السبت، 3 نوفمبر 2018

شال أحمر يحمل خطيئة: إنقاذ أجاممنون من أبوته


ثمة جسد أنثوي يحاول أن ينتج خطابه في مجموعة "شال أحمر يحمل خطيئة" لسعاد سليمان والصادرة عن دار روافد لا بواسطة التحرر من "الأبوة" بل عبر تحرير "الأبوة" نفسها .. تخليص هذه الأبوة من قهرها الذاتي "التاريخي"، وبالتالي تعطيل الأسباب العدائية التي يمكن أن تمنع الجسد الأبوي من الاستجابة للأحلام الأنثوية التي تسعى للتمثّل .. كأن "إلكترا" تكافح لإنقاذ أبيها من الصور المتعددة للخصاء / الموت حيث تتجاوز فكرة الانتقام إلى إعادة خلق الأب خارج هويته القامعة، وبالضرورة منح تجسدّاته المختلفة طبائعًا مغايرة، قادرة على تخليص الجسد الأنثوي مما يبدو مصيرًا حتميًا.
"برأسي أسئلة لا أستطيع الإجابة عليها؛ فهل لديك ما يبدد حيرتي؟ أفتش في عيونها الوقحة، أبحث داخلهم عن ذرة إحساس بالذنب، عن صحوة ضمير! .. تبتلعني شراستها، تنهرني، تهددني، أنكس رأسي، أخاف وعيدها، أخشى أن يفضحني يقيني، فتنكل بي، لم أعرف كيف أوقف الطوفان، ولا كيف أتقيه، كنت على الحافة أستمسك بيقظتك".
الكتابة هي سبيل هذا الانقاذ الأنثوي للأب من الخصاء / الموت الذي يتمثل كما في قصة "دورق أخضر فارغ" في الغياب والغفلة .. تتخطى الذات في القصة محاولة الثأر البديهية من الأم مصدر الخوف والتهديد والعقاب التي تعشق الصهيل تحت الذئاب والثعالب والكلاب أو بشكل آخر "إعادة الأب إلى عرينه" إلى جذب هذا الأب نحو الحضور داخل ذكوريته المطموسة تحت "الحنان" الذي يرمز له اللون الأخضر في الدورق الفارغ .. إلى استرداد الهوية الأصلية الجديرة به، والتي تكمن لدى ابنته .. هنا يبدو الوصف الذي تقدمه الابنة لخطوط الشبق في وجه الأم كأنه في حقيقة الأمر رسمًا متنكرًا لشبق الابنة نفسها .. الشبق الذي لا يريد أن ينتقم من جسد الأم الممنوح للجميع، المتمنّع على الأب، بقدر ما يكافح لإرجاع هذا الجسد للأب في صورة أخرى، نقيًا ومتجاوزًا حدوده .. بقدر ما يكافح هذا الشبق لتذويب هؤلاء "الجميع" في جسد الأب وهو يكتشف ويشكّل هذا الجسد الأنثوي الذي عاد إليه في صورة بديلة من خلال الابنة.
"فارغ أنت أيضًا يا أبي، لم تر مواجعي، لم تدرك ما لم يقله لساني، لم تصلك ذبذبات الجسد الممنوح للجميع، المتمنع عليك، لم يتوقف عقلك دقيقة للتحليل والتفسير، كيف لا تعرف خطوط الشبق في وجه امرأتك؟، الجميع يلتقطون رغبتها المتوهجة، يقدمون وجباتهم السريعة لنهم لا يشبع".
علينا أن ننتبه إلي الحيلة الرمزية التي خطتها سعاد سليمان في نهاية هذه القصة؛ إذ حوّلت حضور الدورق الأخضر الفارغ من إشارة لاختفاء الأب وحضور عاشق متلهف على وطء الأم إلى جعل اختفاء هذا الدورق قرينًا لاختفاء الأب، وهو ما استهدف غرضين مزدوجين: الأول؛ وضع الأب ـ كعاشق أكثر رجولة ـ في مكانة استحواذية تزيح أنصاف الرجال كافة من عشاق الأم بحيث يعلن غياب الدورق عن عدم الحاجة للوجود على سور الشرفة حين يختفي الأب، والثاني تجريد الأم من سلاح خيانتها "الدورق المنتصب" كي لا تستطيع استخدامه في غياب الأب .. هكذا يمكن لانتصاب الدورق الفارغ في الذاكرة أن يكون علامة لاسترداد الأب بمعزل عن الأم، ومن ثمّ يمكنه أن يواصل خلق أحلام هذه الابنة مع كل أب آخر.
"أوشوش لأبي بما يجهل، صارت أذناه شمعًا أحمر، تضخم فمه يحاول ابتلاعي، ينهرني بعصبية ونفاذ صبر، يبحث عن عصا يؤدبني بها، أحوم حوله بإصرار: تمهل يا أبي، أنا الأثيرة لديك، كيف تنكرني؟!".
تتخذ قصة "دموع الفراشة" المسار ذاته أثناء توجيه الخطاب الأنثوي / الطفولي بشكل مباشر إلى الأب مع استمرار المحاولة لإنقاذه من "الغفلة"، والتي تتجسّد هذه المرة في صورة صمم يمنع هذا الأب من الإنصات إلى الألم السري لطفلته .. الطفلة التي تريد من أبيها تحديدًا أن يساعدها على النجاة التي لا تقتصر على فرديتها بل تلك النجاة المشتركة التي يمكن أن تتسم بنوع من التواطؤ بين الأب وابنته ..التواطؤ القادر على تضليل الأم والإخوة، وبناء مخبأ غامض تجد فيه الأبوة المحررة والبنوّة الأنثوية نشوتهما المتوحّدة .. حيث يمكن لجسدين متباعدين أن يمتزجا خارج سلطة العائلة .. لكن سعاد سليمان لا تترك هذا "الحلم" دون علامات تفكيكه .. المعاول الاستفهامية التي تحفر في الصلابة الأبوية اللامبالية، الراسخة في الاتجاه المضاد .. لهذا فالذي يكتب الخطاب الأنثوي هنا هو تلك التساؤلات حول إنكار الأب للانتهاك الذي يحاصر ابنته .. عدم الإنصات لها .. عدم فهم رسائلها المتوارية .. القهر في استجابته لوشوشتها عن الألم .. هذه الاستفهامات لا تخص الطفلة وحدها بل تتعلق بالأب أيضًا .. باستسلامه للخصاء .. للموت الذي يؤجّل تحرير "الأبوة"، وبالتالي يقف ضد اكتشاف هذه الأبوة للحلم الأنثوي .. الحلم الذي تحوّل عند الطفلة إلى كابوس مبهم لا يمكن معه أن تميّز البول الناجم عن خوفها رغم الاختباء في ملابس أبيها عن دموع الفقد.
"لم يشفع شرحه الوافي الذي يؤكده بفخر لا يروق لهن، إن شظية استهدفته في حرب لم نكد نخوضها، عاد بعين زجاجية أقصى ما قُدم له حتى لا تصير بقعة مجوفة تثير الأسى، يرحلن بكثير من الشفقة ومشاعر الأسى وأمنيات طيبة بالسعادة مع أخرى، يتجاوز غيظه وسخريته من سطحيتهن، هل يعيبه نصف العمى وهو المقاتل بغير سلاح؟".
تتكرر محاولة الإنقاذ الأنثوي للأب في قصة "عين زجاجية لرجل وسيم"، حيث تتخذ غفلته شكل العماء المجسّد في عين زجاجية لرجل اكتسب أبوته المجازية من الحرب التي أفقدته إحدى عينيه .. الراقصة "ياسمين" التي منحها عشقها للعائد من "النكسة" طبيعة الابنة التي تحلم بتخليص الوسيم صاحب العين الزجاجية من رفض بنات الحي له، وتنبيهه إلى الفخورة المحبة التي لا يستطيع رؤيتها إلا كشبح عابر .. التي تحلم بأن يخوض هذا الرجل "قتالًا حقيقيًا" ضد عمائه، يحرره من أثر حرب "لم نكد نخوضها"، الأمر الذي سيساهم في تحريره للأنثى / الراقصة "منقوصة الإنسانية" عند النساء، والشهية التي لا يمكن المجازفة بالزواج منها عند الرجال.
"كيف تملكين جسدًا يحمل كل هذه الوقاحة، أتوه فيه يا سيدتي، فهو دائمًا منفلت الشهوة، لا يعرف حد الاكتفاء، خارج مقاييس الالتزام، وأنا رجل مخدوع بتاج السيادة، أهكذا كل النساء؟ أم أنتِ فقط من تحترف الشراهة؟".
يتقمص الخطاب الأنثوي في قصة "قلب موشوم على قدم" صوت الرجل كي يمرر جوهره الشبقي من خلال هذا الصوت .. كأن صوت الرجل هذا هو محاولة تفسير عدم إنصات الأب لابنته  في قصة "دموع الفراشة" .. لا تحتجب الشهوة الأنثوية هنا وراء انشغال بأب غافل أو حبيب نصف أعمى، وإنما تعلن عن نفسها بشكل مباشر ومراوغ في الوقت ذاته من خلال العجز الذكوري عن مجابهة الشبق الأنثوي الذي يصفه الرجل بالوحشية .. لا يبدو أن الرجل هو الذي يتكلم بقدر الأنثى التي تتقمصه .. هذا التقمّص المخادع لا يمنح الحرية للأنثى ـ في المجموعة ككل ـ للإعلان عن شبقها فحسب، وإنما يمنح الحرية للرجل / الأب أن يفضح سر خصائه أيضًا .. عدم القدرة على مواجهة النهم الأنثوي .. يفضح الجدران اللغوية التي يستعملها الرجل في الاختباء من الرغبة الجامحة للأنثى: الوقاحة ـ عدم الكفاية ـ الخروج عن مقاييس الالتزام .. لذا فالرجل الكسيح بفعل الشهوة الأنثوية العاتية لا يتحدث عن نفسه فقط، وإنما عن "الرجل / الأب" في ذاته، مثلما لا يخاطب أنثى محددة، وإنما "الأنثى / الابنة" في ذاتها التي لا يستطيع مفارقتها، وفي الوقت نفسه يكره "توحشها في التهامه".
ربما يشعر قارئ "شال أحمر يحمل خطيئة" أن سعاد سليمان تتحرك داخل ما يمكن أن يعد إرثًا هائلًا من الثوابت الحاكمة للعلاقات بأشكالها المتباينة، ولكن علينا مراقبة كيف تفكر قصصها في الطريقة التي تكوّن بها هذه العلاقات نماذج بشرية لا تستطيع الهروب من تصديق "تاريخيتها" .. لا تضع سعاد سليمان هذا التاريخ كوجه واحد متعدد التفاصيل، وإنما كـ "خطايا" ملتبسة، لا تتوقف عن تشكيل ملامح الموت في وجوهنا .. لذا فإننا بطريقة ما يمكننا العثور على هذه الرغبة الأنثوية "الأمومية" لدى الابنة في إنقاذ الأب داخل حتى ما يبدو فارغًا منها أو يُظهر تنافرًا أو تناقضًا معها .. هناك دائمًا إلكترا التي ربما لا تريد دائمًا أن تقتل كليتمنيسترا بقدر ما تريد إنقاذ أجاممنون من أوهامه الأبوية كي لا تبقى عالقة في كابوسها للأبد.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 4 نوفمبر 2018