الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

ممدوح رزق: تذكر الماضي ليس الماضي نفسه

"ممدوح رزق"، انتبه له جيدًا، إذا كُنت في تجمع ما، وبدأت في سرد حكاية، أو موقف مُختلف، أو أمر مغاير غير عادي قد مررت به، فستجده يُدير كُرسيه، ويلتفت إليك كُليًا، الحكاية استحوذته، وبالتالي يُوجه دفة عقله وتفكيره ناحيتك، وعند هذه اللحظة، عليك أن تعرف معرفة مؤكدة أنّه عمل على تفعيل المُخبر السري داخله، ليلتقط من حديثك ما شرد، يُخبيء ما أفضيت به، يسألك عن أدق التفاصيل، عن شكل المكان، الزمان، الأشخاص، يعمل على تجميع أرشيف لك أنت شخصيًا، بالطريقة التي تتحدث بها، باللكنة والتأكيد على بعض مخارج الحُروف، كانسًا كُل ذلك ومُحتويه داخل طبقات ذاكرته ليستخدمها في وقت ما، بل عليك التيقين من أنّه سيستغلها داخل أي نصالحياة بالنسبة له هي الحكاية، ومن الحكاوي المدفونة والمُتكونة عبر التقاطعات الزمانية ينشأ سرده.
قام العمود الفقري للنص عبر الإتكاء على عنصر الذاكرة، وكيفية تكونّها خلال شريحة الزمن. فما هو تعريفك الشخصي للذاكرة؟
أفكر في الذاكرة باعتبار أن تذكر الماضي ليس الماضي نفسه، وأن تدوينه يحوّل التذكّر إلى خسارة للتذكّر، أي أنها هزائم مضاعفة مهما كانت قوة الثقة لمشاعرنا أو لقراراتنا اللغوية تجاه الذكريات
.
 ميت حدر منطقة الطفل داخل النص،هي نفس المنطقة التي سكنتها في طفولتك. فهل يحكي الطفل التقاطعات الزمانية والمكانية بينه وبين الطفل ممدوح رزق؟
نعم، يحاول طفل الرواية أن يحكي ما يعتقد أنه التاريخ الواقعي لطفل الثمانينيات داخل هذا المكان، وهذا ما قد يجعل الرواية متطابقة مع ما حدث فعلًا، أو مختلفة ـ كخيال صادق ومجسّد ـ عن ماضي الطفل المسرود عنه.
اتجه بعض القُراء إلى اعتبار: فراش المدرسة، المعلمات، الخبّاز، بائع المخدرات، وغيرهم، إلى كونهم أشخاص موجودين  بالعفل وحتى الآن. هل هذا صحيح؟
جميع شخصيات الرواية حقيقية، ومعظمهم لا يزال على قيد الحياة.
إذَا، هذا قد يدفع البعض إلى التفكير في إشكالية شهيرة، وهي عدم أخلاقية الكِتابة عن أحدهم ولايزال على قيد الحياة؟
الرواية من ضمن ما تقوم عليه هو التوثيق الحرفي التام لكل ما يتم تذكره، أو ما يبدو أن هناك نجاحًا في استرجاعه ـ وسرده مهما كان، وليس هناك أي محظور أخلاقي يمكنه أن يعطل استجابتي العفوية لما تتطلبه وتقتضيه الكتابة.
انتهي كُل فصل بتجميعة كبيرة تضم تذكير بـ: إعلانات، أغاني، صور، كُتب، مجلات، حكاوي وغيره عن طفولة فترة الثمانينات. هل يُمكن القول بأنّ هذا كان بمثابة الموسيقى التصويرية للرواية؟
هذا تعبير واع وملائم بالفعل .. هي ظلال لروح الطفل أو هويته الباطنية التي تضيء طبيعة وجوده داخل كل فصل، وأيضًا رسائل توثيقية إلى الذين تنتمي طفولتهم لحقبة الثمانينيات، كما تمثل كذلك شفرات لـ "الحادث الأليم" في الفصل الأخير من الرواية.
يذكر الناقد روبرت همفري أن تيار الوعي يعمل على إبراز الجوانب الذهنية للشخصية، أما المنولوج الداخلي المباشر فيه استرسال وعدم اهتمام المؤلف بالقاريء. و"إثر حادث أليم" تقف في منقطة وسطى  وفاصلة بين هذا وذاك.
نعم، الرواية يقودها هذا الصوت الجوّاني، بتمثيلاته السردية المختلفة، حيث ينعكس وعيه المتعدد بالذكريات، وعواطفه تجاه ما يستدعيه، وطريقة تدوينه للماضي على طبيعة هذا الصوت .. حرصت بشكل كامل على توثيق ما أردت له أن يظل موجودًا في العالم بواسطتي، أو أن يبقى من خلال أثر سأتركه .. تعمدت أن أنقل طفولتي أو جزءًا منها بكل الأوصاف والسمات والخصائص التي كانت لشخصياتها وأحداثها وأشيائها من الخفاء إلى الوضوح الساطع، وبدقة متناهية خصوصًا كل ما يبدو صغيرًا وبسيطًا وعابرًا وهامشيًا أو لا يمثل ظاهريًا أكثر من نفسه.
يذكر البطل قُرب النهاية أنّه يكتب كمحاولة لعدم التذكر، أو على حد تعبيره" لعدم ترويض الذاكرة". فكيف يٌمكن ذلك؟ وهل هو أمر من المستطاع تحقيقه؟
الماضي يُذكّر كاتب المذكرات في كل لحظة أن كلماته لا تمثّل الحقيقة كما كانت تمامًا، وهذا ما يدفعه أحيانًا للاعتقاد بأن إصراره على التذكر والكتابة هو نوع من محو الذاكرة طالما أن كل ما يرتكبه يساهم في إبعاده عن نقائها الخالص، وبالتالي وكما جاء في الرواية، يبدو كل استرجاع كأنه فقدان للماضي كما كان حقًا، ولأن الكتابة معادية للتذكر القاصر والمخذول أصلاً، فهي تضمن أن يبقى الماضي مُغيّبا، غير خاضع لسلطة الحاضر، أي غير مروّض، ولا يعلن لصاحبه عن هذا الوجود المقصي، الحصين والمتمنّع إلا بواسطة ما لا يمكن تذكره أو تدوينه، أي عبر الإشارات الذهنية الخاطفة، كما جاء في الرواية أيضًا، التي تمحو العالم بشكل مباغت وتعيدك بدهاء إلى طفولتك للحظة غير مكتملة، تتلاشى على الفور، كأنّ الموت نفسه هو الذي يفعل ذلك
.
تكتسب النهاية نوع من الغموض، فالفصل الأخير يُمكن اقتطاعه من السياق واعتباره قصة ترتسم بطابع السوريالية الوحشية. ويُمكن الربط بينه وبين السياق  من خلال نعي جريدة الأهرام في المقدمة وكذلك  عنوان الفصل نفسه (لغز كاتب المسرح) ، فإلى أي مدى يُمكن اعتبار الغموض مقصود؟
بالطبع لا أستطيع أن أتحدث، الآن على الأقل ـ بشكل تفسيري عن ما يبدو غموضًا في الفصل الأخير، ولكن يُفترض أن “لغز كاتب المسرح” مبني على ما أعتقد أنها استفهامات أساسية للرواية: من هو الابن؟ .. من هو الأب؟ .. لماذا يستعير الأب الذي هو بالتأكيد على قيد الحياة ابنًا وهميًا لينشر مذكرات طفولته؟ .. هل الأب هو كاتب المسرح نفسه؟ .. ما هو الحادث الأليم؟ .. هل ما جرى في اليوم السابق لهذا الحادث كان كابوسًا وصلت فيه رغبة طفولية قديمة إلى هلاكها حينما حاولت أن تتحقق؟ .. هل وقع الحادث كنبوءة لكاتب المسرح أم لحقبة الثمانينيات؟ .. هو بالفعل لغز لا يمكن حله مهما كانت الإجابة على هذه التساؤلات.
 إلى أي مدى اختلفت معالم المنصورة في الثمانينيات عمّا هي عليه الآن؟
اختلفت كثيرًا جدًا .. وما بقي كما هو ـ أو ما أظنه كذلك ـ  غابت "العيون الثمانينية" التي كانت تبصره.
"إثر حادث أليم" رواية تحكي عن منصورة الثمانينات؟ عن الطفولة وقتها عامة؟ أم ..؟
عن الطفل أو “المسرود عنه” بواسطة الرجل الذي صار إليه، والذي يُشهر مذكراته في وجه هذه التساؤلات التي كرّست لجحيمه الشخصي: ما الذي حدث؟، ما الذي لم يحدث؟، لماذا جرت الأمور هكذا؟، هل هناك نهاية أخرى؟، هل ستحدث معجزة ما قبل أن يأتي دوره في الفناء؟ .. المذكرات التي تتضمن ما تعتقد طفولة شخصية أنها تعرفه من الفضاءات المكانية التي اختبرتها داخل المدينة في ذلك الزمن.
تكتب في النقد والرواية والقصة والشعر والمسرح والنصوص الغير مقيدة بتصنيف معين. فأي هذه المجالات هي الأقرب إليك؟
القصة القصيرة بالتأكيد.
 ما هو جديدك القادم؟
نوفيلا "جرثومة بو" .. مجموعة قصصية جديدة .. كتاب نقدي عن فلسفة السرد عند جورج باتاي.
حوار: أحمد أبو الخير.
جريدة "القاهرة" ـ الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018