الاثنين، 23 أبريل 2018

الذكرى السرية لبول شيلدون وإيني ويكلس


أعادتني أمي إلى بيت العائلة .. لا أدري لماذا، أو كيف، لكنني أدركت أنها لن تسمح لي بمغادرته أيضًا .. لم أستطع أن أسألها عما حدث؛ كانت عيناها المرتخيتين بوهن مستسلم تقولان أنها لن تخبرني بأي شيء .. أصبحت أنا وهي نعيش وحدنا في البيت الذي عرفت أنه سيظل مظلمًا طوال الوقت، وأن الليل خارج نوافذه الموصدة بإحكام لن يخمد أبدًا .. مثلما كنا دائمًا منذ زمن بعيد؛ لم نتبادل سوى أقل الكلمات الضرورية، التي تُسيّر الحياة، لكنها لا تكشف أسرارها بل تضمن بقاءها في طي الكتمان .. كانت تؤدي كما تعوّدت في الماضي جميع المهام المنزلية في صمت منهك، ولم تقصّر مطلقًا في توفير العناية الأمومية التقليدية لي، وبشكل ـ كالمعتاد ـ مجرّد من العاطفة المعلنة .. كانت الرهبة الوحشية للغموض تتزايد مع التفكير في الأسباب المبهمة التي جعلت أمي ليست في حاجة للخروج من البيت أو حتى للنظر خارجه، بالإضافة إلى الدوافع التي جعلت الآخرين في الخارج والذين أسمع أصواتهم بوضوح لا يرغبون في طرق الباب الذي تحتفظ بمفتاحه ولو مرة واحدة .. كان من البديهي أن أحاول الهرب، ومع ذلك لم أقدم على تحقيق هذه الضرورة .. كنت أعلم تمامًا أنها ستنجح في منعي .. لم أكن مريضًا أو مصابًا، وإنما كنت رجلا سليمًا في الأربعين، ولكنني استوعبت كيقين عفوي، لا يحتاج لأدلة منطقية أن هذه العجوز المريضة التي تجاوزت السبعين ستمتلك ـ بكيفية مجهولة ـ من القوة الاستثنائية المفاجئة ما يكفي لإجهاض محاولاتي عند ظهور أي بادرة لها .. لم أحاول استغلال نومها كي أجرّب فتح النوافذ، أو الوصول إلى مفتاح البيت، وبالتأكيد لم أحاول الصراخ .. لم يكن معي هاتفي المحمول، أما تليفون البيت فكان من السهل استنتاج أن الحرارة قد فُصلت عنه، وبالطبع لم تكن أمي تمتلك هاتفًا .. سمحت لي بالكتابة حينما طلبت منها ذلك، ولكن كان شرطها الوحيد أن أكتب رواية تحوّل الماضي إلى حياة تعويضية شاملة، مصححة بدقة، من الجمال المثالي .. كانت تريدني أن أكتب شيئًا مناقضًا تمامًا لما تعرف أنني أكتبه دائمًا: لا أحداث واقعية سيئة .. لا تجرّؤ على القدر .. لا تخيلات شيطانية أو كلمات بذيئة .. أحضرت لي رزمة كبيرة من الصفحات البيضاء كانت تحتفظ بها بالإضافة إلى الأقلام، كما سمحت لي أيضًا أن أضيء حجرة مكتبي القديمة كي أتمكن من الكتابة .. أصبحت هذه الحجرة هي المكان الوحيد الذي ينبعث منه النور داخل البيت .. كانت تستجيب بمنتهى الطاعة الطفولية والرجاء المترقب لرفضي الصارم إطلاعها على ما أكتبه، أو حتى على فكرة مختصرة للرواية التي أجبرتها على الانتظار حتى انتهائي منها .. كانت مساحة اللغة اليومية بيننا تتسع مع تنامي شعورها بالسعادة وهي تتابع الامتلاء المتواصل للصفحات البيضاء بالعبارات البعيدة عن متناولها .. عدا المزحة الاعترافية بأن خطي أصبح لطفل في العاشرة بعد سنوات طويلة من عدم استعمال الورقة والقلم، واستخدام اللابتوب الذي سُجنت بدونه؛ عدا ذلك ظلت الكلمات بيني وبين أمي ـ رغم تزايدها ـ مقتصرة على ما هو لازم فحسب، لا تقترب مما حدث قبل أن تُعيدني إلى البيت، ولا تناوش أي مصير محتمل لهذا الاحتجاز الملغز .. لم أرغب في خسارة هذا التغيير بمحاولة إدراجه ضمن صفقة تقترح على أمي إطلاق سراحي مقابل إنجاز الرواية التي ترغبها .. كان لدي تأكدًا تامًا من أنها لن تُنهي هذا الاعتقال مهما أنجزت من كتابات مرضية؛ لذا كان ينبغي أن أحافظ على غنيمة الأوراق والأقلام التي منحتها لي .. بعد وقت طويل أدركت أن ما كتبته طوال الفترة الماضية يفرض عدم بقائي في بيت العائلة لحظة أخرى .. كان يتعيّن عليّ الخروج بهذه الأوراق في أسرع وقت ممكن .. غادرت حجرة مكتبي المضاءة بالنيون الأبيض إلى الصالة المظلمة فوجدت أمي تقف بانتظاري، وتتمعّن في وجهي بنظرة تؤكد معرفتها بحقيقة ما كتبته، والذي كان معاديًا كليًا لما أرادته، وبأنني قررت أن أتركها الآن .. أمسكت كتفيّ بيدين صلبتين، وتجاعيدها الذابلة تصرخ بغضب عارم دون أن تنفرج شفتاها الصغيرتين .. تملصت منها بصعوبة بالغة ثم جريت إلى الداخل بعيدًا عن باب البيت الذي كانت تحول بيني وبينه .. أسرعت خلفي ولحقت بي ثم دفعتني نحو الجدار بقبضتيها المغتلتين وأمسكت برزمة الأوراق التي أحملها محاولة أخذها من بين يديّ اللتين تتشبثان بها .. استجمعت كل ما لدي من طاقة لانتزاع الأوراق بعدما شعرت أنها قاربت الحصول عليها .. أعدت الرزمة إلى ما بين ذراعي وصدري عنوة ليختل توازن أمي بشكل بسيط، وتسقط بإحدى ركبتيها على الأرض بعدما أصبحت تقبض على الفراغ؛ فانتهزت ذلك وأسرعت نحو باب البيت الذي اكتشفت عندما أدرت مقبضه بيأس أنه لم يكن مغلقًا بالمفتاح مثلمًا تصورت دائمًا .. أدرت عينيّ نحو أمي التي استردت توازنها فورًا، وعاودت الاندفاع خلفي وقد تحوّل الغضب في وجهها إلى شراسة صامتة .. نزلت السلالم جريًا حتى وصلت إلى الشارع، وحينما شعرت أنني أصبحت أمتلك مع المخطوط الذي أحتضنه بين يديّ حريتنا أخيرًا؛ قررت الوقوف داخل سكون الشارع المعتم إلا من أنوار متباعدة غاية في الشحوب انتظارًا لرؤية أمي .. كان يجب أن أطمئن عليها، وحينئذ سيمكنني مواصلة الهروب دون أن تلحق بي .. ظللت واقفًا في انتظار ظهورها، لكنها لم تخرج .. اقتربت بحذر من بوابة البيت متطلعًا إلى السلالم فوجدتها خالية .. رفعت رأسي إلى الشرفة عسى أن أجدها لكنها لم تكن هناك ..  فجأة عرفت أن أمي لن تظهر أمامي مطلقًا؛ فهي لم تعد هناك .. عرفت أنني حينما غادرت البيت الآن فإنها قد غادرته أيضًا، وأنني حينما أخطو مبتعدًا عن هذا الشارع ومعي هذه الأوراق فإنها ستتحرك في نفس الاتجاه دون أن أراها.