتنكر في أحلام "محلية الصنع"
عبر هامش شائخ من الفقد الأزلي، سيمتد بعفوية الحياة والموت إلى ما بعد حصول الولد
على الدراجة؛ حيث تظل كل الحيوات "مستعملة". هذه الفجوات ليست
"أمنيات" فحسب، وإنما هي أيضًا الإيهام الذي يفصل الراوي عن الماضي الذي
يتذكره، وما يفصل الطفل عن ذاته التي تجرّب هذا الماضي حين كان حاضرًا. الفجوات
التي تتحوّل لحظة الكتابة إلى تلويحات ثأرية تجاه متن غائب.
3 ـ صيرورة التغييب والانبعاث:
شخصية الراوي في قصة "السبنسة"
تحاول فض الاشتباك بين صيرورة روحية وأخرى جسدية؛ فالطالب فوق عتبة السبنسة يضع
جسده في مقامرة حركية للاتساق مع شوق معاند لروحه. يريد الفوز برهانه كمغامر غير
خبير وسط جماعة من المتمرسين على خطر "السبنسة"، لكن توقه الروحي في
السعي لمسايرة هذه الرغبة يقيده الرفض الأساسي لهذا الاضطرار. رفض الأسباب
والعوامل ـ غير النزيهة ـ التي سمحت لهذا المشهد بالوجود. هذا ما يجعل الصيرورة
الروحية مجاهدة لتعطيل صيرورة الجسد بينما تقوم ظاهريًا بتحفيزها. الروح تحاول
إخفاء الجسد كخطوة أولى ـ لا تحدث ـ لإعادة بعثه خارج عتبة السبنسة. خارج "موضوع"
السبنسة". كأن هذا الانبعاث المناقض للجسد سيمحو رمزية "السبنسة"
ذاتها، أي ما تأسسس عليه "تاريخيًا" هذا التشبث بالباب الحديدي للعربة
الأخيرة من القطار .. لكن ما هو ذلك الجسد الذي تحاول الروح تغييبه؟ وأي انبعاث
تسعى إليه؟ ...
إن الجسد غير مكوّن فحسب من ذلك الوعي
باللامساواة، وما يفرّق حياة "القادرين" عن حياة "العاجزين".
وما يفرّق "ركاب المكيّف" عن "المتعلقين في الذيل"، وإنما
يشكّله أيضًا ذلك التضليل الغريزي الشامل الناتج عن تراكم الكبت الذي يمارسه هذا
الوعي باعتبار أن تلك "اللامساواة" تبدأ وتنتهي داخل الحدود البشرية، وليست
شانًا غيبيًا، أو على الأقل يحتفظ ذلك الغيب بسرّها التبريري. يشكّل هذا الجسد
معارضة دفينة لا شعورية، ليس نحو تلك الفروق المعيشية فحسب، وإنما أيضًا تجاه ذلك
السر الذي نجمت عنه هذه الفروق ويتجاوز الحدود البشرية، حيث التبرير ـ المحتجب في
الملكوت الأبوي ـ ما هو إلا توطيد للشر المطلق.
"القطار في طريقه غير عابئ، أعيننا
ترمق من خلف زجاج العربة الأخيرة خيالات من ركاب المكيّف الذي نستقله، ولكن شتّان
أن تتساوى الرؤوس وإن توحّد القطار!"... "5".
هنا لا يصبح القطار مركزًا بين "الداخل"
و"الخارج" فقط، وإنما كذلك بين الأنا والتفسير المادي
"المشوِّش" لمعاناتها. بين الأنا والتفسير "الكوني" المرجأ
لمتاهاتها. يتحوّل القطار إلى قناع مبتذل، يوهم بالصلابة والحياد، ليواري وجهًا
مفتتًا لمرجع "قيمي" كاذب. هنا يأتي دور التأمل النقدي في نزع هذا
القناع عن الإطار المعرفي المحطم أو سراب اليقين الذي يتبدى كموطن حاسم للإجابات
القاطعة والتفسيرات البديهية والمبررات المؤجلة. مع هذا النزع النقدي للقناع
اللغوي عن "المعنى" يُعاد انبعاث جسد الطالب كطيف خارج المدلول
"الجمعي". تتحوّل أجساد ركاب القطار والمتشبثين بمؤخرته ـ بالتالي ـ إلى
مرايا طيفية، مجردة من "الخطاب الطبقي" ـ دون أن تتوقف عن الإشارة إليه
ـ حيث لا "يبصر" كل جسد "تشيؤه" السابق في مرآة الآخر، وإنما "يستبصر"
ذلك "المطلق" الذي حُرم منه كـ "مخلوق"، ليصبح منذ لحظته
الأولى دمية عابرة من الدوال المكرَّسة، تتصارع مع الدُمى الأخرى، فقط من أجل
التأكيد على قداسة المفهوم. التحرر هنا ليس إلا محاولة تخيّل ذكرى مطموسة، لا دليل
على حدوثها، وإنما يقين بافتقادها. الهوية التي أراد رولان بارت التجرد منها:
"أنا، من أكون؟ استعصاء على التحديد، روغان لانهائي، وانتهاك لكل التخوم
والحدود. لست موضوعًا للاستهلاك بل ساحة للإنتاج، أنا إشارة حرة، ودال عائم بلا
مدلول" ... "6".
4 ـ مجاز الكمال وخيوطه المقطوعة:
في قصة "الغريب" يراقب الراوي
عامل المقهى الصعيدي في سعيه للوصول إلى الحد الغائم لغربته. إلى حيث يمكن ـ
بمعجزة ما ـ أن تتحوّل هذه الغربة إلى "خرافة". أن تحدث مفاجأة خارقة
"منقذة" عبر التحديق المتمنع إلى ما وراء تخوم هذه الغربة التي تبدو
لانهائية. كأن الراوي بهذه المراقبة يجاهد للوصول إلى حدود غربته الخاصة، التي
جعلتها اليد المحترقة لعامل المقهى أكثر رسوخًا وبطشًا. في هذه القصة تقدم محاولات
عامل المقهى العسيرة للتكيّف وإثبات الجدارة قبل صراخه الأخير؛ تقدم معادلًا
حركيًا لأداءات التكنيك القصصي نفسه: التفحص، التورط، المسايرة، الجرح، إخفاء الألم،
الصدمة المشهدية، العراء الختامي الذي تتسع وحشيته لكل الاحتمالات. كأن عامل
المقهى يكتب قصته القصيرة جسديًا بينما الراوي يحوّل هذه الأداءات الجسدية إلى
تقنية سردية لا توثق هذه القصة فحسب وإنما تشمل المجموعة كافة وفقًا لخصوصية كل
قصة.
"ظل الحال كذلك حتى استدعاه من آخر
الصالة مناد بصوت أجش ليرفع له الولعة التي تساقطت على الأرض، فإذا به يهرول، خاصة
أن الواقعة بجوار مكتب عرش المعلم، ليلتقط تلك الجمرات المتوهجة بيده بحركات
سريعة، نظر بعدها رافعًا رأسه بابتسامة نصر للمعلم" ... "7".
القصة القصيرة إذن هي وسيلة الكفاح للوصول
إلى الخط المعتم الذي يمكن أن تنتهى عنده الغربة، لكن هذه الحافة تظل مجازًا،
أسطورة ملتبسة للواقع حين يكون مسكونًا بتدابير أخرى. إن الانتقال الذي يتوسله
البائس من العوز ومهاناته إلى الكفاية ووقايتها يظل انتقالًا لغويًا؛ فالاستغناء
مشروط بغياب الحياة نفسها، ومن ثمّ فإن الوقاية الخالصة مرهونة بالوجود خارج
الزمن. القصة القصيرة تناوش هذه المفارقة الكونية بينما تستغرق كليًا في رصد
"الغريب" أو عامل المقهى البائس الذي تحوّل من "ريّس صالة"
إلى "شياشجي". قراءة ما بين السطور أو ما تصمت عنه الكلمات تكشف هذه
المفارقة؛ فتدابير "النقصان" وإن اختلفت من مكان لآخر، تظل هي ما يباعد
بين السماء والأرض. بين مجاز الكمال وخيوطه المقطوعة.
5 ـ المكان بوصفه قرارًا استباقيًا للفناء:
في قصة "سكن" نحن أمام فتات
مكانية. فتاتة يسكنها الرجل المسن أو "العشة"، فتاتة يرجوها أو
"حجرة لها سقف يحميه من المطر"، الفتات كفكرة عبثية أو "العالم كما
يراه الراوي من خلال حكاية المسن ونهايتها". عشة المسن ليست
"فضلات" مكان حقيقي؛ وإنما هي "ما تكسر وتساقط" من "اللامكان"
أي حيث يغيب "المكان" كفضاء شامل، مطلق، لا يقع شيء خارجه. ذلك ما ينطبق
أيضًا على "الحجرة ذات السقف" التي لم يحصل عليها المسن لتحميه من
المطر، ومن هنا تتحوّل المقابر التي عرض أصحابها إيواء المسن بعد موته إلى تعريف
لهذا "اللامكان" الذي "تكسرت وتساقطت منه الفتات كافة". تتسع
المقابر إلى مدى لانهائي، لتصبح تمثيلًا لفكرة العالم في خفاء البنية التأملية للراوي
التي تعيّن المقابر سكنًا، كان المسن يحتاج منها إلى واحدة فقط كي لا يموت. يصبح
العالم تمثيلًا للفناء بتنويعات "مساكنه" أو بالإفرازات المخاتلة لـ
"اللامكان" الذي "تكسرت وتساقطت منه الحكايات" لأنه في ذاته
ليس "حكاية" وإنما يحضر فقط بحدس "الحكايات المفتتة" حين
تستعرض أشلاءها أو تواريها عبر أنماط متعددة من التماسك الشكلي. يُستدعى
"اللامكان" حين تحدث تلك الخلخلة القصصية لمسمّى "المكان"
بوصفه قرارًا استباقيًا للفناء، تتوزع ماهيته في موجودات "مبتورة" عن
الشخصية الرئيسية التي لا يؤديها أي "ساكن".
6 ـ المعنى الفاصل بين المخلوق اللغوي
وسلطة اللغة:
تتداخل "الحبكة" القصصية
المفترضة مع انتهاكها السري لنفسها؛ حيث يبطن نظام القصة تدميرًا ذاتيًا لمعماره
اللغوي يمكن اكتشافه بواسطة الجدل مع فعل "النبش" في قصة "أن تكون
كلبًا"؛ فالمقابلة التي يتم طمسها أو تحاشيها امتثالًا للحكم البلاغي بين ما
هو "حي" وما هو "منزّه" تُستبدل بالمقابلة المداهِنة
والاسترضائية بين من ينبش القمامة ليأكل، ومن يأكل دون نبش. تعتمد سلطة اللغة على
تحديد معنى قاصر، مقيد، محكوم، ومروّض للنبش، معنى لا يتجاوز الحدود التي تحمي
المجاز حيث يختبي ما ليس لغويًا، وما لا يجب المساس به، باعتباره مالكًا للمجاز،
ومن ثمّ لديه القدرة على الوفاء بالعهود التي لم يفصح عنها المجاز نفسه، أي في
كمالها الأنقى. ذلك ما ينطبق على المقارنة بين "نابش القمامة"، والكلب
الذي سيصير إليه ليتمكن من الحصول على "الرفق والطعام" مثل كلاب الذين
يأكلون دون نبش. التشبيه الشهير يعيد
استهلاك نفسه في هذه القصة لكي تنبئ بتفكك ماهيتها دون تبرؤ مما تستند عليه كفكرة
عامة أي "الإذلال"؛ ولكن التقويض هنا يتعلق بما يتخطى المنظور القريب
والمباشر لهذا "الإذلال". المعنى المؤطر الذي يقف حاجزًا بين المخلوق
اللغوي، وسلطة اللغة ذاتها كمصدر لتعيين المفاهيم، وتحديدها، وإخراس أشباحها
الهادمة. تمثل إعادة تدوير هذا التشبيه التقليدي خضوعًا لـ "المقولة" أو
كليشيه الظلم الاجتماعي، اتقاءً للمجازفة ـ المضمرة بالفعل ـ بأن تعرض القصة
اجتياحًا لغرض الوجود نفسه طالما أنه ـ على الأقل ـ يسمح بذلك النوع من الشقاء في
الوقت الذي "يتعايش" خلاله الموجود مع هذا الشقاء بالتقرب إلى الأبوة
الكونية عبر قرابين البلاغة المتعبّدة. كأن المثال المطلق ـ بتنويعاته الخرافية ـ
ليس إلا رحلة اللغة في تكوينها "العمائي" لتاريخ الوجود.
خاتمة
بهذه المقاربة لمجموعة "حواديت محلية الصنع"، وبالتمعن في ما كشفت عنه حول علاقة الصوت بالزمن، والاشتباك بين صيرورة الروح وصيرورة الجسد، والحركة الاغترابية كمعادل لأداءات التكنيك القصصي، والعالم باعتباره تمثيلًا للفناء، وانتهاك الحبكة لنفسها؛ يمكن استبصار دافعًا لتساؤل ـ ربما لا ينكر انحيازه ـ حول القصة التي كان يمكن أن يكتبها علاء أحمد وتتضمن الجزئيات المحددة الواردة في مفتتح المجموعة "تعريف لابد منه" ممتزجة بتفاصيل أي من قصص المجموعة التي تعرض حيوات الفقراء، استثمارًا للميتا سرد في تشكيل هذا التقاطع والتشذر. لنتخيل هذا الدمج بين التعريف الافتتاحي وقصص مثل "حواديت محلية الصنع" أو "في قلبي خروف" أو "نظرة" مثلًا. إن في ذلك التوظيف وشاية أكثر حدة بثورية الإلهام التي يكتمها قانون "الحواديت" المتوارث، خاصة تلك التي تتسم بالنهايات "السعيدة".
الهوامش:
1 ـ التفكيكية وقراءة الأدب العربي القديم
"عبد الفتاح كيليطو" نموذجًا / سامي محمد عبابنة ـ دراسات، العلوم الإنسانية
والاجتماعية، المجلد 42، ملحق 1، 2015
2 ـ حواديت محلية الصنع، علاء أحمد ـ
السراج للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2024. ص7.
3 ـ مدخل إلى التفكيك / جوناثان كلر (عن
التفكيك) ـ تحرير وترجمة: حسام نايل / الهيئة العامة لقصور الثقافة (سلسلة آفاق
عالمية "69") 2008 .
4 ـ حواديت محلية الصنع، علاء أحمد ـ
السراج للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2024. ص13.
5 ـ السابق، ص34.
6 ـ أقنعة بارت، جوناثان كلر. ترجمة السيد
إمام ـ سلسلة آفاق عالمية / الهيئة العامة لقصور الثقافة 2014.
7 ـ حواديت محلية الصنع، علاء أحمد ـ
السراج للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2024. ص45.
أخبار الأدب